الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم بين سبحانه أنه مبدع للسماوات والأرض، والإبداع خلق الشيء على غير مثال، بخلاف التولد الذي يقتضي تناسب الأصل والفرع وتجانسهما.
والإبداع خلق الشيء بمشيئة الخالق وقدرته، مع استقلال الخالق له وعدم شريك له، والتولد لا يكون إلا بجزء من المولد بدون مشيئته وقدرته، ولا يكون إلا بانضمام أصل آخر إليه.
تعليق ابن تيمية
وقال تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} ، فبين بطلان كون الولد له من غير صاحبة لقوله:{ولم تكن له صاحبة} ، فإن التولد لا يكون إلا من أصلين، وليس في الموجودات ما يكون وحده مولداً لشيء، بل قد خلق الله تعالى من كل شيء زوجين، وهو سبحانه الفرد الذي لا زوج له.
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين فساد قول المتفلسفة الذين يقولون: لا يصدر عن الواحد إلا واحد، حتى قالوا: إن الواجب لم يصدر عنه أولاً إلا العقل، ثم بتوسط العقل صدر عقل ونفس وفلك.
وهذا الكلام، وإن كان فساده معلوماً من وجوه كثيرة، كما قد بسط في موضعه، فالمقصود هنا أنه ليس في الموجودات الواحد البسيط الذي يصفونه، وهو المجرد عن جميع صفات الإثبات الذي لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات، بل هذا الواحد لا حقيقة له.
وأيضاً فإنه لا يعرف في الوجود واحد صدر عنه بمجرده شيء، وما يمثلون به من أن النار لا يصدر عنها إلا الإحراق والتسخين، والماء لا يصدر عنه إلا التبريد، والشمس يصدر عنها الشعاع، ونحو ذلك كلها حجج عليهم، فإن هذه الآثار لم تصدر عن مجرد هذه الأجسام وطبائعها، بل لا تكون السخونة والإحراق إلا عن شيئين: أحدهما: النار أو الشعاع أو الحركة، فإن هذه الثلاثة من أسباب السخونة.
والثاني: محل قابل لذلك، كبدن الحيوان والنبات، ونحو ذلك، وإلا فالسمندل والياقوت وغيرهما لما لم تكن فيه قوة القبول لم تحرقه النار.
وكذلك الشعاع لا بد له من محل يقبل الانعكاس عليه، وإلا فإذا لم يكن هناك جسم قابل له لم يحدث الشعاع.
وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن الأول الواجب الوجود، الذي
يسمونه العلة، هو ذات بسيطة، ليس له نعت من النعوت، وأنه صدر عنه عقل هو واحد بسيط أيضاً لأنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد ثم صدر عنه عقل ونفس وفلك، وليس هذا نظير ما يمثلون به من الآحاد، فإن آثارها كانت بمشاركة من القوابل الموجودة، وهنا كل ما سوى الأول فهو معلول له، ليس هناك موجود غيره ليشترك هو وذلك الموجود في ذلك، كاشتراك الشمس والمطارح القابلة، واشتراك النار والموارد القابلة.
فقوله تعالى: {أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} ، بيان أن التولد لا يكون إلا بين اثنين وهو سبحانه لا صاحب له فكيف يكون له ولد.
وهذا القدر لما كان مستقر في فطر الناس كان عامة ما يسمونه تولداً ونتاجاً إنما يكون عن أصلين، فالأمور التي تسمى متولدات - كالشبع والري ونحو ذلك - إنما حدثت عن أصلين: فعل العبد، والأسباب الأخر المعاونة له.
وكذلك النظار يقولون: النتيجة لا تكون إلا عن مقدمتين ويشبهون حصول النتيجة عن المقدمتين بحصول النتاج عن الأصلين من
الحيوان، لأن هذين أصلان في التوليد، وهذين أصلان في التولد.
ثم قال تعالى: {وخلق كل شيء} ، وذلك بيان لأنه إذا كان خالقاً لجميع الأشياء، فكيف يكون فيها ما هو متولد عنه؟ والجمع بين الخلق والتوليد ممتنع، كما يمتنع الجمع بين التولد والتعبد.
وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون} ، حتى أنه استدل بهذا طائفة من الفقهاء على أن ولد الإنسان يعتق عليه إذا ملكه، فلا يكون عبده من هذه الآية، لأنه سبحانه بين تنافي التوليد والتعبيد.
وهذا الحكم معلوم بأدلة أخرى، كما في الصحيح «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مجح على باب فسطاط، فقال: لعل صاحبها يلم بها؟ قالوا: أجل قال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستعبده وهو لا يحل له؟»
فبين صلى الله عليه وسلم أنه إذا وطىء تلك الحبلى وسقى ماءه زرع غيره، فإنه بتلك الزيادة التي تحصل منه في الجنين، يصير شريكاً له في التولد، وحينئذ فلا يحل له أن يستعبده، ولا أن يجعله موروثاً عنه، كما يورث ماله، فإذا كان هذا بمشاركته في التولد مع أن الولد قد انعقد من ماء غيره، فكيف بالولد الذي انعقد منه؟
وكذلك قوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} كما، قال في الآية الأخرى:{لقد أحصاهم وعدهم عدا} ، فإن إحاطة العلم والعد بهم فيه بيان أنه لا يكون منهم إلا ما يعلمه، لا ينفردون عنه بشيء، كما ينفرد الولد عن والده، والشريك عن شريكه.
وقوله في الآية الأخرى: {بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} ، بيان لكونه سبحانه يخلق الأشياء بكلمته، وأنها منقادة له، فإذا قال له: كن، كانت.
وهذا مناف للتوليد، بل خلق المسيح عليه السلام بكلمة (كن) .
وقد علم في الشاهد أن من يدبر الأشياء بمجرد كلمته ليس كالذي يحتاج إلى أن تولد منه الأشياء، فكيف يوصف بالتولد وهو سبحانه في جميع ما يقضيه إنما يقول له: كن فيكون؟
وأما ما ذكره من قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول} ، وقول ذلك القائل: من أنكر الخلق فلم ينكره لأجل كونه عيي بالخلق الأول.
فيقال له: مثل هذا الكلام إذا قاله ملحد طاعن في القرآن، كان فيه الدلالة على جهله وضلاله ما لا يقدر على وصفه الإنسان.
وذلك أن الله تعالى في كتابه ذكر من دلائل المعاد وبراهينه ما لا يقدر أحد على أن يأتي بقريب منه، وذكر فيه من أصناف الحجج ما ينتفع به عامة الخلق.
فإنه سبحانه دل على إمكان إحياء الموتى وقدرته على ذلك بطريق الوجود والعيان، وبطريق الاعتبار والبرهان، والأول أعظم الطريقين، فلا شيء أدل على إمكان الشيء من وجوده.
فذكر في كتابه ما أحياه من الموتى في غير موضع.
كما قال تعالى في سورة البقرة: {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} ، فهذه في قصة موت بني إسرائيل الذين سألوه الرؤية.
وقال في قصة البقرة: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} .
وقال في الذين خرجوا من ديارهم: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس} ، الآية - وهي قصة معروفة.
وقال تعالى: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم
لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} ، فقص هذه القصة التي فيها موت البشر مائة عام، وموت حماره، ومعه طعامه وشرابه، ثم إحياء هذا الميت وإحياء حماره وبقاء طعامه وشرابه لم يتغير ولم يفسد، وهو في دار الكون والفساد التي لا يبقى فيها في العادة طعام وشراب بدون التغير بعض هذه المدة، وهذا يبين قدرته على إحياء الآدميين والبهائم، وإبقاء الأطعمة والأشربة لأهل الجنة في دار الحيوان بأعظم الدلالات.
وذكر بعد ذلك قول إبراهيم: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم} ، فأمره بخلط الأطيار الأربعة مثلاً مضروباً لاختلاط الأخلاط الأربعة، ثم أحيى الأطيار، وميز بين هذا وهذا، وجعلهن يأتين سعياً إجابة
لدعوة الداعي، فكان في ذلك من الدليل ما لا يخفى على ذي تحصيل.
فهذه خمس قصص في إحياء الآدميين، وقصة في إحياء البهائم، وقصة في إبقاء الطعام والشراب، وقصة في إحياء الطير.
وذلك في غير هذا موضع إحياء المسيح صلى الله عليه وسلم للموتى، وذكر قصة أصحاب الكهف وبقاءهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين نياماً لا يأكلون ولا يشربون وهم أحياء لم يفسدوا.
وقال في القصة: {وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} .
فهذه القصص فيها من الإخبار بالموجود ما هو من أعظم الدلائل على القدرة والإمكان لإحياء الله الموتى.
وصدق هذه الأخبار يعلم بما به يعلم صدق الرسول، ويعلم بأخبار أخرى من غير طريق الرسول، وإخبارهم بها من أعلام نبوته، كما قد بسط في موضع آخر.
وأما الصنف الثاني، وهو طريق إثبات الإمكان والقدرة بالاعتبار والقياس بطريق الأولى، فإنه سبحانه يستدل على ذلك تارةً بخلق النبات، ويبين أن قدرته على إحياء الموتى كقدرته على إنبات النبات.
وتارةً يستدل على ذلك بخلق الحيوان نفسه، وأن قدرته على الإعادة كقدرته على الابتداء وأولى.
وتارةً يبين ذلك بقدرته على خلق السماوات والأرض، كما في قوله تعالى:{يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} .
وفي هذا الكلام العزيز من أنواع الاعتبار ما لا يحتمله هذا المكان.
فبين أن إخراج النبات بالماء مما يتذكر به إخراج الموتى من قبورهم.
وقال تعالى: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور}
وقال تعالى: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} .
وقال تعالى: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} .
وقال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} .
وقد بين سبحانه من حجج منكري المعاد، والجواب عنها وتقريره ما يطول هذا الموضع باستقصائه، كما في قوله:{وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} .
إلى آخر الآيات، وهذا باب واسع ليس هذا موضع بسطه.
فأما الآية التي ذكرها القائل التقدم، وهي قوله:{أفعيينا بالخلق الأول} .
فإن العرب تقول: عي وعيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه، ويقول الرجل: عييت بأمري إذا لم يهتد لوجهه، وأعياني هو.
وقال الشاعر:
عيوا بأمرهم كما
…
عييت ببيضتها الحمامة
فالعيي بالأمر يكون عاجزاً عنه مثل أن لا يدري ما يفعل فيه.
فقال سبحانه باستفهام الإنكار المتضمن نفي ما استفهم عنه، وأن ذلك معلوم عند المخاطب:{أفعيينا بالخلق الأول} ، فلم نكن عالمين بما نصنع فيه، ولا قادرين عليه؟ أم خلقناه بعلمنا وقدرتنا، وأتنيا فيه من الإحكام والإتقان بما دل على كمال علمنا وحكمتنا وقدرتنا؟
وهذا نظير قوله: {أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات