المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يمكن تصديق الرسل بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام. لكن هؤلاء - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق

- ‌تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام آخر للرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌رسالة البيهقي في فضائل الأشعري

- ‌كلام الأشعري في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌اعتراض يذكر نفاة الصفات

- ‌بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الجواب التاسع

- ‌الوجه الرابع والأربعون

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في البرهان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام الغزالي في الإحياء

- ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الشهرستاني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي نصر السجزي في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية

- ‌عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

- ‌كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية

- ‌كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة

- ‌كلام الباقلاني شرح اللمع

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌كلام الخطابي في كتاب شعار الدين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

- ‌القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

- ‌كلام الآمدي في الأبكار

- ‌كلام أبي الحسن الطبري الكيّا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن حزم في الفصل

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري

- ‌رد ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في نفي وجوب النظر

- ‌كلام أبي إسحاق الإسفراييني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في وجوب النظر

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن الزاغوني

- ‌تعليق ابن تيمية

الفصل: يمكن تصديق الرسل بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام. لكن هؤلاء

يمكن تصديق الرسل بدون طريقة حدوث الأعراض وتركيب الأجسام.

لكن هؤلاء وغيرهم يعتقدون صحة تلك الطريق وإن قالوا: إن تصديق الرسل لا يتوقف عليها.

ثم منهم من يقول: إنها لا تعارض النصوص، بل يمكن الجمع بينهما.

‌الوجه الخامس

وهذه طريق الأشعري وأئمة الصحابة: يثبتون الصفات الخبرية التي جاء بها القرآن، مع اعتقادهم صحة طريقة الاستدلال بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام.

وهذه طريق أبي حاتم بن حبان البستي، وأبي سليمان الخطابي، والتميميين: كأبي الحسن التميمي وغيره من أهل بيته، وأبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى، وأبي بكر البيهقي، وابن الزاغوني، وخلق كثير من طوائف المسلمين من الحنيفة والمالكية والشافعية والحنبلية.

ومن هؤلاء من يدعي التعارض بينهما كالرازي وأمثاله، كما يقول ذلك من يوجب الاستدلال بطريقة حدوث الأعراض، كالمعتزلة، وأبي المعالي وأتباعه.

فهؤلاء مشتركون في أن هذه الطريقة المعقولة لهم مناقضة لما يفهم من الآيات والأحاديث، سواء قالوا: إن تصديق الرسول موقوف عليها، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، وأتباع صاحب الإرشاد أو لم يقولوا ذلك، كما يقوله من يوافق الأشعري والرزي.

وجمهور المسلمين على

ص: 74

أن تصديق الرسول ليس موقوفاً عليها.

وليس المقصود في هذا المقام إلا إبطال قول من يدعي أن تقديم النقل على العقل المعارض له يقدح في العقل الذي به علم صحة السمع، وقد تبين أن فساد هذا القول معلوم بالاضطرار من الدين، معلوم بالاضطرار من العادة، وأن الذين آمنوا بالرسول وعلموا صدقه، لم يكن علمهم موقوفاً على هذه القضايا.

ومما يشترك فيه الفريقان أن يقال: أهل العقول الذين سمعوا القرآن، والكفار من المشركين وأهل الكتاب في العصور المتقدمة، لم يكن منهم من طعن فيه، أو رد عليه مخالفة هذه الأخبار عن صفات الله لصريح المعقول، فلو كان العلم بنقيض ذلك ثابتاً في عقول بني آدم، لم يمكن في العادة أن يكون هذا الكلام الذي طبق مشارق الأرض ومغاربها، وظهر وليه على عدوه بالحجة الباهرة والسيف القاهر، وفي صريح المعقول ما يناقض أخباره، ولا أحد من العقلاء يتفطن لذلك: لا على وجه الطعن، ولا على وجه الاستشكال، مع أن هذه العقليات مما تتوفر الهمم والدواعي على استخراجها واستنباطها لو كانت صحيحة لأنها متعلقة بأشرف المطالب، والعلم به الذي تتوفر الهمم على طاب معرفة صفاته نفياً وإثباتاً.

فلو كانت هذه الطرق الدالة على السلب طرقاً صحيحة تعلم بالعقل، لكان مع الداعي التام يجب تحصيلها، فإنه مع كمال القدرة

ص: 75

والداعي يجب وجود المقدور، فكان يجب أن تظهر هذه من أفضل الناس عقلاً وديناً.

