الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إما أن نمتنع عن التكلم بالألفاظ المبتدعة. وإما نقبل ما وافق معناه الكتاب والسنة
إما أن نمتنع عن التكلم بالألفاظ المبتدعة.
وإما نقبل ما وافق معناه الكتاب والسنة
وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة ـ كما ذكر ـ فالمخاطب لهم إما أن يفصل ويقول: ما تريدون بهذه الألفاظ؟ فإن فسروها بالمعني الذي يوافق القرآن قبلت، وإن فسروها بخلاف ذلك ردت.
وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً، فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسونه إلي العجز والانقطاع، وإن تكلم بها معهم نسبوه إلي أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً، وأوهموا الجهال باصطلاحهم: أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها، فحينئذ تختلف المصلحة، فإن كانوا في مقام دعوة الناس إلي قولهم وإلزامهم به أمكن أن يقال لهم: لا يجب علي أحد أن يجيب داعياً إلا إلي ما دعا إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم، فما لم يثبت أن الرسول دعا الخلق إليه لم يكن علي الناس إجابة من دعا إليه، ولا له دعوة الناس إلي ذلك، ولو قدر أن ذلك المعني حق.
وهذه الطريق تكون أصلح إذا لبس ملبس منهم علي ولاة الأمور، وأدخلوه في بدعتهم، كما فعلت الجهمية بمن لبسوا عليه من الخلفاء حتى أدخلوه في بدعتهم من القول بخلق القرآن وغير ذلك، فكان من أحسن إلي مناظرتهم أن يقال: ائتونا بكتاب أو سنة حتى نجيبكم إلي ذلك، وإلا فلسنا نجيبكم إلي ما لم يدل عليه الكتاب والسنة.
وهذا لأن الناس لا يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل من السماء، وإذا ردوا إلي عقولهم فلكل واحد منهم عقل، وهؤلاء المختلفون يدعي أحدهم: أن العقل أداه إلي علم ضروري ينازعه فيه الآخر، فلهذا لا يجوز أن يجعل الحاكم بين الأمة في موارد النزاع إلا الكتاب والسنة.
وبهذا ناظر الإمام أحمد الجهمية لما دعوه إلي المحنة، وصار يطالبهم بدلالة الكتاب والسنة علي قولهم، فلما ذكروا حججهم كقوله تعالى {خالق كل شيء} [الأنعام: 102] ، وقوله {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} [الأنبياء: 2] وقوله النبي صلى الله عليه وسلم «تجيء البقرة وآل عمران» وأمثال ذلك من الأحاديث، مع ما ذكروه من قوله صلي الله عليه وسلم «إن الله خلق الذكر» أجابهم عن هذه الحجج بما بين به أنها لا تدل علي مطلوبهم.
ولما قالوا: ما تقول في القرآن: أهو الله أو غير الله؟ عارضهم بالعلم فقال: ما تقولون في العلم: أهو الله أو غير الله؟ ولما ناظره أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث، وكان من أحذقهم بالكلام: ألزمه التجسيم، وأنه إذا أثبت لله كلاماً غير مخلوق لزم أن يكون جسماً.
فأجابه الإمام أحمد بأن هذا اللفظ لا يدري مقصود المتكلم به، وليس له أصل في الكتاب والسنة والإجماع، فليس لأحد أن يلزم الناس أن ينطقوا به، ولا بمدلوله، وأخبره أني أقول: هو أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فبين أني لا أقول: هو جسم وليس بجسم، لأن كلا الأمرين بدعة محدثة في الإسلام، فليست هذه من الحجج الشرعية التي يجب علي الناس إجابة من دعا إلي موجبها، فإن الناس إنما عليهم إجابة الرسول فيما دعاهم إليه، وإجابة من
دعاهم إلي ما دعاهم إليه الرسول صلي الله عليه وسلم، لا إجابة من دعاهم إلي قول مبتدع، ومقصود المتكلم بها مجمل لا يعرف إلا بعد الاستفصال والاستفسار، فلا هي معروفة في الشرع، ولا معروفة بالعقل إن لم يستفسر المتكلم بها.
فهذه المناظرة ونحوها هي التي تصلح إذا كان المناظر داعياً.
وأما إذا كان المناظر معارضاً للشرع بما يذكره، أو ممن لا يمكن أن يرد إلي الشريعة، مثل من لا يلتزم الإسلام ويدعو الناس إلي ما يزعمه من العقليات، أو ممن يدعي أن الشرع خاطب الجمهور، وأن المعقول الصريح يدل علي باطن يخالف الشرع، ونحو ذلك، أو كان الرجل ممن عرضت له شبهة من كلام هؤلاء ـ فهؤلاء لا بد في مخاطبتهم من الكلام علي المعاني التي يدعونها: إما بألفاظهم، وإما بألفاظ يوافقون علي أنها تقوم مقام ألفاظهم.
وحينئذ فيقال لهم: الكلام إما أن يكون في الألفاظ، وإما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون فيهما، فإن كان الكلام في المعاني المجردة من غير تقييد بلفظ، كما تسلكه المتفلسفة ونحوهم ممن لا يتقيد في أسماء الله وصفاته بالشرائع، بل يسميه علة وعاشقاً ومعشوقاً ونحو ذلك، فهؤلاء إن أمكن نقل معانيهم إلي العبارة الشرعية كان حسناً، وإن لم يمكن مخاطبتهم إلا بلغتهم، فبيان ضلالهم ودفع صيالهم عن الإسلام بلغتهم أولي من الإمساك عن ذلك لأجل مجرد اللفظ، كما لو جاء جيش كفار ولا يمكن دفع شرهم عن المسلمين إلا بلبس ثيابهم، فدفعهم بلبس ثيابهم خير من ترك الكفار يجولون في خلال الديار خوفاً من التشبه بهم في الثياب.
وأما إذا كان الكلام مع من قد يتقيد بالشريعة، فإنه يقال له: إطلاق هذه الألفاظ نفياً وإثباتاً بدعة، وفي كل منهما تلبيس وإيهام، فلا بد من الاستفسار والاستفصال، أو الامتناع عن إطلاق كلا الأمرين في النفي والإثبات.
وقد ظن طائفة من الناس ان ذم السلف والأئمة للكلام وأهل الكلام كقول أبي يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق، وقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل علي الكلام، وقوله: لقد اطلعت من أهل الكلام علي شيء ما كنت أظنه، ولأن يبتلي العبد بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله، خير له نظر في الكلام إلا كان في قلبه غل علي أهل الإسلام، وأمثال هذه الأقوال المعروفة عن الأئمة ـ ظن بعض الناس أنهم إنما ذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المحدثة، كلفظ الجوهر والسجم والعرض، وقالوا: إن مثل هذا لا يقتضي الذم، كما لو أحدث الناس آنية يحتاجون إليها، أو سلاحاً يحتاجون إليه لمقاتلة العدو، وقد ذكر هذا صاحبالإحياء وغيره.
وليس الأمر كذلك، بل ذمهم للكلام لفساد معناه أعظم من ذمهم لحدوث ألفاظه، فذموه لاشتماله علي معان باطلة مخالفة للكتاب والسنة ومخالفته للعقل
الصريح، ولكن علامة بطلانها مخالفتها للكتاب والسنة، وكل ما خالف الكتاب والسن فهو باطل قطعاً.
ثم من الناس من قد يعلم بطلانه بعقله، ومنهم من لا يعلم ذلك.
وأيضاً فإن المناظرة بالألفاظ المحدثة المجملة المبتدعة المحتملة للحق والباطل إذا أثبتها أحد المتناظرين ونفاها الآخر كان كلاهما مخظئاً، وأكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وفي ذلك من فساد العقل والدين ما لا يعلمه إلا الله، فإذا رد الناس ما تنازعوا فيه إلى الكتاب والسنة فالمعاني الصحيحة ثابتة فيهما، والمحق يمكنه بيان ما يقوله من الحق بالكتاب والسنة، ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلي ما لم يبينه الله ورسوله لم يكن الله قد أكمل للأمة دينهم، ولا أتم عليهم نعمته، فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لا بد أن يكون مما بينه الرسول، إذ كانت فروع الدين لا تقوم إلا بأصوله، فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس؟
ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقاً أو اعتقاداً زعم أن الإيمان إلا العلم بأن الرسول لم يذكره.
وهذا مما احتج به علماء السنة علي من دعاهم إلي قول الجهمية القائلين بخلق القرآن، وقالوا: إن هذا لو كان من الدين الذي يجب الدعاء إليه لعرفه الرسول،
ودعا أمته إليه، كما ذكره أبو عبد الرحمن الأذرمي الأزدي في مناظرته للقاضي أحمد بن أبي دؤاد قدام الواثق.
وهذا مما رد به علماء السنة على من زعم أن طريقة الاستدلال على إثبات الصانع سبحانه بإثبات الأعراض وحدوثها من الواجبات التي لا يحصل الإيمان إلا بها، وأمثال ذلك.
وبالجملةـ فالخطاب له مقامات: فإن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة ويدعوه إليها أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقاً.
وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد قال تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 135]، وقال تعالى:{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] .
و «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام
الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» .
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله تعالى» .
وقد قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء: 59] ، ومثل هذا كثير.
وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضاً، فعليه أن يعتصم أيضاً بالكتاب والسنة، ويدعوا إلى ذلك، وله أن يتكلم مع
ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة، فإن الله سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه، وبين بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله وأمر المعاد وغير ذلك من أصول الدين، وأجاب عن معارضة المشركين، كما قال تعالى:{ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا} [الفرقان: 33] .
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطباته، ولما قال: «ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر.
فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن كثير؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخلياً به، فالله أعظم» ولما سأله أيضاً عن إحياء الموتى ضرب له المثل بإحياء النبات.
وكذلك السلف، فروى عن ابن عباس أنه لما أخبر بالرؤية عارضه السائل بقوله تعالى {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] فقال له: ألست ترى السماء.
فقال: بلي، قال: أتراها كلها؟ قال: لا فبين له أن نفي الإدراك لا يقتضي نفي الرؤية.
وكذلك الأئمة كالإمام أحمد في رده على الجهمية، لما بين دلالة القرآن على علوه تعالي واستوائه على عرشه، وأنه مع ذلك عالم بكل شيء، كما دل على ذلك قوله تعالى:{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير} [الحديد: 4] ، فبين أن المراد بذكر المعية أنه عالم بهم، كما افتتح الآية بالعلم وختماها العلم، وبين سبحانه أنه مع علوه على العرش يعلم ما الخلق عاملون، كما في حديث العباس بن عبد المطلب الذي رواه داود وغيره عن النبي صلي الله عليه وسلم قال فيه «والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه» فبين الإمام أحمد إمكان ذلك بالاعتابر العقلي، وضرب مثلين، ولله المثل الأعلى، فقال: لو أن رجلاً في يده قوارير فيها ماء صاف، لكان بصره
قد أحاط بما فيها مع مباينته، فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بصره بخلقه، وهو مستو على عرشه، وكذلك لو أن رجلاً بنى داراً لكان مع خروجه عنها يعلم ما فيها، فالله الذي خلق العالم يعلمه مع علوه عليه، كما قال تعالي {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] .
وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضة بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلي حل شبهته وبيان بطلانها.
فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظا مجملة مثل أن يقول: لو كان فوق العرش لكان جسماً، أو لكان مركبا وهو منزه عن ذلك، ولو كان له علم وقدرة لكان جسماً، وكان مركباً، وهو منزه عن ذلك، ولو خلق واستوى وأتى لكان تحله الحوادث، وهو منزه عن ذلك ولو قامت به الصفات لحلته الأعراض، وهو منزه عن ذلك.
فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟
فإن أراد بها حقاً وباطلاً قبل الحق ورد الباطل، مثل أن يقول: أنا أريد بنفي الجسم نفي قيامه بنفسه وقيام الصفات به، ونفي كونه مركباً ن فنقول: هو قائم بنفسه، وله صفات قائمة به، وأنت سميت هذا تجسيما لم يجز أن أدع الحق الذي دل عليه صحيح المنقول وصريح المعقول لأجل تسميتك أنت له بهذا.
وأما قولك: ليس مركباً فإن أردت به أنه سبحانه ركبه مركب، أو كان متفرقاً فتركب، وأنه يمكن تفرقه وانفصاله، فالله تعالى منزه عن ذلك، وإن أردت أنه موصوف بالصفات، مباين للمخلوقات، فهذا المعني حق، ولا يجوز رده لأجل تسميتك له مركبا، فهذا ونحوه مما يجاب به.
وإذا قدر أن المعارض أصر على تسمية المعاني الصحيحة التي ينفيها بألفاظه الاصطلاحية المحدثة، مثل أن يدعي أن ثبوت الصفات المخلوقات يستحق أن يسمى في اللغة تجسيماً وتركيباً ونحو ذلك، قيل له: هب أنه سمي بهذا الاسم، فنفيك له أما أن يكون بالشرع، وإما أن يكون بالعقل.
وأما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله، لا بنفي ولا إثبات، ولم ينطق أحد من سلف الأمة وأئمتها في حق الله تعالى بذلك، لا نفياً ولا إثباتاً، بل قول القائل: إن الله جسم أو ليس بجسم، أو جوهر أو ليس بجوهر، أو متحيز أو ليس بمتحيز، أو في جهة أو ليس في جهة، أو تقوم به الأعراض والحوادث أو لا تقوم به، ونحو ذلك ـ كل هذه الأقوال محدثة بين أهل الكلام المحدث، لم يتكلم السلف والأئمة فيها، لا بإطلاق النفي ولا بإطلاق الإثبات، بل كانوا ينكرون على أهل الكلام الذين يتكلمون بمثل هذا النوع في حق الله تعالي نفياً وإثباتاً.
وإن أردت أن نفي ذلك معلوم بالعقل، وهو الذي تدعيه النفاة، ويدعون أن نفيهم المعلوم بالعقل عارض نصوص الكتاب والسنة.