الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: حدوث العرض المعين لا بد له من سبب، فذلك السبب: إن كان حادثاً عاد الكلام في سبب حدوثه، ولزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة، وهو محال.
وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر، فكذلك في كلية العالم.
اعتراض الأرموي على الرازي
وقد اعترض الأرموي على هذا الجواب فقال:
والقائل أن يقول: إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث المسبب الفاعل، بل يدل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه، وإن عنيت به السبب الفاعل لم يلزم من حدوث العرض المعين حدوثه، بل إما حدوثه أو حدوث بعض الشرائط، وحدوث الشرائط والمعدات الغير متناهية على التعاقب جائز عندكم.
قال: بل الجواب الباهر عنه: أنه لا يلزم من ذلك قدم العالم الجسماني، لجواز أن يوجد في الأزل عقل أو نفس يصدر عنهما تصورات متعاقبة، كل واحد منها بعد ما يليه، حتى ينتهي إلى تصور خاص يكون شرطاً لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم.
رد ابن تيمة على الأرموي
قلت: الإلزام الذي ألزمهم إياه الرازي صحيح متوجه، وهو الجواب الثاني الذي أجابهم به الغزالي في كتاب التهافت.
وأما اعتراض الأرموي فجوبه: أنه كان التقدير أن العلة التامة مستلزمة لمعلولها، ومعلولها لازم لعلته: امتنع أن يحدث عنها شيء، فما حدث لا بد له من
سبب تام، وحدوث السبب التام يستلزم حدوث سبب تام له، فيلزم جود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة، وهو محال.
وأما قوله: إن عنيت بالسبب السبب التام فحدوثه لا يدل على حدوث السبب الفاعل، بل إما على حدوثه أو حدوث بعض شرائطه.
فيقال له: هذا التقسيم صحيح إذا نظر إلى الحادث من حيث الجملة، وأما إذا نظر إلى حادث يمتنع حدوثه عن العل التامة، فلا بد له من حدوث سبب تام.
وإذا قال القائل: الفاعل القديم أحدثه لما حدث شرط حدوثه.
قيل: الكلام في حدوث ذلك الشرط كالكلام في حدوث المشروط، فلا بد من حدوث أمر لا يكون حادثاً عن العلة التامة، لأن العلة التامة القديمة يمتنع أن يحدث عنها شيء، فإنه يجب مقارنة معلولها لها في الأزل، والحادث ليس بمقارن لها في الأزل.
وإذا قيل: حدث عنها بحدوث الاستعداد والشرائط.
قيل: الكلام في كل ما يقدر حدوثه عن علة تامة مستلزمة لمعلولها، فإن حدوث حادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها محال.
وهذا الإلزام صحيح لا محيد للفلاسفة عنه.
وإذا قالوا: حدث عنها أمور متسلسلة واحد بعد واحد.
قيل لهم: الأمور المتسلسلة يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة، لأن العلة التامة القديم تستلزم معلولها فتكون معها في الأزل، والحوادث المتسلسلة ليس معها في الأزل.
وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبينا أن قولهم بحدوث الحوادث عن موجب تام أزلي لازم لهم في صريح العقل، سواء حدثت عنه بواسائط لازمة له أو بغير وسائط، وسواء سميت تلك الوسائط عقولا ونفوساً أو غير ذلك، وسواء قيل: إن الصادر الأول عنه: العنصر، كما يقول بعضهم، أو قيل: بل هو العقل، كما هو قول آخرين، فإن الوسائط اللازمة ل قديمة معه، لا يحدث فيها شيء، إذ القول في حدوث ما يحدث فيها كالقول في غيره من الحوادث.
وقولهم: إن حركات الفلك بسبب حدوث تصورات النفس وإرادتها المتعاقبة، مع حدوث تلك عن الواجب بنفسه بواسطة العقل اللازم له، أو بغير واسطة العقل، أو القول بحدوثها عن العقل، أو ما قالوا من هذا الجنس الذي يسندون فيه حدوث الحوادث إلى مؤثر قديم تام لم يحدث فيه شيء ـ هو قول يتضمن أن الحوادث حدثت عن علة تامة لا يحدث فيها شيء.