فلما لم يكن الأمر كذلك علم أن ذلك كان لفسادها، وأنهم لصحة عقولهم لم يعتقدوها، كما يعتقدوا مذهب القرامطة الباطنية، والرافضة الغالية، وأمثالهم من الطوائف التي يعلم فساد قولهم بصريح العقل.

ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود، فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل، وأن يردوه فإن هذه لا نهاية له، بخلاف ما هو حق بصريح العقل في حق الله تعالى، لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده، بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته، فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة، مع كثرة أهلها وفضلهم عقلاً وديناً، لم يعلموها ولم يقولوها.

فعلم بذاك أن هذه المعارضات ليست من العقليات الصحيحة التي هي مستقرة في صريح العقل، بل هي من الخيالات الفاسدة المشابهة للعقليات التي تنفق على طائفة من الناس دون طائفة، كما نفقت على الجهمية ومن وافقهم دون جمهور عقلاء بني آدم.

ولهذا كان أعظم نفاقها على أجهل الناس وأعظمهم تكذيباً بالحق وتصديقاً بالباطل، من القرامطة الباطنية، والحلولية والاتحادية وأمثالهم.

ومن المعلوم أن أهل التواتر لا يجوز عليهم في مستقر العادة أن يكذبوا، ولا أن يكتموا ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكما أن الفطر فيها مانع من الكذب، ففيها داع إلى الإظهار والبيان، فكذلك ها هنا.

كما أن العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا أخبرت عما تعلمه بضرورة أو

ص: 76

حس، لم تتفق على الكذب ولا الخطأ، فكذلك أيضاً العقول المتباينة والفطر المختلفة إذا سمعت ما يعلم بصريح العقل وبطلانه وفساده، لم تتفق على الإعراض عن النظر والاستدلال حتى يعرف فساده وبطلانه.

ولهذا لم تظهر في أمة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيه من يعرف بطلان ذلك، فيتكلم بذلك مع من يثق به، وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض.

ولهذا تجد خلقاً من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم، ويتكلمون بذلك مع من يثقون به.

وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى، وكذلك بين اليهود.

وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم إلا الله، وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر، وهم طوائف متباينة، فما يمكن أحداً أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات، أو بعض الصفات، لا من المؤمنين، ولا من أهل الكتاب، ولا من سائر الكافرين.

ومن المعلوم أن هذا إذا كان مستقراً في صريح المعقول، فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يستخرج ويستنبط، وإذا استخرج واستنبط فلا بد مع توفر الهمم والدواعي أن يتكلم به، وإذا تكلم به فلا بد مع

ص: 77

توفر الهمم والدواعي أن ينقل.

إلا ترى أنه لما تكلم به واحد، وهو الجعد بن درهم، نقل الناس ذلك؟ ثم الجهم بعده كذلك، ولم نقل إن هذا لم يكن في نفس أحد، فإن هذا لا يمكن نفيه، ولم ينقل أن أحداً من هؤلاء لم يناج به بعض الناس، فإن هذا لا يمكن نفيه، بل قلنا: إنه لم يظهر، وعدم ظهوره مع الكثرة والقوة الموجبة لتوفر الهمم والدواعي على استخراجه واستنباطه: إن كان حقاً يوجب أنه ليس حقاً، فإن معرفة الله وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً أعظم المطالب.

ونحن نعلم بالاضطرار أن سلف الأمة كانوا أعظم الناس رغبة في هذا ومحبة له، فإذا كان الحق هو قول النفاة، وعلى ذلك أدلة عقلية يستخرجها الناظر بعقله، وهم من أعقل الناس وأرغبهم في هذا المطلب، امتنع مع ذلك أن لا يكون منهم من يفطن لهذا الحق، وإذا تفطن له، مع قوة دينهم ورغبتهم في الحيز، كانوا يظهرونه ويبينونه، وذلك يوجب ظهوره وانتشاره لو كان حقاً.

وكذلك الكفار لهم رغبة في معرفة ذلك وإظهاره، لو كان حقاً، لما كان فيه من معارضة الرسول ومناقضته، ولما فيه من معرفة الحق.

واعلم أن هذا كما يقال في أمتنا، فإنه يقال في بني إسرائيل، فإن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النفاة تشبيهاً وتجسيماً.

ومن المعلوم أن التوراة قد تداولها من الأمم ما لا يحصيهم إلا الله، وقد انتشرت بين النصارى كما انتشرت بين اليهود، فلو كان ما فيها من الصفات وإثبات العلو لله مما يناقض صريح العقل، لكان ذلك من أعظم ما كان

ص: 78

ينبغي أن يتعنت به بنو إسرائيل وغيرهم لموسى، فقد ذكر عنهم ومن تعنت بموسى أشياء لا تعلم بصريح العقل، قد آذوا موسى وقالوا إنه آدر وإنه قتل هارون، ودس عليه قارون بغياً لرميه بالزنا ليؤذي موسى بذلك.

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا} [الأحزاب: 69] ، ومع هذا فأذى موسى بذلك أذى لا يشهد به صريح العقل، فلو كان ما اخبرهم به مما يناقض صريح العقل، لكان آذاه بالقدح في ذلك أبين وأظهر وأولى أن يستعمله من يريد الأذى له.

وقد قال تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين} [البقرة: 47] .

وقال: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} [المائدة: 20] .

وقال: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين} [الجاثية: 16] .

وقد كان القوم مجاورين الروم والقبط والنبط والفرس، وهم أئمة الفلاسفة، والصابئين والمشركين من جميع الأصناف.

وقد ذكروا أن

ص: 79

أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط أفلاطون قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان، فكيف بكون ما تدل عليه التوراة ويفهم منها مناقضاً لصريح المعقول الذي لا ينبغي أن يشك عاقل فيه، لا يظهر ذلك إلا في أوليائها ولا أعدائها؟

بل الطوائف كلها مجتمعة على تعظيم الذي جاء بالتوراة، خاضعين له، فهل يكون كتاباً مملوءاً مما ظاهره كذب وفرية على الله، ووصف له بما يمتنع عليه ولا يجوز في حقه، ولا يظهر بين العقلاء مناقضته ومعارضته؟

ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتاباً في طب وحساب أو نحو أو فقه، أو ينشأ خطبة أو رسالة، أو ينظم قصيدة أو أرجوزة، فيلحن فيه لحنة، أو يغلط في المعنى غلطة، فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك ويخرجون إلى الحق من زيادة الباطل، وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه، ويذم من يخالفه - فضلاً عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه - فإذا كان الذي جاء بالقرآن، ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه، وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء: دق ولا جل، ويقول إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه، ويعظم مطيعيه، ويعدهم بكل خير، ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم، فمن المعلوم أن مثل هذه الدعوة لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها، وهم الرسل الصادقون، أو أكذب الناس وأبعدهم عنها، كالمتنبئين الكاذبين.

ص: 80

ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة، تعاديه النفوس وتحسده، «كما قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره بما جاءه، فقال: (إن قومك سيخرجوك.

قال: أو مخرجيهم؟ قال: نعم، إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مأزورا) » .

ومن المعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا، إذا كان المفهوم من كلامه، والظاهر من خطابه هو كذب على الله، ووصفه بذلك كان قائلاً من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل، بل يكون صاحبه كافراً كذاباً مفترياً على الله - كان هذا من أعظم مما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به، والطعن في ذلك والقدح في نبوته به.

وهكذا موسى بن عمران وبنو إسرائيل، كان بمقتضى العادة المطردة إنه لا بد في كل عصر من أن يظهر إنكار مثل ذلك والقدح في ما جاء به موسى، وأن يكون المأذون له يؤذونه بذلك وأعظم منه.

فإن قيل: أنه قد وجد طعن في موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم بمثل هذا.

ص: 81

قلنا: نعم، وجد بعد أن ظهرت مقالة الجهمية في المسلمين، وحديث الملاحدة من القرامطة الباطنية، والذين أخذوا شر قول الجهمية وشر قول الرافضة، وركبوا منهم قولاً ثالثاً شراً منهما، ونحن لم نقل: إنه لم يقدح أحد في الأنبياء والمرسلين، ولا كذبهم ولا عارضهم في نفس ما دعوا إليه من التوحيد والنبوة والمعاد، وعارضوهم بعقولهم، ولم يعارضوهم معارضة صحيحة، بل كان ما عارضوا به فاسداً في العقل.

فهؤلاء الذين حدثوا من المعارضين هم أسوا حالاً من أولئك المعارضين، فغن القرامطة الباطنية شر من عباد الأصنام من العرب، وشر من اليهود والنصارى، فمجادلة هؤلاء وأمثالهم بالباطل ليس بعجيب، فما زال في الأرض من يجادل بالباطل ليدحض به الحق.

ولكن قلنا: إذا كان الظاهر المفهوم مما خبروا به مخالفاً لصريح العقل، امتنع في العادة أن لا يعارض أولئك الأعداء به، ولا يستشكله الأصدقاء مع طول الزمان، وتفرق الأمة، فإذا كان العدو يعارض بالمعقول الفاسد، فكيف لا يعارض بالمعقول الصريح، وإذا كان الولي يستشكل ما لا إشكال فيه لخطأه هو نفسه، فكيف لا يستشكل ما هو مشكل يخالف ظاهره - بل نصه - للحق المعلوم بصريح العقل؟

فقلنا: عدم وجود هذه المعارضات مع توفر الهمم والدواعي على وجودها - لو كانت حقاً - دليل على أنها باطل، كما أن عدم نقل ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله - لو كان موجوداً - دليل على انه كذب، بخلاف وجود الطعن والمعارضة، فانه ليس دليلاً على صحة ما

ص: 82

عارض به وطعن، كما أن مجرد نقل الناقل ليس دليلاً على صحة ما نقل.

فليتدبر الفاضل هذا النوع من النظر والكلام فإنه ينفتح له أبواب من الهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الجهمية النفاة هم من أفسد الناس عقلاً، وأعظمهم جهلاً، وإن كان قد يحصل لأحدهم ملك وسلطان بيد أو لسان، كما حصل لفرعون ونمرود بن كنعان ونحوهما.

ولهذا وصف الله لهؤلاء وأشباههم بأنهم لا يسمعون ولا يعقلون، ومن تدبر الحقائق وجد كل من كان أقرب إلى التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به، كان أكمل عقلاً وسمعاً، وكل من كان أبعد عن التصديق بما جاءت به الرسل والعمل به، كما أنقص عقلاً وسمعاً.

ولا ريب أن قول أهل التعطيل والإلحاد، ومن دخل منهم من أهل الحلول والاتحاد، ومن شاركهم في بعض أصولهم المستلزمة، لتعطيلهم وإلحادهم من سائر العباد هي من أفسد الأقوال وأكذبها وأعظمها تناقضاً، وأكثر من الأمور أدلة على نقيضها، من الأدلة العقلية والسمعية، لكان اشتبه بعض أصولهم على كثير من أهل الإيمان فظنوا أن ذلك برهان عقلي معارض للقرآن الإلهي، ولم يعلموا أن البرهان موافق للقرآن ومعاضد لا مناقض معارض، وإن دلائل الآيات والآفاق العيانية موافقة للدلائل القرآنية، إذ كانت أدلة الحق شهوداً صادقين، وحكماً لا يثبت عندهم إلا الحق المبين.

ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد، لا تناقض ولا تعارض، وإن قدر أن

ص: 83

أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحياناً، فلا بد أن يظهر خطأه وكذبه، وهذا ما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية، لا يعرف أن أحداً منهم غلط أو كذب، إلا وظهر لأهله صناعته كذبه أو خطأه.

وكذلك الناظرون - أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية - ما يكاد يغلط غالط منهم، إلا ويعر فالناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم.

والجهمية النفاة المعطلة قلبوا حقائق الأدلة البرهانية العقلية والسمعية، ثم ادعوا أن معهم دلالات عقلية تعارض الآيات السمعية، فحرفوا الآيات وبدلوها بالتأويل، بعد أن أفسدوا العقول بزخرف الأباطيل.

قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون * أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين * وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام: 112-115] .

فإذا رأيت الدلائل اليقينية تدل على أن ما اخبر به الرسول لا يناقض العقول، بل يوافقها، وأن ما ادعاه النفاة من مناقضة البرهان

ص: 84

لمدلول القرآن قول باطل، فلا تعجب من كثرة أدلة الحق، وخفاء ذلك على كثيرين، فإن دلائل الحق كثيرة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وقل لهذه العقول التي خالفت الرسول، في مثل هذه الأصول: كادها باريها، واتل قوله تعالى:{وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [الأحقاف: 26] .

ومما يوضح الأمر في ذلك أن يقال: من المعلوم أن موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم وأمثالهما، كانوا من أكمل الناس معرفة وخبرة وعقلاً باتفاق من آمن بهم ومن كفر، فإن الكافر بهم يقول: كانوا من أدهى الناس واخبرهم بالأمور، وأعرفهم بالطرق التي تنال بها المقاصد، والأسباب التي تطلب بها المرادات، فسعوا فيما يصدقهم به الناس، ويطيعونهم بما كان عندهم من المعرفة والحذق والذكاء.

وأما المؤمن بهم فيقول: إن الله خصهم من العلم والعقل والمعرفة واليقين، بما لم يشركهم أحد من العالمين.

وقال وهب بن منبه لو وزن عقل محمد صلى الله عليه وسلم بعقل أهل الأرض لرجح.

وإذا كان كذلك امتنع في صريح العقل أن من يريد أن الناس يصدقونه ويطيعونه، يذكر لهم ما يوجب في صريح العقل تكذيبه

ص: 85

ومعصيته، والقدح فيما جاء به ومعارضته، فإن كان المفهوم المعروف مما أخبروا به الناس مناقضاً لصريح العقل.

وهم لو لم يعرفوا أنه مناقض لصريح العقل، فقد وصفهم من قال ذلك من نقص العقل وفساده، بما أجمع الناس على فساده، وإن علموا أنه مناقض لصريح العقل، وأظهروه ولم يبينوه، ولم يذكروا ما يجمع بينه وبين صريح العقل، فقد سعوا فيما به يكذبهم المكذب، ويرتاب المصدق، ويستطيل به أعداؤهم على أوليائهم، فيكون أوليائهم في الريب والاضطراب، وأعدائهم قد فوقوا إليهم النشاب، وحزبوا عليه الأحزاب، وهم لا يستطيعون نصر ما جاء به الرسول بل يطلبون الإعراض عن سماعه، ومنع الناس من استماعه، ولا يفعله إلا من هو من أقل الناس عقلاً.

وإذا كان هؤلاء بإجماع أهل الأرض كاملي العقول والمعرفة، بل أكمل الناس عقلاً ومعرفة، تبين أن الدين الذي أظهروه وبينوا وأخبروا به ووصفوه، لم يكن عنهم مناقضاً لصريح المعقول، ولا منافياً لحق مقبول، بل كان عندهم لا يخالف ذلك إلا كل كاذب جهول.

ومما يوضح الأمر في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر وانتشر ما أخبر به من تبديل أهل الكتاب وتحريفهم، وما اظهر من عيوبهم وذنوبهم، تنزيه لله عما وصفوه به من النقائص والعيوب،

ص: 86

كقوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} [آل عمران: 181] .

وقوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64-65]، وقوله تعالى:{ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} [ق: 38] .

ونزه نفسه عما يصفوه به من الفقر والبخل والإعياء، فالإعياء من جنس العجز المنافي لكمال القدرة، والفقر من جنس الحاجة إلى الغير المنافي لكمال الغنى، والبخل من جنس منع الخير وكراهة العطاء، المنافي لكمال الرحمة والإحسان، وكمال القدرة والرحمة.

والغنى من الغير مستلزم سائر صفات الكمال، فإن الفاعل إذا كان عاجزاً لم يفعل، وإذا كان قادراً ولم يرد فعل الخير لم يفعله، فإذا كان قادراً مريداً له فعل الخير، ثم إن كان محتاجاً إلى غيره، كان معاوضاً لا محسناً متفضلاً، وكان فيه نقص من وجه آخر، فإذا كان مع

ص: 87

هذا غني عن الغير، لم يفعل إلا لمجرد الإحسان والرحمة، وهذا غاية الكمال.

وقد نزه الله سبحانه نفسه في القرآن عما زعمته النصارى من الولد الشريك، فقال تعالى:{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه} [النساء: 171] .

وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا} [المائدة: 17] .

وقال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} [المائدة: 73-74] .

ثم إنه جمع اليهود والنصارى في قوله: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30] .

ومن المعلوم لمن له عناية بالقران أن جمهور اليهود لا تقول: إن عزير ابن الله، وإنما قالت طائفة منهم، كما قد نقل أنه قاله فنحاص بن

ص: 88

عازورا، أو هو وغيره.

وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل، ولكن الخبر عن الجنس.

كما قال: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] ، فالله سبحانه بين هذا الكفر الذي قاله بعضهم وعابه به، فلولا كان ما في التوراة من الصفات التي تقول النفاة إنها تشبيه وتجسيم، فإن فيها من ذلك ما تنكره النفاة وتسميه تشبيهاً وتجسيماً، بل فيه إثبات الجهة وتكلم الله بالصوت، وخلق آدم على صورته وأمثال هذه الأمور.

فإن كان هذا مما كذبته اليهود وبدلته، كان إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وبيان ذلك أولى من ذكر ما هو دون ذلك، فكيف والمنصوص عنه موافق للمنصوص في التوراة؟ فإنك تجد عامة كما جاء به الكتاب والأحاديث في الصفات موافقاً مطابقاً لما ذكر في التوراة، وقد قلنا قبل ذلك إن هذا كله مما يمتنع في العادة توافق المخبرين به من غير مواطأة.

وموسى لم يواطئ محمداً، ومحمد لم يتعلم من أهل الكتاب.

فدل

ص: 89

ذلك على صدق الرسولين العظيمين، وصدق الكتابين الكريمين.

وقلنا: إن هذا لو كان مخالفاً لصريح المعقول لم يتفق عليه مثل هذين الرجلين، اللذان هما وأمثالهما أكمل العالمين عقلاً، من غير أن يستشكل ذلك وليهما المصدق، ولا يعارض بما يناقضه عدوهما المكذب، ويقولان: إن إقرار محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب على ذلك، من غير أن يبين كذبهم فيه، دليل على أنه ليس مما كذبوه وافتروا على موسى مع أن هذا معلوم بالعادة، فإن هذا في التوراة كثير جداً، وليس لأمة كثيرة عظيمة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها، غرض في أن تكذب على من تعظمه غاية التعظيم، بما يقدح فيه، وتبين فساد أقواله، ولكن لهم غرض في أن يكذبوا كذباً يقيمون به رياستهم وبقاء شرعهم، والقدح فيما جاء به من ينسخ شيئاً منها، كما لهم غرض في الطعن على عيسى بن مريم وعلى محمد صلى الله عليهما وسلم، فإذا قالوا ما هو من جنس القدح فيه عيسى ومحمد كان تواطؤهم على الكذب فيه ممكن، فإما إذا قالوا ما هو من جنس القدح في موسى فيمتنع تواطؤهم على ذلك في العادة، مع علمهم بأنه يقدح في موسى، كما يمتنع تواطؤ النصارى على ما يعلمون انه قدح في المسيح.

ص: 90

وأما المسلمون فقد عصمهم الله من أن يتفقوا على خطأ، لكن يعلم بمطرد العادات انه يمتنع تواطؤهم على ما يعلمون أن قدح في نبوته، فإن هذا لا يفعله إلا من هو مبغض له مكذب، ونحن نعلم أن اليهود لم يتفقوا على ضرب موسى وتكذيبه، ولا اتفقت النصارى على بغض المسيح وتكذيبه، فضلاً عن أن تتفق طائفة من المسلمين على بغض محمد وتكذيبه، وإذا اتفقت طائفة على بغضه وتكذيبه، مثل غالية الإسماعيلية والخزمية الباطنية وأمثالهم، لم تكن هذه الطائفة من أهل الإيمان به، وقد انكشف - ولله الحمد - أمرهم، وانهتك سترهم.

وقد تتفق الطائفة على قول يكون متضمناً للقدح فيمن تعظمه ولا يعلم ذلك، كما يتفق مثل ذلك للنصارى والرافضة، وأمثالهم من جهال الطوائف، الذين اعتقدوا عقائد فاسدة فظنوها حقاً، وكذب بعضهم فنقلها لهم عن المسيح أو علي، فصدقوا ذلك الناقل، لا لثبوت صدقه عندهم، لكن لموافقته لهم فيما يعتقدونه.

وهذا سبب كثرة الكذب والضلال بين النصارى والرافضة والغلاة من العامة وغيرهم، وإذا كان كذلك فهذه الأقوال التي في التوراة: إن كانت مخالفة لصريح العقل لم يكن في إضافتها إلى موسى إلا بطريق القدح فيه، فيمتنع اتفاق اليهود على نقلها عنه، وإن لم تكن مخالفة لصريح العقل، لم يكن حينئذ في نقلها عن موسى محذور.

فثبت أن لا يجوز تكذيب نقل هذه عن موسى لاعتقاده مخالفتها بالعقل الصريح.

ص: 91

فإن قيل: إن الذي كذبها لهم كان يعتقد صدقها، أو كان غرضه إضلالهم، كما أن كثيراً من هذه الأمة يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أكاذيب لاعتقاده أنها حق صحيح يجب على الناس قبوله، فيكذب أحاديث في ذلك ليقبل الناس ما يعتقده، كما وقع مثل هذا لطوائف من أهل البدع والكلام، وبعض المتفقهة والمتزهدة، مثل الجويباري الذي كان يكذب للمرجئة والكرامية وغيرهم أحاديث توافق قولهم، ومثل بعض المتفقهة الذين كذبوا أحاديث توافق رأيهم لاعتقادهم أنه صدق، ومثل طائفة من أهل الزهد والعبادة كذبوا أحاديث في الرتغيب والترهيب، وقالوا: نحن كذبنا له ما كذبنا عليه، ومثل الذين كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة وغير ذلك، وغير ذلك، لظنهم أن موجب ذلك حق، أو لغرض آخر.

وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل ليهجنوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه، مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلاً فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق، فإن هذا الحديث وأمثاله لا يكذبه من يعتقد صدقه لظهور

ص: 92

كذبه، وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس، كما يقولون: إنه وضعه بعض أهل الأهواء، ليقول: أن أهل الحديث يروون مثل هذا، ومع هذا فكل أهل الحديث متفقون على لعنة من وضعه.

ومما يشبه ذلك حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق، فيصافح المشاة ويعانق الركبان، وحديث رؤيته لربه في الطواف، أو رؤيته ليلة المعراج بعين رأسه وعليه تاج يلمع، بل وكل حديث فيه رؤيته لربه ليلة المعراج عياناً، فإنها كلها أحاديث مكذوبة موضوعة، باتفاق أهل المعرفة بأحاديث، لكن الذين وضعوها يمكن أنهم كانوا زنادقة، فوضعوها ليهجنوا بها من يرويها ويعتقدها من الجهال، ويمكن أن الذين وضعوها كانوا من الجهال الذين يظنون مثل هذا حقاً، وأنهم إذا وضعوه قووا الحق، كما وضع كثير من هؤلاء أحاديث في فضائل الصحابة: أبي بكر وعمر وعثمان، لا سيما ما وضعوه في فضائل علي من الأكاذيب، فإنه لا يكاد يحصى، مع أن في فضائلهم الصحيحة ما يغنى عن الباطل، ومثل ما وضعوه في مثالبهم، لا سيما ما وضعته الرافضة في مثالب الخلفاء وغيرهم، فإن فيه من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله.

والمقصود أن المعترض يقول: يمكن أن يكون الذين كذبوا ما في

ص: 93

التوراة من الصفات على موسى، كانوا يعتقدونها فكذبوها، أو كان مقصودهم إضلال اليهود وبث الكذب فيهم لإفساد دينهم.

قيل: هذا القدر يمكن أن يفعله الواحد والاثنان والطائفة القليلة، ولكن هؤلاء إذا حدثوا به عامة اليهود، مع معرفتهم واختلافهم، فلا بد إذا كان معلوماً فساده بصريح العقل أن يرده بعضهم أو يستشكله، ويقول: إن مثل هذا يقدح في موسى، فحيث قبلوه كلهم علم أنهم لم يكونوا يعتقدون أنه فاسد في صريح العقل.

ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات، وإنما حدث فيهم بعد ذلك، لما صار فيهم جهمية: إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله، وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله، فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه، ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة، ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة، كما أن كثيراً من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى، ولهذا أمرنا الله تعالى أن تقول في صلاتنا: {اهدنا الصراط

ص: 94

المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة: 6-7] .

والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال، واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص.

ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك، فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك من اعظم الأسباب، وكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لذلك من أعظم الصواب، ولكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك، من جنس إنكار النفاة.

فنقول إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف، والله منزه عن ذلك، فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم.

ومن المسلمين وأهل الكتاب من يقول بالتجسيد، فلو كان هذا وتجسيماً وتجسيداً يجب إنكاره، لكان الرسول إلى إنكار ذلك أسبق وهو به أحق.

وإن كان الطريق إلى نفي العيوب والنقائص، ومماثلة الخالق لخلقه، هو ما في ذلك من التجسيد والتجسيم، كان إنكار ذلك بهذا الطريق هو الصراط المستقيم، كما فعله من أنكر ذلك بهذا الطريق من القائلين بموجب ذلك من أهل الكلام، فلما لم ينطق النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون، بحرف من ذلك بل كان ما نطق به

ص: 95

موافقاً مصدقاً لذلك، وكان اليهود إذا ذكروا بين يدي أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها.

كما في الصحيحين عن «عبد الله بن مسعود أن يهودياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يوم القيامة يمسك السماوات على إصبع.

والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقول الحبر، ثم قرا قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} [الزمر: 67] » .

وأخبر هو صلى الله عليه وسلم بما يوافق ذلك غيره مرة، كما في حديث ابن عمر الذي في الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر هذه الآية ثم قال: يقول الله: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا المتعال ينجد نفسه.

قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرددها، حتى رجف به المنبر، حتى ظننا انه سيخر به» .

فهذا كله ذكرناه لما بينا أن ما يخالف هذه النصوص من القضايا التي يقال: أنها عقلية ليست مما يحتاج إليه في العلم بصدق الرسول، فاعلم

ص: 96

بطلان قول القائل: إن تقديم النقل على العقل يوجب القدح فيه بالقدح في أصله، حيث تبين أن ذلك ليس قدحاً في أصله.

وهذا الكلام في الأصل هو من قول الجهمية والمعتزلة وأمثالهم، وليس من قول الأشعري وأئمة الصحابة وإنما تلقاه عن المعتزلة متأخرو الأشعرية لما مالوا إلى نوع التجهم، بل الفلسفة، وفارقوا قول الأشعري وأئمة الصحابة، الذين لم يكونوا بمخالفة النقل للعقل، بل انتصبوا لإقامة ادلة عقلية عقلية توافق السمع.

ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، واثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضاً للسمع، بل ما جعله معاضداً له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه العقل.

وهؤلاء خالفوه وخالفوا أئمة الصحابة في هذا وهذا، فلم يستدلوا بالسمع في إثبات الصفات، وعارضوا مدلوله بما ادعوا من العقليات.

والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب الأشعري بقايا من التجهم والاعتزال، مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها، وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة، كالحارث المحاسبي، وأبي علي الثقفي، وأبي بكر بن إسحاق الصبغي، مع أنه قد قيل: إن

ص: 97

الحارث رجع عن ذلك، وذكر عن غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك، وكذلك الصبغي والثقفي قد روي أنهما استتيبا فتابا.

وقد وافق الأشعري على هذه الأصول طوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، منهم من تبين له بعد ذلك الخطأ فرجع عنه، ومنهم من اشتبه عليه ذلك، كما اشتبه غير ذلك على كثير من المسلمين، والله يغفر لمن اجتهد في معرفة الصواب من جهة الكتاب والسنة، بحب عقله وإمكانه وإن أخطأ في بعض ذلك.

والمقصود أنه لم يكن في المنسوبين إلى السنة ولو كان فيه نوع من البدعة، من يزعم أن صريح المعقول يخالف مدلول الكتاب والسنة، بل كل من تكلم بذلك كان عند الأمة من أهل البدع المضلة، فضلاً عن أن يقال: إن ما به يعلم صدق الرسول من المعقول مناقض لمدلول الكتاب والسنة، وإذ هذا كلام يفتح على صاحبه من الزندقة والإلحاد ما يخرجه عن طرد قوله إلى غاية الجهل والضلال والكفر والإلحاد، وإن لم يطرد قول ظهر منه من التناقض والفساد ما لا يوافقه عليه لا أهل التوحيد والحق والإيمان ولا طائفة من طوائف العباد.

وبهذا كان يصف الأشعري كل من يواليه ويحبه من المنسوبين إلى السنة والجماعة، كما في رسالة أبي بكر البيهقي التي كتبها إلى بعض ولاة الأمور لما كان وقع بخراسان من لعنة أهل البدع ما وقع، وقصد بعض

ص: 98