الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه السادس
أن يقال: إذا تعارض الشرع والعقل وجب تقديم الشرع، لأن العقل مصدق للشرع في كل ما أخبر به، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به، ولا العلم بصدقه موقوف علي كل ما يخبر به العقل.
مهمة العقل
ومعلوم أن هذا إذا قيل أوجه من قولهم: كما قال بعضهم: يكفيك من العقل أن يعلمك صدق الرسول ومعاني كلامه.
وقال بعضهم: العقل متول، ولي الرسول ثم عزل نفسه، لأن العقل دل علي أن الرسول صلي الله عليه وسلم يجب تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.
والعقل يدل علي صدق الرسول دلالة عامة مطلقة.
وهذا كما أن العامي إذا علم عين المفتي ودل غيره عليه وبين له أنه عالم مفت، ثم اختلف العامي الدال والمفتي وجب علي المستفتي أن يقدم قول المفتي، فإذا قال له العامي: أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله علي قولي عند التعارض قدحت في الأصل الذي به علمت بأنه مفت، قال له المستفتي: أنت لما شهدت بأنه مفت، ودللت علي ذلك، شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك، كما شهد به دليلك، وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم أني أوافقك في العلم بأعيان المسائل، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو اعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد وإستدلال، ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال، الذي خالفت به من يجب عليك
تقليده وإتباع قوله، وإن لم تكن مخطئاً في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه عالم مفت يجب عليك تقليده.
هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ، والعقل يعلم أن الرسول صلي الله عليه وسلم معصوم في خبره عن الله تعالي، لا يجوز عليه الخطأ، فتقديمه قول المعصوم علي ما يخالفه من أستدلاله العقلي أولي من تقديم العامي قول المفتي علي قوله الذي يخالفه.
وكذلك أيضاً إذا علم الناس وشهدوا أن فلاناً خبير بالطب أو القيافة أو الخرص أو تقويم السلع ونحو ذلك، وثبت عند الحاكم أنه عالم بذلك دونهم، أو أنه أعلم منهم بذلك، ثم نازع الشهود الشاهدون لأهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم أهل العلم بذلك، وجب تقديم قول أهل العلم بالطب والقيافة والخرص والتقويم علي قول الشهود الذين شهدوا لهم، وإن قالوا: نحن زكينا هؤلاء، وبأقوالنا ثبتت أهليتهم، فالرجوع في محل النزاع إليهم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولهم.
كما قال بعض الناس: إن العقل مزكي الشرع ومعدله، فإذ قدم الشرع عليه كان قدحاً فيمن زكاه وعدله، فيكون قدحا فيه.
قيل لهم: أنتم شهدتم بما علمتم من أنه أهل العلم بالطب أو التقويم أو الخرص أو القيافة ونحو ذلك، وأن قوله في ذلك مقبول دون قولكم، فلو قدمنا قولكم عليه في هذه المسائل لكان ذلك قدحاً في شهادتكم وعلمكم بأنه أعلم منكم بهذه الأمور، وإخباركم بذلك لا ينافي قبول قوله دون أقوالكم في ذلك، إذ يمكن إصابتكم في قلوكم: هو أعلم منا، وخطؤكم في قولكم: نحن أعلم ممن هو أعلم منا فيما ينازعنا فيه من المسائل التي هو أعلم بها منا، بل خطؤكم في هذا أظهر.
والإنسان قد يعلم أن هذا أعلم منه بالصناعات كالحراثة والنساجة والبناء والخياطة وغير ذلك من الصناعات، وإن لم يكن عالماً بتفاصيل تلك الصناعة، فإذا تنازع هو وذلك الذي هو أعلم منه لم يكن تقديم قول الأعلم منه في موارد النزاع قدحاً فيما علم به أنه أعلم منه.
ومن المعلوم أن مباينة الرسول صلي الله عليه وسلم لذوي العقول أعظم من مباينة أهل العلم بالصناعات العلمية والعملية والعلوم العقلية الاجتهادية كالطب والقيافة والخرص والتقويم لسائر الناس، فإن من الناس من يمكنه أن يصير عالماً بتلك الصناعات العلمية والعملية كعلم أربابها بها، ولا يمكن من لم يجعله الله رسولاً إلي الناس أن يصير بمنزلة من جعله الله تعالي رسولاً إلي الناس، فإن
النبوة لا تنال بالاجتهاد، كما هو مذهب أهل الملل، وعلي قول من يجعلها مكتسبة من أهل الإلحاد من المتفسلفة وغيرهم فإنها عندهم أصعب الأمور، فالوصول إليها أصعب بكثير من الوصول إلي العلم بالصناعات والعلوم العقلية.
