الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملخص الرد على حجة التأثير
وملخص ذلك في حجة التأثير، الذي يسمى الخلق والإبداع، والتكوين والإيجاب، والاقتضاء والعلية، والمؤثرية، ونحو ذلك ـ أن يقال: التأثير في الحوادث: إما أن يكون وجودياً أو عدمياً، وإذا كان وجودياً: فإما إن يكون قديماً أو حادثاً، وعلى كل تقدير فحجة الفلاسفة باطلة.
أما إن كان عدمياً فظاهر، لأنه لا يستلزم حينئذ قدم الأثر، إذ العدم لا يستلزم شيئاً موجوداً، ولأنه إذ جاز أن يفعل الفاعل للمحدثات بعد أن لم يفعلها من غير تأثير وجودي أمكن حدوث العالم بلا تأثير وجودي، كما هو قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وكثير من المعتزلة.
وإن كان وجودياً فإما أن يكون قديماً أو محدثاً، فإن كان التأثير قديماً فإما أن يقال بوجوب كون الأثر متصلاً بالتأثير، والمكون متصلاً بالتكوين، وإما أن لا يقال بوجوب ذلك، وإما أن يقال بوجوب المقارنة، وإما أن يقال بإمكان انفصال الأثر عن التأثير.
فإن قيل بوجوب ذلك فمعلوم حينئذ بالضرورة أن في العالم حوادث، فيمتنع أن يكون التأثير في كل منها قديماً، بل لا بد من تأثيرات حادثة، ويمتنع حينئذ أن يكون في العالم قديم، لأن الأثر إنما يكون عقب التأثير، والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره.
وإن قيل: إن الأثر يقارن المؤثر فيكون زمانهما واحداً لزم أن لا يكون في العالم شيء حادث، وهو خلاف المشاهدة.
فإذا قيل بأن: التأثير لم يزل في شيء بعد شيء كان كل من الآثار حادثاً، ولزم حدوث كل ما سوى الله، وإن كان كل حادث مسبوقاً بحادث.
وإن قيل: بل يتأخر الأثر عن التأثير القديم لزم إمكان حدوث الحوادث عن تأثير قديم، كما هو قول كثير من أهل النظر.
وهو قول من يقول بإثبات الصفات الفعلية لله تعالى، وهي صفة التخليق، ويقول: إنها قديمة، وهو قول طوائف من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، والصوفية، وأهل الكلام، وغيرهم.
وإن كان التأثير محدثاً فلا بد له من محدث، فإن قيل بجواز حدوث الحوادث بإرادة قديمة، أو إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح: جاز أن يحدث التأثير قائماً بالمؤثر بقدرته، أو بقدرته ومشيئته القديمة، كما يجوز من يجوز وجود المخلوقات البائنة عنه بمجرد قدرته، أو لمجرد قدرته ومشيئته القديمة.
وإن قيل: لا يمكن حدوث الحوادث إلا بسبب حادث كان التأثير القائم بالمؤثر محدثاً، وإن كان التأثير محدثاً فلا بد له من محدث، وإحداث هذا التأثير تأثير، وحينئذ فيكون تسلسل التأثيرات ممكناً، وإذا كان ممكناً بطلت الحجة، فظهر بطلانها على كل تقدير.
وصاحب الأربعين وأمثاله من أهل الكلام إنما لم يجيبوا عنها بجواب قاطع، لأن من جملة مقدماتها أن التسلسل ممتنع، وهم يقولون بذلك، والمحتج بها لا يقول بامتناع التسلسل، فإن الدهرية يقولون بتسلسل الحوادث، فإذا أجيبوا
عنها بجواب مستقيم على كل قول، كأن خيراً من أن يجابوا عنها بجواب لا يقول به إلا بعض طوائف أهل النظر، وجمهور العقلاء يقولون: إنه معلوم الفساد بالضرورة.
وقد ذكر الرازي هذه الحجة في غير هذا الموضع، وذكر فيها أن القول بكون التأثر أمراً وجودياً أمر معلوم بالضرورية، ثم أخذ يجيب عن ذلك بمنع كونها وجودية، لئلا يلزم التسلسل.
ومن المعلوم أن المقدمات التي يقول المنازع إنها ضرورية لا يجاب عنها بأمر نظري، بل إن كان المدعي لكونها ضرورية أهل مذهب معين يمكن أنهم تواطأوا على ذلك القول، وتلقاه بعضهم عن بعض، أمكن فساد دعواهم، وتبين أنها ليست ضرورية، وإن كن مما تقر به الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا موافقة من بعضهم لبعض، كالموافقة التي تحصل في المقالات الموروثة، التي تقولها الطائفة تبعاً لكبيرها، لم يمكن دفع مثل هذه، فإنه لو دفعت الضروريات التي يقر بها أهل الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا تشاعر، لم يمكن إقامة الحجة على مبطل.
وهذا هو السفسطة التي لا يناظر أهلها إلا بالفعل، فكل من جحد القاضايا الضرورية المستقرة في عقول بني آدم، التي لم ينقلها بعضهم عن بعض، كان سوفسطائياً.
فإن ادعى المدعي أن التأثير أمر وجودي، وذلك معلوم بالضرورة، لم يقل له: بل هو عدمي، لئلا يلزم التسلسل، فإن التسلسل في الآثار فيه قولان مشهوران لمنظار المسلمين وغيرهم.
والقول بجوازه هو قول طوائف: كطائفة من المعتزلة يسمون أصحاب المعاني من أصحاب معمر بن عباد الذين يقولون: للخلق إلى ما لا نهاية له، لكن هؤلاء يثبتون تسلسلاً في آن واحد، وهو تسلسل في تمام التأثير، وهو باطل، وقول طوائف من أهل السنة والحديث، كالذين يقولون: إن الحركة من لوازم الحياة، وكل حي متحرك، والذين يقولون: إنه لم يزل متكلما إذا شاء، وغير هؤلاء.
فإذا كان فيه قولان، فإما أن يكون جائزاً، أو يكون العلم بامتناعه نظيراً خفياً.
بل الجواب القاطع يكون بوجوه قد بسطناها في غير الموضع.
منها ما ذكرناه، وهو أن يقال: التأثير سواء كان وجودياً أو عديماً، وسواء كان التسلسل ممكنا ًأو ممتنعاً، فاحتجاجهم به على قدم العالم احتجاج باطل.
أو يقال: إن كان التسلسل في الآثار ممكناً بطلت الحجة، لإمكان حدوثه بتأثير حادث، وإن لزم التسلسل.
وإن كان ممتنعاً لزم حدوث الحوادث بدون تسلسل التأثير، وهو يبطل الحجة، فالحجة باطلة على التقديرين، وهذا جواب مختصر جامع.
فإن الحجة مبناها على أنه لا بد للحوادث من تأثير وجودي، فإن كان محدثاً لزم التسلسل، وهو ممتنع، وإن كان قديماً لزم قدم الأثر.
فيقال له: إن كان التسلسل في الآثار ممكنا بطلت الحجة، لإمكان حدوثه عن تأثير حادث، وذلك عن تأثير حادث، وهلم جراً، وامتناع التسلسل مقدمة من مقدمات الدليل، فإذا بطلت مقدماته بطل، إن كان التسلسل ممتنعاً، لزم أن تكون الحوادث حدثت عن تأثير وجودي قديم، وحينئذ فيمكن حدوث العالم بدون تسلسل الحوادث عن تأثير قديم، وهو المطلوب.
وإن شئت أدخلت المقدمة الأولى في التقدير أيضاً، كما تقدم التنبيه عليه ن، حتى يظهر الجواب على كل تقدير، وعلى قول كل طائفة من نظار المسلمين، إذ كان منهم من يقول: التأثير في المحدثات وجودي قديم، ومنهم من يقول، هو أمر عدمي، ومنهم من يقول بتسلسل الآثار الحادثة.
والدهري بنى حجته عل أنه لا بد من تأثير وجودي قديم، وأنه حينئذ يلزم قدم الأثر.
فيجاب على كل تقدير، فيقال: التأثير إن كان عدمياً بطلت المقدمة الأولى، وجاز حدوث الحوادث بدون تأثير وجودي، وإن كان وجودياً ـ وتسلسل الحوادث ممكن ـ أمكن حدوثه بآثار متسلسلة، وبطل قولك بامتناع تسلسل الآثار، وإن كان تسلسل الآثار ممتنعاً لزم: إما التأثير القديم، وإما التأثير الحادث بالقدرة، أو بالقدرة والمشيئة القديمة، وحينئذ فالحوادث مشهودة، فتكون صادرة عن تأثير قديم أو حادث، وإذا جاز صدور الحوادث عن تأثير قديم أو حادث بطلت الحجة.
وأصل هذا الكلام: أنا نشهد حدوث الحوادث، فلا بد لها من محدث، هو المؤثر، وإحداثه هو التأثير، فالقول في إحداث هذه الحوادث والتأثير فيها، كالقول في إحداث العالم والتأثر فيه.
وهؤلاء الدهرية بنوا هذه الحجة على أنه لا بد من تأثير حادث، فيفتقر إلى تأثير حادث، كما بنوا الأولى على أنه لا بد من سبب حادث، فمأخذ الحجتين من مشكاة التسلسل في الآثار: القائلون بقدم العالم، والقائلون بحدوثه، كما يجوزه طوائف من أهل الملل، أو أكثر أهل الملل.
فإذا أجيبوا على التقديرين، وقيل لهم: إن كان التسلسل جائزاً بطلت هذه الحجة وتلك، وإن لم يكن جائزاً بطلت أيضاً هذه وتلك، كان هذا جواباً قاطعاً.
ولكن لفظ التسلسل فيه إجمال واشتباه، كما في لفظ الدور، فإن الدور يراد به: الدور القبلي، وهو ممتنع بصريح العقل واتفاق العقلاء، ويراد به الدور المعي الاقتراني، وهو جائز بصريح العقل واتفاق العقلاء، ومن أطلق امتناع الدور فمراده الأول، أو هو غالط في الإطلاق.
ولفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات، وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر التبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: آمنت بالله ورسله.
كما في الصحيحين «عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته» .
وفي رواية: «لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق من خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل:
آمنت بالله» ورواية: «ورسوله» وفي رواية: «لا يزالون بك يا أبا هريرة حتى يقولوا: هذا الله، فمن خلق الله؟ قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب، فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم به، ثم قال: قوموا، قوموا، صدق خليلي» .
وفي الصحيح أيضاً «عن أنس بن مالك عن رسول صلى الله عليه وسلم قال قال الله: إن أمتك لا يزالون يسألون: ما كذا؟ وما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟» .
وهذا التسلسل في المؤثرات والفاعلين يقترن به تسلسل آخر، وهو التسلسل في تمام الفعل والتأثير، وهو نوعان: تسلسل في جنس الفعل، وتسلسل في الفعل المعين.
فالأول ـ مثل أن يقال: لا يفعل الفاعل شيئاً أصلا حتى يفعل شيئاً معيناً، أو لا يحدث شيئاً حتى يحدث شيئاً، أو لا يصدر عنه شيء حتى يصدر عنه شيء، فهذا أيضاً بالطل بصريح العقل واتفاق العقلاء.
وهذا هو الذي يصح أن يجعل مقدمة في دوام الفاعلية، بأن يقال: كل الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً: إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن حدث فيها شيء، فالقول في حدوث ذلك الحادث كالقول في حدوث غيره، فالأمور المعتبرة في حدوث ذلك الحادث: إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت محدثة لزم أن لا يحدث شيء من الأشياء حتى يحدث شيء.
وهذا جمع بين النقيضين، وقد يسمى هذا دوراً، ويسمى تسلسلاً، وهذا هو الذي أجاب عنه من أجاب بالمعارضة بالحوادث المشهودة.
وجوابه أن يقال: أتعني بالأمور المعتبرة الأمور المعتبرة في جنس كونه فاعلاً، أم الأمور المعتبرة في فعل شيء معين؟ أما الأول فلا يلزم من دوامها دوام فعل شيء من العالم، وأما الثاني: فيجوز أن يكون كل ما يعتبر في حدوث المعين كالفلك وغيره حادثاً، ولا يلزم من حدوث شرط الحادث المعين هذا التسلسل، بل يلزم منه التسلسل المتعاقب في الآثار، وهو أن يكون قبل ذلك الحادث حادث، وقبل ذلك الحادث حادث، وهذا جائز عندهم وعند أئمة المسلمين، وعلى هذا فيجوز أن يكون كل ما في العالم حادثاً، مع التزام هذا التسلسل الذي يجوزونه.
وقد يراد بالتسلسل في حدوث الحادث العين، أو في جنس الحوادث: أن يكون قد حدث مع الحادث تمام مؤثره، وحدث مع حدوث تمام المؤثر.
وهلم جراً.
وهذا أيضاً باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهو من جنس التسلسل في تمام التأثير.
فقد تبين أن التسلسل إذا أريد به أن يحدث مع كل حادث حادث يقارنه، يكون تما تأثيره مع الآخر حادث، وهلم جراً، فهذا ممتنع من جنس قول معمر في المعاني التسلسلة، وإن أريد به أن يحدث قبل كل حادث حادث وهلم جراً، فهذا فيه قولان، وأئمة المسلمين وأئمة الفلاسفة يجوزونه.
وكما أن التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير، يراد به التسلسل المتعاقب شيئاً بعد شيء، ويراد به التسلسل المقارن شيئاً مع شيء، فقولنها أيضاً: إن المؤثر يستلزم أثره يراد به أن يكون عقبه، فهذا هو الاستلزام المعروف عند جمهور العقلاء، وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء قديم.
والناس لهم في أستلزام المؤثر أثره قولان:
فمن قال: إن الحادث يحدث في الفاعل بدون سبب حادث فإنه يقول: المؤثر التام لا يجب أن يكون أثره معه، بل يجوز تراخيه، ويقول: أن القادر المختار يرجع أحد مقدوريه بمجرد قدرته التي لم تزل، أو بمجرد مشيئته التي لم تزل، وإن لم يحدث عند وجود الحادث سبب.
والقول الثاني: أن المؤثر التام يستلزم أثره.
لكن في معنى هذا الاستلزام قولين:
أحدهما: أن يكون معه، بحيث يكون زمان الأثر زمان المؤثر، فهذا هو الذي تقوله المتفلسفة، وهو معلوم الفساد بصريح العقل عند جمهور العقلاء.
والثاني: أن يكون الأثر عقب تمام المؤثر، وهذا يقر به جمهور العقلاء وهو يستلزم أن لا يكون في العالم شيء قديم، بل كل ما فعله القديم الواجب بنفسه، فهو محدث.
وإن قيل: إنه لم يزل فعالاً، وإن قيل بدوام فاعليته، فذلك لا يناقض حدوث كل ما سواه، بل هو مستلزم لحدوث كل ما سواه، فإن كل مفعول فهو محدث، فكل ما سواه مفعول، فهو محدث مسبوق بالعدم، فإن المسبوق بغيره سبقاً زمانياً لا يكون قديماً، والأثر المتعقب لمؤثره، الذي زمانه عقب زمان تمام مؤثره، ليس مقارناً له في الزمان، بل زمنه متعقب لزمان تمام التأثير، كتقدم بعض أجزاء الزمان على بحض وليس في أجزاء الزمان شيء قديم، وإن كان جنسه قديماً، بل كل جزء من الزمان مسبوق بآخر، فليس من التأثيرات المعينة تأثير قديم، كما ليس من أجزاء الزمان جزء قديم.
فمن تدبر هذه الحقائق، وتبين له ما فيها من الاشتباه والالتباس: تبين له محارات أكابر النظار في هذه المهامه التي تحار فيها الأبصار.
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.