الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثال: الكلام على الرؤية
والمقصود هنا أن نفاة الرؤية ـ من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ـ إذا قالوا: إثباتها يستلزم أن يكون الله جسماً، وذلك منتف، وادعوا أن العقل دل على المقدمتين، احتيج حينئذ إلى بيان بطلان المقدمتين، أو إحداهما، فإما أن يبطل نفس التلازم أونفي اللازم، أو المقدمتان جميعاً.
وهنا افترقت طرق مثبتة الرؤية: فطائفة نازعت في الأولى، كالأشعري وأمثاله ـ وهو الذي حكاه الأشعري عن أهل الحديث وأصحاب السنة، وقالوا: لا نسلم أن كل مرئي يجب أن يكون جسماً.
فقالت النفاة: لأن كل مرئي في جهة، وما كان في جهة فهو جسم، فافترقت نفاة الجسم على قولين: طائفة قالت: لا نسلم أن كل مرئي يكون في جهة، وطائفة قالت: لا نسلم أن كل ما كان في جهة فهو جسم.
فادعت نفاة الرؤية أن العلم الضروري حاصل بالمقدمتين، وأن المنازع فيهما مكابر.
وهذا هو البحث المشهور بين المعتزلة والأشعرية، فلهذا صار الحذاق من متأخري الأشعرية على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة، فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسروها بما تفسرها به المعتزلة، وقالوا: المزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي.
وطائفة نازعت في المقدمة الثانية ـ وهي أنتفاء اللازم ـ وهي كالهشامية والكرامية وغيرهم، فأخذت المعتزلة وموافقوهم يشنعون على هؤلاء، وهؤلاء وإن كان في قولهم بدعة وخطأ، ففي قول المعتزلة من البدعة والخطأ أكثر مما في قولهم.
ومن أراد أن يماظر مناظرة شرعية بالعقل الصريح فلا يلتزم لفظاً بدعياً، ولا يخالف دليلاً عقليا ولا شرعياً، فإنه يسلك طريق أهل السنة والحديث والأئمة الذين لا يوافقون على إطلاق الإثبات ولا النفي بل يقولون: ما تعنون بقولكم: إن كل مرئي جسم؟.
فإن فسروا ذلك بان كل مرئي يجب أن يكون قد ركبه مركب، أو أن يكون كان متفرقاً فاجتمع، أو أنه يمكن تفريقه، ونحو ذلك، منعوا هم المقدمة الأولى، وقالوا: هذه السماوات مرئية مشهودة، ونحن لا نعلم أنها كانت متفرقة مجتمعة، وإذا جاز أن يرى ما يقبل التفريق فما لا يقبله أولى بإمكان رؤيته، فالله تعالى أحق بأن تمكن رؤيته من السماوات ومن كل قائم بنفسه، فإن المقتضى للرؤية لا يجوز أن يكون أمراً عدمياً، بل لا يكون إلا وجودياً، وكلما كان الوجود أكمل كانت الرؤية أجوز، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وإن قالوا: مرادنا بالجسم المركب أنه مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة نازعوهم في هذا، وقالوا: دعوى كون السماوات مركبة من جواهر منفردة، أو من مادة وصورة دعوى ممنوعة أو باطلة، وبينوا فساد قول من يدعي هذا، وقول من يثبت الجوهر الفرد أو يثبت المادة والصورة، وقالوا: إن الله خلق هذا الجسم المشهود هكذا، وإن ركبه ركبه من أجسام أخري وهو سبحانه يخلق الجسم من الجسم، كما يخلق الإنسان من الماء المهين، وقد ركبت العظام في مواضعها من بدن ابن آدم، وركب الكواكب في السماء، فهذا
معروف.
وأما أن يقال إنه خلق أجزاء لطيفة لا تقبل الانقسام ثم ركب منها العالم فهذا لا يعلم بعقل ولا سمع، بل هو باطل، لأن كل جزء لا بد أن يتميز منه جانب عن جانب، والأجزاء المتصاغرة كأجزاء الماء تستحيل عند تصغرها، كما يستحيل الماء إلى الهواء، مع أن المستحيل يتميز بعضه عن بعض.
وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع، وبين أن الأدلة العقلية بينت جواز الرؤية وإمكانها، وليست العمدة على دليل الأشعري ومن وافقه في الاستدلال لأن المصحح للرؤية مطلق الوجود، بل ذكرت أدلة عقلية دائرة بين النفي والإثبات لا حيلة لنفاة الرؤية فيها.
والمقصود هنا بيان كلام كلي في جنس ما تعارض به نصوص الإثبات من كلام النفاة الذي يسمونه عقليات.
وإن قالوا: مرادنا أن المرئي لا بد أن كون معايناً تجاه الرائي، وما كان كذلك فهو جسمونحو هذا الكلام، قالوا لهم: الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر» ، وقال:«هل تضامون في رؤية الشمس صحواً ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضامون في رؤية القمر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر» .
وهذا تشبيه للرؤية، لا للمرئي بالمرئي، وفي لفظ في الصحيح:«إنكم ترون ربكم عياناً» فإذن قد أخبرنا أنا نراه عياناً.
وقد أخبرنا أيضاً أنه قد: استوى على العرش فهذه النصوص يصدق بعضها بعضاً، والعقل أيضاً يوافقها، ويدل على أنه سبحانه مباين لمخلوقاته فوق سماواته، وأن وجود موجود لا مباين للعالم ولا مجانس له محال في بديهة العقل، فإذا كانت الرؤية مستلزمة لهذه المعاني فهذا حق، وإذا سميتم انتم هذا قولاً بالجهة وقولاً بالتجسيم لم يكن هذا القول نافياً لما علم بالشرع والعقل، إذ كان معنى هذا القول ـ والحال هذه ـ ليس منتفياً لا بشرع ولا عقل.
ويقال لهم: ما تعنون بأن هذا إثبات للجهة والجهة ممتنعة؟ أتعنون بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟
فإن أردتم أمرا وجودياً ـ وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والله فوق سماواته بائن من مخلوقاته، لم يكن ـ والحالة هذه ـ في جهة موجودة، فقولكم: إن المرئي لا بد أن يكون في جهة موجودة قول باطل، فإن سطح العالم مرئي، وليس هو في عالم آخر.
وإن فسرتم الجهة بأمر عدمي كما تقولون: إن الجسم في حيز، ولاحيز تقدير مكان، وتجعلون ما وراء العالم حيزاً.
فيقال لكم: الجهة ـ والحيز ـ إذا كان أمراً عدمياً فهو لا شيء، وما كان في جهة عدمية أو حيز عدمي، فليس هو في شيء، ولا فرق بين قول القائل: هذا ليس في شيء وبين قوله: هو في العدم أو أمر عدمي فإذا كان