وإذا كان الأمر كذلك فإذا علم الإنسان بالعقل أن هذا رسول الله، وعلم أنه أخبر بشيء، ووجد في عقله ما ينازعه في خبره، كان عقله يوجب عليه أن يسلم موارد النزاع إلي من هو أعلم به منه، وأن لا يقدم رأيه علي قوله، ويعلم أن عقله قاصر بالنسبة إليه، وأنه أعلم بالله تعالي وأسمائه وصفاته واليوم الآخر منه، وأن التفاوت الذي بينهما في العلم بذلك أعظم من التفاوت الذي بين العامة وأهل العلم بالطب.
فإذا كان عقله يوجب أن ينقاد لطبيب يهودي فيما أخبره به من مقدرات من الأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات، واستعمالها علي وجه مخصوص، مع ما في ذلك من الكلفة والألم، لظنه أن هذا أعلم بهذا مني، وأني إذا صدقته كان ذلك أقرب إلي حصول الشفاء لي، مع علمه بان الطبيب يخطئ كثيراً، وأن كثيراً من الناس لا يشفي بما يصفه الطبيب، بل قد يكون استعماله لما يصفه سبباً في هلاكه، ومع هذا فهو يقبل قوله ويقلده، وإن كان ظنه واجتهاده يخالف وصفه، فكيف حال الخلق مع الرسل عليهم الصلاة والسلام؟!.
والرسل صادقون مصدوقون لا يجوز أن يكون خبرهم علي خلاف ما أخبروا به قط، والذين يعارضون أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، فكيف يجوز أن يعارض ما لم يخطئ قط بما لم يصب في معارضته له قط؟
فإن قيل: فالشهود إذا عدلوا شخصاً ثم عاد ذلك المعدل فكذبهم كان تصديقه في جرحهم جرحاً في طريق تعديله.
قيل: ليس هذا وزان مسألتنا، فإن المعدل إما أن يقول: هم فساق لا يجوز قبول شهادتهم، وإما أن يقول: هم في هذه الشهادة المعينة أخطأوا أو كذبوا، فإن جرحهم مطلقا كان نظير هذا أن يكون الشرع قد قدح في دلالة العقل مطلقا، وليس كذلك، فإن الأدلة الشرعية لا تقدح في جنس الأدلة العقلية.
وأما إذا قدح في شهادة معينة من شهادات مزكيه، وقال: إنهم أخطأوا فيها، فهذا لا يعارض تزكيتهم له باتفاق العقلاء فإن المزكي لشاهد ليس من شرطه أن لا يغلط، ولا يلزم من خطئه في شهادة معينة خطؤه في تعديل من عدله، وفي غير ذلك من الشهادات.
وإذا قال المعدل المزكي في بعض شهادات معدله ومزكيه: قد أخطأ فيها، لم يضره هذا باتفاق العقلاء، بل الشاهد العدل قد ترد شهادته لكونه خصماً
أو ظنيناً لعداوة أو غيرها، وإن لم يقدح ذلك في سائر شهاداته، فلو تعارضت شهادة المعدل والمعدل وردت شهادة المعدل لكونه خصماً أو ظنيناً لم يقدح ذلك في شهادة الآخر وعدالته، فالشرع إذا خالف العقل في بعض موارد النزاع ونسبه في ذلك إلي الخطأ والغلط، لم يكن ذلك قدحا في كل ما يعلمه العقل، ولا في شهادته له بأنه صادق مصدوق.
ولو قال المعدل: إن الذي عدلني كذب في هذه الشهادة المعنية، فهذا أيضاً ليس نظيراً لتعارض العقل والسمع، فإن الأدلة السمعية لا تدل علي أن أهل العقول الذين حصلت لهم شبه خالفوا بها الشرع تعمدوا الكذب في ذلك.
وهب أن الشخص الواحد والطائفة المعينة قد تتعمد الكذب، لكن جنس الأدلة المعارضة لا توصف بتعمد الكذب.
وأيضاً فالشاهد إذا صرح بتكذيب معدليه ل يكن تكذيب المعدل من عدله في قضية معينة مستلزماً للقدح في تعديله، لأنه يقول: كان عدلاً حين زكاني، ثم طرأ عليه الفسق، فصار يكذب بعد ذلك، ولا ريب أن العدول إذا عدلوا شخصاً، ثم حدث ما أوجب فسقهم، لم يكن ذلك قادحا في تعديلهم الماضي، كما لا يكون قادحاً في غير ذلك من شهاداتهم.