الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح بلا مرجح
وأما المقدمة الثانية - وهي الترجيح بلا مرجح - فإنهم ألزموا بها القائلين بالحدوث بدون سبب حادث، وهي لهم ألزم، فإن الحوادث المتجددة تقتضي تجدد أسباب حادثة، فالحدوث أمر ضروري على كل تقدير، والذات القديمة المستلزمة لموجبها: إن لم يتوقف حدوث الحوادث عنها على غيرها لزم مقارنة الحوادث لها في الأزل، وهذا باطل بالضرورة والحس، وإن توقف على غيرها فذلك الغير إن كان قديماً أزلياً كان معها، فيلزم مقارنة الحوادث لها، وإن كان حادثاً، فالقول في سبب حدوثه كالقول في غيره من الحوادث.
فهؤلاء الفلاسفة أنكروا على المتكلمين - نفاة الأفعال القائمة به - أنهم أثبتوا حدوث الحوادث بدون سبب حادث، مع كون الفاعل موصوفاً بصفات الكمال، وهم أثبتوا حدوث الحوادث كلها بدون سبب حادث، ولا ذات موصوفة بصفات الكمال، بل حقيقة قولهم أن الحوادث تحدث بدون محدث فاعل، إذ كانوا مصرحين بأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها، فلا يبقى للحوادث فاعل أصلاً، لا هي ولا غيرها.
فعلم أن قولهم أعظم تناقضاً من قول المعتزلة ونحوهم، وأن ما ذكروه من الحجة في قدم العالم، هو على حدوثه أدل منه على قدمه، باعتبار كل واحدة من مقدمتي حجتهم.
ومن تدبر هذا وفهمه تبين له أن الذين كذبوا بآيات الله صم وبكم في الظلمات، وأن هؤلاء وأمثالهم من أهل النار، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله:{وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} (الملك: 10) ، وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أن نبين أن أجوبة نفاة الأفعال الاختيارية القائمة بذات الله تعالى لهؤلاء الدهرية أجوبة ضعيفة،.
كما بين ذلك، وبهذا استطالت الفلاسفة والملاحدة وغيرهم عليهم.
فالذين سلكوا هذه المناظرة لا أعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه، ولا أعطوا الجهاد لأعداء الله تعالى حقه، فلا كملوا الإيمان ولا الجهاد.
وقد قال الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} (الحجرات: 15)، وقال تعالى:{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (آل عمران: 81) .
«قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن
بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه» .
فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به: تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به، وألحد في أسماء الله وآياته.
وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة، الذين ذمهم السلف والأئمة، لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد، بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع، الذين هم أبعد عن السنة منهم، بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول، وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول، فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد، وأخذوا يقولون أنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار، والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات، وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده - تكذيباً أو تأويلاً أو تفويضاً - لأنها أصل السمعيات.
وإذا حقق الأمر عليهم وجد الأمر بالعكس، وأنه لا يتم الإيمان بالرسول والجهاد لأعدائه، إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات، وتبين