فإذا كان المؤثر التام الأزلي، سواء جعل ذلك شرطاً في حدوث غيره أو لم يجعل، ومتي امتنع حدوث حادث عنه كان حدوث ما يدعونه من الاستعدادات والشرائط مفتقراً إلى سبب تام.
فيلزم وجود علل ومعلومات لا تتناهى دفعة، كما ذكره الرازي، وهذا من جيد كلامه.
وأما الجواب الذي أجاب به الأرموي وذكر أنه باهر: فهو منقول من كلام الرازي في المطالب العالية وغيرها، وهو منقوض بهذه المعارضة، مع أنه جواب
غاب بعضه موافق لقول أهل الملل، وبعضه موافق لقول الفلاسفة الدهرية، فإنه مبني على إثبات العقول والنفوس، وأنها ليست أجساماً، وكونها قديمة أزلية لازمة لذات الله تعالى.
وهذه الأقوال ليست من أقوال أهل الملل، بل هي أقوال باطلة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبين أن ما يدعونه من المجردات إنما ثبوتها في الأذهان في الأعيان.
وإنما أجاب الأرموي بهذا الجواب لأن هؤلاء المتأخرين ـ الكشهرستاني الرازي واللآمدي ـ زعموا أن ما ادعاه هؤلاء المتفلسفة من إثبات عقول ونفوس مجردة لا دليل للمتكلمين على نفيه، وأن دليلهم على حدوث الأجسام لا يتضمن الدلالة على حدوث هذه المجردات.
وهذا قول باطل، بل أئمة الكلام صرحوا بأن انتفاء هذه المجردات، وبطلان دعوى وجود ممكن ليس جسماً ولا قائماً بجسم: مما يعلم انتفاؤه بضرورة العقل، كما ذكر ذلك الأستاذ أبو المعالي وغيره بل قال طوائف من أهل النظر: إن الموجود منحصر في هذين النوعين، وإن ذلك معلوم بضرورة العقل، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا: أن هذا الجواب الذي ذكره الأرموي مبني على هذا الأصل.
ومضمونه: أن الرب تعالى موجب بالذات للعقول والنفوس الأزلية اللازمة لذاته لا فاعل لها بمشيئته وقدرته، وهم يفسرون العقول بالملائكة، فتكون الملائكة قديمة
دخل فيه الخلق والإبداع، هل هو أمر وجودي، أو أمر عدمي؟ وهل الخلق هو المخلوق، أو غير المخلوق؟
وفيها قولان مشهوران للناس، والجمهور على أن الخلق ليس هو المخلوق، هو قول أكثر العلماء من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، وهو قول أكثر أهل الكلام، مثل طوائف من المعتزلة والرمجئة والشيعة، وهو قول الكرامية وغيرهم، وهو مذهب الصوفية، ذكره صاحب التعرف في مذاهب التصوف المعروف بـ الكلاباذي هو قول أكثر قمدماء الفلاسفة وطائفة من مأخريهم.
وطائفة قالت: الخلق هو المخلوق، وهو قول كثير من المعتزلة، وقول الكلابية كالأشعري وأصحابه، ومن وافقهم من أصحاب الشافعي وأحمد ومالك وغيرهم.
والمقصود هنا أنهم لما احتجوا على قدم العالم بأن كون الواجب مؤثرا في العالم غير ذاتيتهما، لإمكان تعقلهما مع الذهول عنه، ولأن كونه مؤثراً معلوم دون حقيقته، ولأن المؤثرية نسبة بينهما، فهي متأخرة ومغايرة.
قال: وليس التأثير أمراً سلبياً، لأنه نقيض قولنا: ليس بمؤثر، فذلك الوجودي إن كان حادثاً فتقر إلى مؤثر، وكانت مؤثريته زائدة، ولزم التسلسل، وإن كان قديماً ـ وهو صفة إضافية لا يعقل تحققها مع المضافين ـ فلزم قدمها.
أجاب الرازي: بأن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات، وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر، فتكون مؤثريته زائدة، ويتسلسل.
