الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث
الوجه الثالث: أن يقال: جميع ما ذكرتموه من أقوال الأنبياء أنها تدل علي مثل قولكم فلا دلالة في شيء منها، من وجوه متعددة، وذلك معلوم يقناً، بل فيها ما يدل علي نقيض قولكم، وهو مذهب أهل الإثبات، وهكذا عامة ما يحتج به أهل الباطل من الحجج، لا سيما السمعية، فإنها إنما تدل علي نقيض قولهم.
نقض الاستدلال بقصة إبراهيم عليه السلام
وأما قصة إبراهيم الخليل عليه السلام فقد علم باتفاق أهل اللغة والمفسرين أن الأفول ليس هو الحركة، سواء كانت حركة مكانية، وهو الانتقال، أو حركة في الكم كالنمو، أو في الكيف كالتسود والتبيض، ولا هو التغير، فلا يسمى في اللغة كل متحرك أو متغير آفلاً، ولا أنه أفل، لا يقال للمصلي أو الماشي إنه آفل، ولا يقال للتغير الذي هو استحالة، كالمرض واصفرار الشمس: إنه أفول، لا يقال للشمس إذا اصفرت: إنها أفلت، وإنما يقال أفلت إذا غابت واحتجبت، وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب: أن آفلاً بمعني غائب، وقد أفلت الشمس تأفل وتأفل أفولاً: أي غابت.
ومما يبين هذا أن الله ذكر عن الخليل أنه لما {رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 76-79] .
ومعلوم أنه لما بزغ القمر والشمس كان في بزوغه متحركاً، وهو الذي يسمونه تغيراً، فلو كان قد استدل بالحركة المسماة تغيراً لكان قد قال ذلك من حين رآه بازغاً، وليس مراد الخليل بقوله: هذا ربي رب العالمين، ولا أن هذا هو القديم الأزلي الواجب الوجود، الذي كل ما سواه محدث ممكن مخلوق له، ولا كان قومه يعتقدون هذا حتى يدلهم علي فساده، ولا اعتقد هذا أحد يعرف قوله، بل قومه كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأصنام، ويقرون بالصانع.
ولهذا قال الخليل {أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 75-77] وقال {إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} [الزخرف: 26-28] فذكر لهم ما كانوا يفعلونه من اتخاذ الكواكب والشمس والقمر رباً يعبدونه ويتقربون إليه، كما هو عادة عباد الكواكب ومن يطلب تسخير روحانية الكواكب، وهذا مذهب مشهور، مازال
عليه طوائف من المشركين إلي اليوم، وهو الذي صنف فيه الرازي السر المكتوم وغيره من المصنفات.
فإن قال المنازعون: بل الخليل إنما أراد أن هذا رب العلمين.
قيل: فيكون إقرار الخليل حجة علي فساد قولكم، لأنه حينئذ يكون مقراً بأن رب العالمين قد يكون متحيزاً متنقلاً من مكان إلي مكان، متغيراً، وإنه لم يجعل هذه الحوادث تنافي وجوده، وإنما جعل المنافي لذلك أفوله، وهو مغيبه، فتبين أن قصة الخليل إلي أن تكون حجة عليهم أقرب من أن تكون حجة لهم، ولا حجة لهم فيها بوجه من الوجوه.
وأفسد من ذلك قول من جعل الأفول بمعني الإمكان، وجعل كل ما سوي الله آفلاً، بمعني كونه قديماً أزلياً، حتى جعل السماوات والأرض والجبال والشمس والقمر والكواكب لم تزل ولا تزال آفلة، وأن أفولها وصف لازم لها، إذ هو كونها ممكنة، والإمكان لازم لها، فهذا مع كونه افتراء علي اللغة والقرآن افتراء ظاهراً يعرفه كل أحد، كما افتري غير ذلك من تسمية القديم الأزلي محدثاً، وتسميته مصنوعاً ـ فقصة الخليل حجة عليه، فإنه لما رأي القمر بازغاً قال هذا ربي ولما رأي الشمس بازغة قال هذا ربي
فلما أفلت قال: لا أحب الآفلين فتبين أنه أفل بعد أن لم يكن آفلاً، فكون الشمس والقمر والكواكب وكل ما سوي الله ممكنا هو وصف لازم له، لا يحدث له بعد أن لم يكن.
وهم يقولون: إمكانه له من ذاته، ووجوده من غيره، بناء علي تفريقهم في الخارج بين وجود الشيء وذاته، فالإمكان عندهم أولي بذاته من الوجود، ولو قال: فلما وجدت أو خلقت أو أبدعت قال: لا أحب الموجوديين والمخلوفين، كان هذا قبيحاً متناقصاً، إذ لم يزل كذلك، فكيف إذا قال: فلما صارت ممكنة، وهى لم تزل ممكنة.
وأيضاً فهي من حين بزغت وإلي أن أفلت ممكنة بذاتها تقبل الوجود والعدم، مع كونها عندهم قديمة أزلية يمنتع عدمها، وحينئذ يكون كونها متحركة ليس بدليل عند إبراهيم علي مونها ممكنة تقبل الوجود والعدم.
وأما قول القائل: كل متحرك محدث، أن كل متحرك ممكن يقبل الوجود والعدم فهذه المقدمة ليست ضرورية فطرية بإتفاق العقلاء، بل من يدعي صحة ذلك يقول: إنها لا تعلم إلا بالنظر الخفي، ومن ينازع في ذلك يقول: إنها باطلة عقلا وسمعا، ويمثل من مثل بها في أوائل العلوم الكلية لقصوره وعجزه، وهو نفسه يقدح فيها في عامة كتبه.
وأما قوله: كل متغير محدث أو ممكن فإن أراد بالتغير ما يعرف من ذلك في اللغة، مثل استحالة الصحيح إلي المرض، والعادل إلي الظلم، والصديق إلي العداوة، فإنه يحتاج في إثبات هذه الكلية إلي دليل.
وإن أراد بالتغير معني الحركة، أو قيام الحوادث مطلقاً ن حتى تسمي الكواكب حين بزوغها متغيرة،