الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم بالسمع، والمعارض للسمع مناقض له مناف له.
فهل يقول عاقل: إنه يلزم من ثبوت ملازم الشيء ثبوت مناقضه ومعارضه!؟
ولكن صاحب هذا القول جعل العقليات كلها نوعاً واحداً متماثلاً في الصحة أو الفساد، ومعلوم أن السمع إنما يستلزم صحة بعضها الملازم له، لا صحة البعض المنافي له، والناس متفقون علي أن ما يسمى عقليات منه حق، ومنه باطل، وما كان شرطاً في العلم بالسمع وموجباً فهو لازم للعلم به، بخلاف المنافي المناقض له، فإنه يمتنع أن يكون هو بعينه شرطاً في صحته ملازماً لثبوته، فإن الملازم لا يكون مناقضاً، فثبت أنه لا يلزم من تقديم السمع علي ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله.
فقد تبين بهذه الوجوه الثلاثة فساد المقدمات الثلاث التي بنوا عليها تقديم آرائهم علي كلام الله ورسوله.
اعتراض: نحن نقدم علي السمع المعقولات التي علمنا بها صحة السمع. الرد عليهم من وجوه. الأول
اعتراض: نحن نقدم علي السمع المعقولات التي علمنا بها صحة السمع.
الرد عليهم من وجوه.
الأول
فإن قيل: نحن إنما تقدم علي السمع المعقولات التي علمنا بها صحة السمع.
قيل: سنبين إن شاء الله أنه ليس فيما يعارض السمع شيء من المعقولات التي يتوقف السمع عليها، فإذن كل ما عارض السمع ـ مما يسمي معقولاً ـ ليس أصلاً للسمع، يتوقف العلم بصحة السمع عليه، فلا يكون القدح في شيء من المعقولات قدحاً في أصل السمع.
الثاني
الوجه الثاني: أن جمهور الخلق يعترفون بأن المعرفة بالصانع وصدق الرسول ليس متوقفاً علي ما يدعيه بعضهم من العقليات المخالفة للسمع، والواضعون لهذا القانون ـ كـ أبي حامد والرازي وغيرهما ـ معترفون بأن العلم بصدق الرسول
لا يتوقف علي العقليات المعارضة له، فطوائف كثيرون ـ كـ أبي حامد والشهرستاني وأبي القاسم الراغب وغيرهم ـ يقولون: العلم بالصانع فطري ضروري.
والرازي والآمدي وغيرهما من النظار يسلمون أن العلم بالصانع قد يحصل بالاضطرار، وحينئذ فالعلم بكون الصانع قادراً معلوم بالاضطرار، والعلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تحدي الخلق بمعارضتها وعجزوا عن ذلك معلوم بالاضطرار.
ومعلوم أن السمعيات مملوءة من إثبات الصانع وقدرته وتصديق رسوله، ليس فيها ما يناقض هذه الأصول العقلية التي بها يعلم السمع، بل الذي في السمع
يوافق هذه الأصول، بل السمع فيه من بيان الأدلة العقلية علي إثبات الصانع، ودلائل ربوبيته وقدرته، وبيان آيات الرسول ودلائل صدقه أضعاف ما يوجد في كلام النظار، فليس فيه ـ ولله الحمد ـ ما يناقض الأدلة العقلية التي بها يعلم صدق الرسول.
ومن جعل العلم بالصانع نظرياً يعترف أكثرهم بأن من الطرق النظرية التي بها يعلم صدق الرسول ما لا يناقض شيئاً من السمعيات.
والرازي ممن يعترف بهذا، فإنه قال في نهاية العقول في مسألة التفكير في: المسألة الثالثة: في أن مخالف الحق من أهل الصلاة هل يكفر أم لا؟ .
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب مقالات الإسلاميين: اختلف المسلمون ـ بعد نبيهم ـ في أشياء ضلل فيها بعضهم بعضاً، وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقاً متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم، فهذا مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب من كفر المخالفين.
وأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رضي الله تعالي عنه قال: لا أرد شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل الكذب.
وأما أبو حنيفة رضي الله تعالي عنه: فقد حكي الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحداً من أهل القبلة.
وحكي أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك.
وأما المعتزلة: فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال.
وأما المشبهة: فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة
وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفر من يكفرني، وكل مخالف يكفرنا فنحن نكفره، وإلا فلا.
والذي نختاره أن لا نكفر أحداً من أهل القبلة.
والدليل عليه أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها، مثل أن الله تعالي هل هو عالم بالعلم أو بالذات؟ وأنه تعالي هل هو موجد لأفعال العباد أم لا؟ وأنه هل هو متحيز وهل هو في مكان وجهة؟ وهل هو مرئي أم لا؟ لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول باطل، إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين لكان الواجب علي النبي صلي الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل، ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها، فلما لم يطالبهم بهذه المسائل، بل ما جري حديث في هذه المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، علمنا أنه لا تتوقف صحة الإسلام علي معرفة
هذه الأصول.
وإذا كان كذلك لم يكن الخطأ في هذه المسائل قدحاً في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير أهل القبلة.
ثم قال بعد ذلك وأما دلالة الفعل المحكم علي العلم فقد عرفت أنها ضرورية.
وأما دلالة المعجز علي الصدق فقد بينا أنها ضرورية، ومتي عرفت هذه الأصول أمكن العلم بصدق الرسول عليه السلام، فثبت أن العلم بالأصول التي يتوقف علي صحتها نبوة محمد علية السلام علم جلي ظاهر، وإنما طال الكلام في هذه الأصول لرفع هذه الشكوك التي يثبتها المبطلون، إما في مقدمات هذه الأدلة، أو في معارضاتها، والاشتغال برفع هذه الشكوك إنما يجب بعد عروضها، فثبت أن أصول الإسلام جلية ظاهرة ثم إن أدلتها علي الاستقصاء مذكورة في كتاب الله تعالي، خالية عما يتوهم معارضاً لها.
ثم ذكر بعد ذلك فقال: قلنا: إنا قد ذكرنا في إثبات العلم بالصانع طرقاً خمسة قاطعة في هذا الكتاب من غير حاجة إلي القياس الذي ذكروه، والله أعلم.