قلت: وهذا الجواب هو على قول من يقول: إن الخلق هو المخلوق، وإنه ليس الفعل والإبداع والخلق إلا مجرد وقوع المفعول المنفصل عنه من غير زيادة أمر وجودي أصلاً.
فقال الأرموي: ولقائل أن يقول: التسلسل هاهنا واقع في الآثار، لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر، فتكون متأخرة على الأثر فاقتضت مؤثرية أخرى بعد الأثر، حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية.
قال: والمنكر هو التسلسل في المؤثرات.
قال: بل الجواب عنه: أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى المتأخر عنه ولو بأزمنه كثيرة، مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر.
قلت: وقول الأرموي: لقائل، أن يقول: التسلسل هاهنا واقع في الآثار، لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعلقها على المؤثر والأثر، فتكون متأخرة عن الأثر، فاقتضت مؤثرية أخري بعد الأثر، حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية:
يعترض عليه: بأن هذا يناقض قوله بعد هذا: بل الجواب عنه: أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإنه إن كان هذا القول صحيحاً لم يلزم عن المؤثر، وإن كانت الصفة العارضة للشيء لا تتوقف، بل يكفي فيها تحقق المؤثرية فقط.
ولكنه يجيب عن هذا بأن مقصودي أن ألزم غيري إذا قال: تتوقف المؤثرية على المؤثر والأثر بأن هذا تسلسل في الآثار، لا في المؤثرات، وهذا إلزام صحيح.
لكن يقال له ك كان من تمام هذا الإلزام أن تقول: المؤثرية إذا كانت عندكم صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر كانت مستلزم لوجود الأثر،
فإن كونه مؤثراً بدون الأثر ممتنع، وحينئذ فمعلوم أن الأثر يكون عقب التأثير الذي هو المؤثرية، فإنه إذا خلق وجد المخلوق، وإذا أثر في غيره حصل الأثر، فالأثر يكون عقب التأثير، وهو جعل المؤثرية متأخرة عن الأثر.
وليس الأمر كذلك، بل هي متقدمة على الأثر، أو مقارنة له عند بعضهم، ولم يقل أحد من العقلاء: إن المؤثرية متأخرة عن الأثر، بل قال بعضهم: إن الأثر متأخر منفصل عنها، وقال بعضهم: هو مقارن لها، وقال بعضهم: هو متصل بها، لا منفصل عنها، ولا مقارن لها وهذا أصح الأقوال.
ولكن على التقديرين: تكون المؤثرية حادثة بحدوث تمامها، فيلزم أن يكون لها مؤثرية، وتكون المؤثرية الثانية عقب الؤثرية الأولى.
وهذا مستقيم لا محذور فيه، فتكون المؤثرية الأولى أوجبت كونه مؤثراً في الأثر المنفصل عنه، وكونه مؤثراً في ذلك الأثر أوجب ذلك الأثر.
وهذا على قول الجمهور الذين يقولون: الموجب يحصل عقب الموجب التام، والأثر يحصل عقب المؤثر التام، والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية، والمعلول يحصل عقب كمال العلية.
وأما من جعل الأثر مقارناً للمؤثر في الزمان ـكما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم ـ فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله، فإنه يلزم عند وجود المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة، ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة، وهلم جراً، وهذا تسلسل في تمام المؤثرية، وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار، فإن التسلسل في تمام المؤثرية، وهو من جنس التسلسل
في المؤثرات أن يكون للمؤثر مؤثر معه لا يكون حال عدم المؤثر، فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه، وإنما يفعل في حال وجوده، فعند وجود التأثير لا بد من وجود المؤثر، فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير، بل لا يكون إلا مع وجوده، لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر، فإن جعل تمام المؤثرية مقارناً للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات، لا في الآثار.
وقد يقول القائل: هذا الذي أراده الرازي بقوله: إن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات، وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر، فتكون مؤثريته زائدة، ويتسلسل فإنه قد يريد التسلسل المقارن لا المتعاقب، فإنها إذا كانت زائدة افتقرت إلى مؤثر يقارنها، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والمتكلمين.
