المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعليق ابن تيمية - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق

- ‌تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام آخر للرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌رسالة البيهقي في فضائل الأشعري

- ‌كلام الأشعري في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌اعتراض يذكر نفاة الصفات

- ‌بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الجواب التاسع

- ‌الوجه الرابع والأربعون

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في البرهان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام الغزالي في الإحياء

- ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الشهرستاني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي نصر السجزي في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية

- ‌عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

- ‌كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية

- ‌كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة

- ‌كلام الباقلاني شرح اللمع

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌كلام الخطابي في كتاب شعار الدين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

- ‌القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

- ‌كلام الآمدي في الأبكار

- ‌كلام أبي الحسن الطبري الكيّا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن حزم في الفصل

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري

- ‌رد ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في نفي وجوب النظر

- ‌كلام أبي إسحاق الإسفراييني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في وجوب النظر

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن الزاغوني

- ‌تعليق ابن تيمية

الفصل: ‌تعليق ابن تيمية

والمناقضة والاستخفاف بالحقائق بأقبح من قول هؤلاء: إنه لا يصح الإيمان إلا بالكفر، ولا يصح التصديق إلا بالجحد، ولا يوصل إلى رضا الله عز وجل إلا بالشك فيه، وأن من اعتقد موقناً بقلبه ولسانه أن الله ربه لا إله إلا هو، وأن محمد رسول الله، وأن دين الله الذي لا دين غيره - فإنه كافر مشرك، نعوذ بالله من الخذلان.

فوالله لولا خذلان الله - الذين هو غالب على أمره - ما انطلق لسان ذي مسكة بهذه العظيمة) .

‌تعليق ابن تيمية

قلت: هذا القول هو في الأصل من أقوال المعتزلة، وقد أوجب أبو هاشم وطائفة معه الشك، وجعلوه أول الواجبات.

ومن لم يوجبه من الموافقين على أصل القول، قال إنه لابد من حصوله، وإن لم يؤمر به.

وهذا بناء على أصلين: أحدهما: أن أول الواجبات النظر المفضي إلى العلم.

والثاني: أن النظر يضاد العلم، فإن الناظر طالب للعلم، فلا يكون في حال النظر عالماً.

وكلا الأصلين باطل.

أما الأول، فقد عرف الكلام فيه.

وأما الثاني، فإن النظر نوعان: أحدهما: النظر المتضمن طلب الدليل،

ص: 419

وهو كالنظر في المسؤول عنه ليعلم ثبوته أو انتفاؤه، كالنظر في مدعي النبوة: هل هو صادق أو كاذب؟ والنطر في رؤية الله تعالى: هل هي ثابتة في الآخرة أم منتفية؟ والنظر في النبيذ المسكر: أحلال هو أم حرام؟

فهذا الناظر طالب، وهو في حال طلبه شاك.

وليس هذا النظر هو النظر المقتضي للعلم، فإن ذلك هو النظر فيما يتضمن النظر فيه للعلم، وهو النظر في الدليل، كالنظر في الآية والحديث، أو القياس الذي يستدل به، فهذا النظر مقتض للعلم، مستلزم له.

وذلك النظر مضاد للعلم مناف له.

ولما كان في لفظ (النظر) إجمال، كثر اضطراب الناس في هذا المقام، وتناقض من تناقض منهم، فيوجبون النظر لأنه يتضمن العلم، ثم يقولون: النظر يضاد العلم.

فكيف يكون ما يتضمن العلم مضاداً له لا يجتمعان.

فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق.

والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون في القلب ذاهلاً عن الشيء، ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول، وإن لم

ص: 420

يتقدم ذلك شك وطلب.

وقد يكون عالماً به، ومع هذا ينظر في دليل آخر، لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور، لأنهم إنما أوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالباً للعلم، فيلزم أن يكون شاكاً، فصاروا يوجبون على كل مسلم: أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه، سواء أوجبوه، أو قالوا: هو من لوازم الواجب.

ومن غلطهم أيضاً.

أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، فليس من شرط ذلك تأخر النظر إلى البلوغ، بل النظر قبل ذلك ممكن، بل واقع، فتكون المعرفة قد حصلت بذلك النظر، وإن لم يكن واجباً كما لوتعلم الصبي أم الكتاب وصفة الصلاة قبل البلوغ، فإن هذا التعلم يحصل به مقصود الوجوب بعد البلوغ، والنظر إنما هو واجب وجوب الوسائل، فحصوله قبل وقت وجوبه أبلغ في حصول المقصود.

ونظير ذلك: إن يتوضأ الصبي قبل البلوغ، والبالغ قبل دخول وقت الصلاة، فيحصل بذلك مقصود الوجوب بعد البلوغ والوقت.

والكلام في هذه المسألة له شعب كثيرة، وقد تكلم عليها في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا بيان طرق كثير من أهل العلم في تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتحقيق هذه المسألة يتعلق بمسائل: منها: أن

ص: 421

الاعتقاد الجازم بلا ضرورة ولا استدلال: هل يمكن أم لا؟ وإذا أمكن: فهل يسمى علماً أم لا؟

ومنها: أن لفظ (الضرورة) فيه إجمال.

فقد يراد به مايضطر إليه الإنسان من المعلومات الظاهرة المشتركة بين الناس.

وقد يراد به ما يحصل في نفسه بدون كسبه.

وقد يراد به ما لا يقبل الشك.

وقد يراد به ما يلزم نفس الإنسان لزوماً لا يمكن الانفكاك عنه.

ومنها: أن حصول العلم في النفس قد يحصل لكثير من الناس حصولاً ضرورياً، مع توهمه أنه لم يحصل له، كما يقع مثل ذلك في القصد والنية، فإن الأمة متفقة على أن الصلاة ونحوها من العبادات لا تصح إلا بالنية من جنس القصد، والإرادة محلها القلب باتفاقهم، فلو لفظ بلسانه غير ما قصد بقلبه أو بالعكس، كان الاعتبار بقصده الذي في قلبه.

ثم إن كثيراً من الناس اشتبه عليهم أمر النية، حتى صار أحدهم يطلب حصولها وهي حاصلة عنده، ويشك في حصولها في نفسه وهي حاصلة، لا سيما إذا اعتقد أنه يجب مقارنة النية للصلاة، فيرى في أحدهم من الوسواس في حصولها ما يخرجه عن العقل والدين، حتى قيل: الوسوسة لا تكون إلا عن خبل في العقل، أو جهل بالشرع.

وأصل ذلك جهلهم بحقيقة النية وحصولها، مع خروجهم عن الفطرة السليمة، التي فطر الله عليها عباده.

ومن المعلوم أن كل من علم

ص: 422

ما يريد أن يفعله، فلا بد ان ينويه ويقصده، فيمتنع أن يفعل العبد فعلاً باختياره، مع علمه به وهو لا يريده، فالمصلي إذا خرج من بيته وهويعلم أنه يريد الصلاة، امتنع أن لا يقصد الصلاة ولا ينويها.

وكذلك الصائم إذا علم أن غداً من رمضان وهوممن يصومه، أمتنع أن لا ينويه.

وكذلك المتطهر إذا أخذ الماء وهو يعلم أن مراده الطهارة، أمتنع أن لا يريدها.

وإنما يتصور عدم النية مع الجهل بالمفعول، أو مع أنه ليس مقصوده المأمور به، مثل من يظن أن وقت الصلاة أو الصيام قد خرج، فيصوم ويصلي ظاناً أن ذلك قضاء بعد الوقت، فهذا نوى القضاء، فإذا تبين له بعد ذلك أن الصوم والصلاة إنما كانا في الوقت، إذا فهذا يجزئه الصلاة والصيام بلا نزاع.

وكذلك من اغتسل بالماء لقصد لقصد إزالة الوسخ، أو لتعليم الغير، فهذا لم يكن مراده بما فعله الطهارة المأمور بها.

ولهذا تنازع الفقهاء في صحة الصلاة بمثل هذه الطهارة، وأمثال ذلك.

ولهذا يجد المسلم في نفسه فرقاً بين ليلة العيد الذي يعلم أنه لا يصومه، وبين ليالي رمضان الذي يعلم أنه يصومه.

ويجد الفرق بين ما إذا كان مقيماً أو مسافراً يريد الصيام، وبين ما إذا كان مسافراً لا يريد الصيام.

ص: 423

فكما أن الإرادة تكون موجودة في نفس الإنسان، وقد يشك في وجودها، أولا يحسن أن يعبر عن وجودها، أو يطلب وجودها فهكذا العلم الضروري وغيره، قد يكون حاصلاً في نفس الإنسان، وهو يشك في وجوده، أو يطلب وجوده، أو لا يحسن أن يعبر عنه، لأن وجود الشيء في النفس شيء، والعلم بوجوده في النفس شيء آخر، فالتمييز بينه وبين غيره والتعبير عن ذلك شيء آخر.

فهكذا عامة المؤمنين: إذا حصل أحدهم في سن التمييز يحصل له من الأسباب، التي توجب معرفته بالله وبرسوله، ما يحصل بها في نفسه علم ضروري ويقين قوي، كحصول الإرادة لمن علم ما يريد فعله، ثم كثير من أهل الكلام يلبسون عليه ما حصل له ويشككونه فيه، كما أن كثيراً من الفقهاء يلبسون على المريد الناوي ما حصل له ويشككونه فيه.

والعلم الحاصل في النفس لا تنضبط أسبابه، ومنه ما يحصل دفعة، كالعلم بما أحسه.

ومنه ما يحصل شيئاً بعد شيء، كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة، والعلم بمدلول القرائن التي لا يمكن التعبير عنها.

وكذلك حصول الإرادة، فإن من الأشياء ما تحصل إرادته الجازمة في النفس، كإرادة الأشياء الضرورية التي لا بد له منها، كإرادة دفع

ص: 424

الأمور الضارة له، وكإرادة الجائع الشديد الجوع، والعطشان الشديد العطش، لتناول ما تيسر له من الطعام والشراب.

ومنه ما يحصل شيئاً بعد شيء، كإرادة الإنسان لما هو أكمل له وأفضل، فإن هذا قد تحصل إرادته شيئاً بعد شيء.

وكذلك إرادته لما يشك في كونه محتاجاً إليه، أو كونه نافعاً له، فإن الإرادة قد تقوى بقوة العلم، وقد تضعف بضعفه، وقد تقوى بقوة نفس محبة الشيء المطلوب وضعف محبته.

ومن عرف حقيقة الأمر تبين له أن النفوس فيها إرادات فطرية، وعلوم فطرية، وأن كثيراً من أهل الكلام في العلم قد يظنون عدم حصولها، فيسعون في حصولها، وتحصيل الحاصل ممتنع، فيحتاجون أن يقدروا عدم الموجود، ثم يسعون في وجوده، ومن هنا يغلط كثير من الخائضين في الكلام والفقه.

وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، مع نوع من الذهول والغفلة، فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة، أو توجهت نحو المطلوب، فيحصل لها معرفته ومحبته.

ص: 425

والله تعالى فطر عباده على محبته ومعرفته، وهذه هي الحنيفية التي خلق عباده عليها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» .

وقد قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} .

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ؟ والكلام في هذه الأمور مذكور في غير هذا الموضع.

ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والإيمان واجب على الناس بحسب الإمكان، فالجمل التي فرض الله تعالى على الخلق كلهم الإقرار بها مما يمكنهم معرفتها.

وأما التفاصيل ففيها من الدقيق ما لا يمكن أن يعرفه إلا بعض الناس، فلو كلف بقية الناس بمعرفته، كلفوا ما لا يطيقون، ولهذا لم يجب على كل أحد أن يسمع كل آية في القرآن ويفهم معناها، وإن كان هذا فرضاً على الكفاية.

ص: 426

ومن المعلوم أنه في تفاصيل آيات القرآن من العلم والإيمان ما يتفاضل الناس فيه تفاضلاً لا ينضبط لنا.

والقرآن الذي يقرأه الناس بالليل والنهار يفاضلون في فهمه تفاضلاً عظيماً، وقد رفع الله بعض الناس على بعض درجات، كما قال تعالى:{يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} ، بل من الأخبار ما إذا سمعه بعض الناس ضرهم ذلك، وآخرون عليهم أن يصدقوا بمضمون ذلك ويعلموه، قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسول؟ وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.

فمثل هذه الأحاديث التي سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعها منه، وعلم أنه قالها، يجب على من سمعها أن يصدق بمضمونها، وإذا فهم المراد كان عليه معرفته والإيمان به.

وآخرون لا يصلح لهم أن يسمعوها في كثير من الأحوال، وإن كانوا في حال أخرى يصلح لهم سماعها ومعرفتها.

والقرآن مورد يرده الخلق كلهم، وكل ينال منه على مقدار ما قسم الله له.

قال تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها

ص: 427

فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} .

وهذا مثل ضربه الله سبحانه لما أنزل من العلم والإيمان والقلوب التي تنال ذلك، شبه الإيمان بالماء النازل، والقلوب بالأودية، فمنها كبار ومنهاصغار، وبين أن الماء كما يختلط بما يكون في الأرض، كذلك القلوب فيها شبهات وشهوات تخالط الإنسان، وأخبر أن ذلك الزبد بجفأ جفاءً، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك الشبهات تجفوها القلوب، وما ينفع يمكث فيها.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا ورعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في

ص: 428

دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» .

وما ذكره ابن حزم من أن العلم قد يحصل في القلب لا عن ضرورة ولا نظر، ورده على من يحصره في النوعين فمثل هذا قد يكون النزاع فيه لفظياً.

وذلك أن نافي الحصر قد يريد بالضرورة ما كان عن ضرورة حس، وأولئك يجعلون ما يحصل من العلم الضروري بالحس أحد أنواع العلم الضروري وقد يريد بالضرورة ما يضطر إليه الإنسان بدون نظر في تصوره.

وأولئك يريدون بالعلم الضروري والبديهي ما اضطر إليه الإنسان إذا تصور طرفيه، سواء كان ذلك التصور ضرورياً أو لم يكن، بل كثير من الناس يقول: إن جميع العلوم ضرورية باعتبار أسبابها، فإن العلم الحاصل بالنظر والكسب والاستدلال هو بعد حصول أسبابه ضروري، يضطر إليه الإنسان، وهذا اختيار أبي المعالي وغيره.

وللناس في هذا الباب اصطلاحات متعددة، من لم يعرفها يجعل بينهم نزاعاً معنوياً، وليس كذلك.

كما أن طائفة منهم يجعلون العلم البديهي هو الضروري، والكسبي هو النظري.

ومنهم من يفرق بينهما، فيجعلون الضروري ما اضطر إليه العبد من غير عمل وكسب منه، لا في

ص: 429

تصور المسألة ولا دليلها ويجعلون البديهي ما بدهه، وإن كان عن نظر اضطر إليه من غير كسب منه، فإن العبد قد يضطر إلى أسباب العلم.

وقد يختار اكتساب أسبابه.

وهذا في الحسيات وغيرها، كمن يفجأه ما يراه ويسمعه، من غير قصد إلى رؤيته وسمعه، ومن يسعى في رؤية الشيء واستماعه.

والأول لا يدخل تحت الأمر والنهي.

والثاني يدخل تحت الأمر والنهي.

وأيضاً فمن الناس من يقول: العلوم الضرورية والبديهية يشترك فيها عامة العقلاء، ويجعل ما يختص به بعضهم ليس من هذا القسم.

ومنهم من يسمى كل ما اضطر إليه الإنسان وبدهه ضرورياً وبديهياً، وإن كان ذلك مختصاً بنوع من الناس، كما يختص بالأنبياء والأولياء وأهل الفراسة والإلهام.

وعلى هذا فالعلم الحاصل بتيسير الله تعالى وهدايته وإلهامه، وجعله له في قلب العبد بدون استدلال، يسميه هؤلاء علماً ضرورياً.

وإن كان ابن حزم وأمثاله لا يسمونه ضرورياً، فهذا نزاع لفظي.

ومن حد الضروري بأنه العلم الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه الانفكاك عنه، جعل هذا كله ضرورياً.

وكذلك يقول كثير من شيوخ أهل المعرفة لكثير من أهل النظر: إن علمنا ضروري، كما في الحكاية المعروفة التي ذكرها أبو العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي

ص: 430

ورأيتها بخطه عن الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى، قال: دخل علي فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم، فقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين.

فقلت نعم أنا أعلم علم اليقين.

فقالا لي: كيف تعلم علم اليقين، ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا، وكلما أقام حجة أبطلتها، وكلما أقمت بجة أبطلها؟ فقلت: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين.

فقالا: فبين لنا ما هذا اليقين.

فقلت: واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها.

فجعلا يرددان هذا الكلام، ويقولون: واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها.

وتعجبا من هذا الجواب، لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوماً لا يمكنه مع ذلك دفعها.

قالا له: كيف الطريق إلى هذه الواردات؟ فقال لهما: بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها فاعتذر الرازي بما له من الموانع.

وأما المعتزلي فقال: أنا محتاج إلى هذه الواردات، فإن الشبهات قد أحرقت قلبي.

فأمر الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر وما يتبع ذلك، ففتح الله عليه بهذه الواردات.

ص: 431