والرازي قد يقول بهذا، وحينئذ فهذا التسلسل باطل باتفاق العقلاء.
فيقول القائل: هذا هو الإلزام الذي ألزم به الرازي الفلاسفة، حيث قال: والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول، لوجوب دوام واجب الوجود، ودوام الثاني لدوام الأول، وهلم جرا، وإنه ينفي الحوادث أصلاً.
قال: فإن قلت: واجب الوجود عام الفيض، يتوقف حدوث الأثر عنه على استعدادات القوابل، فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول.
قلت: حدوث العرض المعين لا بد له من سبب، فذلك السبب إن كان حادثاً عاد الكلام في سبب حدوثة، ويلزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعةً، وهو محال، وإن كان قديماً لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر، فكذلك في كلية
العالم.
فيقال: هذا الكلام الذي ذكره الرازي جيد مستقيم، وهو إلزامهم الحوادث المشهودة التي قد يعبر عنها بالحوادث اليومية، فإنه لا بد لها من مؤثر تام، فإن كان قديماً أمكن وجود الحادث عن القديم، وبطل قولهم، وإن كان حادثاً فلا بد على قولهم أن يكون حادثاً مع حدوث الأثر، لا قبله، لأنهم قد قرروا أن المؤثر التام يجب أن يكون أثره معه في الزمان لا يتأخر عنه، فعلى قولهم هذا: يجب أن يكون المؤثر التام معه أثره، والأثر معه مؤثره، لا يتقدم زمان أحدهما على زمان الآخر، وحينئذ فالحادث المعين يجب أن يكون مؤثره معه حادثاً، ويكون مؤثر ذلك المؤثر معه حادثاً، فيلزم وجود أسباب ومسببات هي علل ومعلومات لا نهاية لها في زمن واحد معلوم الفساد بضرورة العقل، وقد اتفق العقلاء على امتناعه.
واعتراض الأرموي عليه ساقط حينئذ.
فإن ملخص قوله: إن اللازم حدوث المؤثر، أو حدوث بعض شرائطه، وهم يجوزون حدوث الشرائط والمعدات على سبيل التعاقب.
فيقال لهم: هم يجوزون أن يكون بعد كل حادث حادث فيقولون: حدوث الحادث الأول شرط في حدوث الحادث الثاني، والشرط موجود قبل المشروط.
ولكن هذا يناقض قولهم: إن العلة التامة تستلزم أن يكون معلومها معها في الزمان، وأن المعلوم يجب أن يكون موجوداً مع تمام العلة، لا يتأخر عن ذلك، فإن موجب هذا أنه إذا حصل شرط تمام العلة حصل معه المعلول لا يتأخر عنه، وكلما
حدث حادث كان الشرط الحادث الذي به تمت عليه العلة حادثاً معه لا قبله، ثم ذلك الحادث أيضاً يحدث الشرط الذي هو تمام علته معه لا قبله، وهلم جراً، فيلزم تسلسل تمام العلل في آن واحد وهو أن تمام علة هذا الحادث حدث في هذا الوقت، وتمام علة هذا التمام حدث في هذا الوقت، وهلم جراً.
والتسلسل ممتنع في العلة، وفي تمام العلة، فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة، وللعلة علة إلى غير غاية، فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام، ولتمام العلة تمام إلى غير غاية.
والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء، معلوم فساده بضرورة العقل، سواء قيل: إن المعلول يقارن العلة في الزمان، أو قيل إنه يتعقب العلة.
ولكن هؤلاء لا يتم قولهم بقدم شيء من العالم إلا إذا كان المعلول مقارناً للعلة التامة لا يتأخر عنها، وحينئذ فيلزم أن يكون كل حادث تمام علته حادث معه، وتمام علة ذلك التمام حادث معه، وهلم جرا، فيلزم وجود حوادث لا نهاية لها في آن واحد ليست متعاقبة، وهذا مما يسلمون أنه ممتنع، ويعلم بضرورة العقل أنه ممتنع، وهو يشبه قول أهل المعاني أصحاب معمر.
وإذ كان هذا لازماً لقولهم لا محيد لهم عنه: لزم أن أحد أمرين: إما بطلان حجتهم وإما القول بأنه لا يحدث في العالم شيء، والثاني باطل بالمشاهدة، فتعين بطلان حجتهم.
فتبين أن الذي ألزمهم إياه أبو عبد الله الرازي لا محيد عنه، وأن الأرموي لم يفهم حقيقة الإلزام، فأعترض عليه بما لا يقدح فيه.
ولكن مثاب الغلط والاشتباه هنا: أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر، بمعني أنه يحدث شيء، ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلاً، وهذا عند من يقول: إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان كما يقوله هؤلاء الدهرية، فيقضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارناً للأثر لا يتقدم عليه، فتبين به فساد حجتهم.
وأما من قال: إن الأثر إنما يحصل عقب تمام المؤثر فيمكنه أن يقول بما ذكره الأرموي، وهو أن كونه مؤثرا في الأثر المعين يكون مشروطاً بحادث يحدث يكون الأثر عقبه، ولا يكون الأثر مقارناً له.
ولكن هذا يبطل قولهم بقدم شيء من العالم، ويوافق أصل السنة وأهل الحديث الذين يقولون: لم يزل متكلماً إذا شاء.
فإنه على قول هؤلاء يقال: فعله لما يحدث من الحوادث مشروط بحدوث حادث به تتم مؤثرية المؤثر، ولكن عقب حدوث ذلك التمام يحدث ذلك الحادث، وعلى هذا فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي، إذ الأزلي لا يكون إلا مع تمام مؤثره، ومقارنة الأثر للمؤثر زمانا ممتنعة.
وحينئذ فإذا قيل: هو نفسه كاف في إبداع ما ابتدعه، لا يتوقف فعله على شرط.
قيل: نعم كل ما يفعله لا يتوقف على غيره، بل فعله لكل مفعول حادث يتوقف على فعل يقوم بذاته يكون المفعول عقبه، وذلك الفعل أيضاً مشروط بأثر حادث قبله.
فقد تبين أن هذه المعقولات التي اضطرب فيها أكابر النظار، وهي عندهم أصول العلم الإلهي، إذا حققت غاية التحقيق: تبين أنها موافقة لما قاله أئمة السنة والحديث العارفون بما جاءت به الرسل، وتبين أن خاصة المعقول خادمة ومعينة وشاهدة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قلت: المقصود هنا أن الأرموي ضعف الجواب بأن التسلسل المنكر هو تسلسل المؤثرات التي هي العلل، وأما تسلسل الآثار فليس بمنكر، وإذا كانت المؤثرية مسبوقة بمؤثرية، لم يلزم إلا التسلسل في الآثار.
وقوله: إن هذا يقتضي التسلسل في الآثار لا في المؤثرات كلام صحيح على قول من يقول: إن الأثر لا يجب أن يقارن المؤثر في زمان بل يتعقبه لأن المؤثرية المسبوقة بمؤثرية إنما حدث بالأولى كونها مؤثرة، لا نفس المؤثر.
والفرق بين نفس المؤثر ونفس تأثيره هو الفرق بين الفاعل وفعله، والمبدع وإبداعه، والمقتضي واقتضائه، والموجب وإيجابه، وهو كالفرق بين الضارب وضربه، والعادل وعدله، والمحسن وإحسانه، وهو فرق ظاهر.
لكن احتجاجه بأن المؤثرية إذا كانت صفة إضافية يتوقف تحققها على المؤثر والأثر جاز أن تكون متقدمة على الأثر، كما لزم أن تكون متأخرة عن الأثر:
ليس بمستقيم.
فإن كون الشيء مؤثراً في غيره لا يكون متأخراً عن أثره، بل إما أن يكون مقارناً له، أو سابقاً عليه، وإلا فوجود الأثر قبل التأثير ممتنع، ولا يحتاج إلى هذا التقدير، فإن كون التسلسل ها هنا واقعاً في الآثار: أبين من أن يدل عليه بدليل صحيح من هذا الجنس، فضلاً عن أن يدل عليه بهذا الدليل.
والجواب الذي ذكره ـ من أن الصفة العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها ـ هو جواب من يقول بأن التأثير قديم، والأثر حادث.
وهذا قول من يقبت لله تعالى صفة التخليق والتكوين في الأزل، وإن كان المخلوق حادثاً.
وهو قول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الكلام والصوفية، وهو مبني على أن الخلق غير المخلوق، وهذا قول أكثر الطوائف، لكن منهم من صرح بأن الخلق قديم والمخلوق حادث، ومنهم من صرح بتجدد الأفعال، ومنهم من لا يعرف مذهبه في ذلك.
فالذي ذكره البغي عن أهل السنة: إثبات صفة الخلق لله تعالى، وأنه لم يزل خالقاً، وكذلك ذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذهب التصوف أنه مذهب الصوفية، وكذلك ذكره الطحاوي وسائر أصحاب أبي حنيفة، وهو
قول جمهور أصحاب أحمد، كأبي إسحاق بن شاقلاً، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبي يعلى وغيرهم، وكذلك ذكره غير واحد من المالكية، وذكر أنه قول أهل السنة والجماعة، ومن هؤلاء من صرح بمعني الحركة لا بلفظها.
وهؤلاء الذين يقولون بإثبات تأثير قديم هو الخلق والإبداع مع حدوث الأثر، يجعلون ذلك بمنزلة وجود الإرادة القديمة مع حدوث المراد، كما يقول بذلك الكلام وغيرهم من الصفاتية.
فجواب أبي الثناء الأرموي موافق لقول هؤلاء الطوائف، وهو قوله: الصفة المعارضة للشيء لا تتوقف إلا على وجود معروضها، كما أن الإرادة القديمة لا تتوقف إلا على وجود المريد دون المراد عند من يقول بذلك، وكذلك القدرة المتعلقة بالمستقبلات تتوقف على وجود القادر، دون المقدور، فكذلك قولهم في الخلق الذي هو الفعل وهو التأثير.
ولكن هذا الجواب ضعيف، فإن قوله: الصفة الإضافية العراضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى التأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة، مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر يعترض عليه بأنك ادعيت دعوى كلية وأثبتها بمثال جزئي، فادعيت أن كل صفة عارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها
وهذه دعوى كلية، ثم احتججت على ذلك بالتقدم العارض للمتقدم، وهذا المثال لا يثبت القضية الكلية.
ونظير هذا قولهم: ليس لمتعلق القول من القول صفة وجودية، فإنه ليس لكون الشيء مذكوراً أو مخبراً عنه صفة ثبوتية بذلك، فإن المعدوم يقال: إنه مذكور ومخبر عنه، فإن هذه دعوى، والمثال جزئي.
والتحقيق أن متعلق القول قد يكون له منه صفة وجودية، كمتعلق التكوين والتحريم والإيجاب، وقد يكون، كمتعلق الإخبار.
ثم يقال: الصفة العرضة للشيء بالنسبة إلى غيره: سواء كانت من الصفات الحقيقية المستلزمة للنسبة والإضافة كالإرادة والقدرة والعلم، أو كانت من الصفات الإضافية عند من يجوز جواز إضافة محضة، لا يستلزم صفة حقيقية قد تكون مستلزمة لوجود الاثنين المتضايفين المتباينين كالأبوة والنبوة، فأن وجود أحدهما مستلزم لوجود الآخر، وكذلك الفوقية والتحتية والتيامن والتياسر، وكذلك العلة التامة مع معلومها، فإنه ليس بينهما برزخ زمان، وإن كان المعلوم لا يكون إلا متعقباً للعلة في الزمان، لا يكون زمنه زمنها عند جمهور العقلاء، كما قد بسط في موضع آخر.
وأنتم احتججتم في غير موضع بأن القبول نسبة بين القابل والمقبول، فلا يتحقق إلا مع تحققهما، وجعلتم هذا مما احتججتم به على الكرامية في مسألة حلول الحوادث، وقلتم: كونه قابلاً للحدوث يجب أن يكون من لوازم ذاته، وذلك إنما يمكن مع تحقق الحوادث في الأزل مع امتناع تحقق الحادث في الأزل: