الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رد ابن حزم
قال ابن حزم: (فاحتج من أوجب الاستدلال بالإجماع على أن التقليد مذموم، وما لم يعرف بالاستدلال فهو تقليد) .
(قالوا والديانات لا يعرف حقها من باطلها بالحس، لا يعلم إلا بالاستدلال، ومن لم يحصل له العلم فهو شاك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه من المسؤول في قبره.
وقال في الجواب: (التقليد أخذ المرء قول من هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لم يأمرنا الله باتباعه وأخذ قوله، بل حرم علينا ذلك.
وأما أخذ قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي
فرض الله تصديقه وطاعته فليس تقليداً، بل إيمان وتصديق، واتباع للحق، وطاعة الله ورسوله) .
قال: (فموه هؤلاء الذين أطلقوا على الحق - الذي هو اتباع الحق - اسم التقليد، الذي هو باطل.
والقرآن إنما هو ذم فيه تقليد الآباء والكبراء والسادة في خلاف ما جاءت به الرسل، وأما اتباع الرسل فهو الذي أوجبه، لم يذم من اتبعهم أصلاً) .
قال: (وأما احتجاجهم بأنه لا تعرف الأشياء إلا بالدلائل، وبأن ما لم يصح به دليل فهو دعوى، ولا فرق بين الصادق والكاذب بنفس قولهما، فإن هذا ينقسم قسمين.
فمن كان من الناس تنازعه نفسه إلى تصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يسمع الدلائل، فهذا فرض عليه طلب الدليل، إلا أنه مات شاكاً أو جاحداً قبل أن يسمع من البرهان ما تثلج به نفسه، فقد مات كافراً، وهو مخلد في النار، بمنزلة من لم يؤمن ممن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأى المعجزات، فهذا أيضاً لو مات قبل أن يرى المعجزات مات كافراً بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام، وإنما أوجبنا على من هذه صفته طلب البرهان، لأن فرضاً عليه طلب ما فيه نجاته من الكفر.
والقسم الثاني: من استقرت نفسه إلى تصديق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وسكن قلبه إلى الإيمان، ولم تنازعه نفسه إلى طلب دليل، توفيقاً من الله له، وتيسيراً له لما خلق له من الخير والحسنى، فهؤلاء لا يحتاجون إلى برهان، ولا إلى تكليف استدلال.
وهؤلاء هم جمهور الناس من العامة والنساء والتجار والصناع والأكراه والعباد، وأصحاب الحديث الأئمة، الذين يذمون الكلام والجدل والمراء في الدين) .
قال: (وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} .
وقال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} .
قال: (فقد سمى الله راشدين القوم الذين زين الإيمان في قلوبهم وحببه إليهم، وكره إليهم المعاصي، فضلاً منه ونعمة وهذا هو خلق الله الإيمان في قلوبهم ابتداءً، وعلى ألسنتهم،
ولم يذكر الله في ذلك استدلالاً أصلاً.
وليس هؤلاء مقلدين لآبائهم ولا لكبرائهم، لأن هؤلاء مقرون بألسنتهم، محققون في قلوبهم، أن آباءهم ورؤساءهم لو كفروا لما كفروا هم، بل كانوا يستحلون قتل آبائهم ورؤسائهم والبراءة منهم، ويحسون من أنفسهم النفار العظيم عن كل من سمعوا منه ما يخالف الشريعة، ويرون أن حرقهم بالنار أخف عليهم من مخالفة الإسلام) .
قال: (وهذا أمر قد عرفناه من أنفسنا حساً، وشاهدناه في ذواتنا يقيناً، فلقد بقينا سنين كثيرة لا نعرف الاستدلال ولا وجوهه، ونحن - ولله الحمد - في غاية اليقين بدين الإسلام، وكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وفي غاية سكون النفس إليه، وفي غاية النفار عن كل ما يعترض فيه بشك، وكانت تخطر في قلوبنا خطرات سوء في خلال ذلك ينبذها الشيطان، فنكاد
لشدة نفارنا عنها أن نسمع خفقان قلوبنا استبشاعاً لها، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن ذلك، فقيل له: إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يقدم فتضرب عنقه أحب إليه من أن يتكلم به.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك محض الإيمان، وأخبر أنه وسوسة الشيطان، ثم تعلمنا طرق الاستدلال وأحكمناها - ولله الحمد والمنة - فما زادنا يقيناً على ما كنا، بل عرفنا أننا كنا ميسرين للحق، وصرنا كما عرف وقد أيقن يكون - الفيل سماعاً ولم يره، ثم رآه، فلم يزدد يقيناً بصحة إنيته أصلاً، لكن أرانا صحيح الاستدلال رفض بعض الآراء الفاسدة التي نشأنا عليها فقط) .
قال: وإن المخالفين لنا ليعرفون من أنفسهم ما ذكرنا، إلا أنهم يلزمهم أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر قبل استدلالهم ولا بد، فصح بما قلنا أن كل من محض اعتقاد الحق بقلبه، وقاله
بلسانه، فهم مؤمنون محققون.
ليسوا مقلدين أصلاً، وإنما كانوا مكذبين مقلدين لو أنهم قالوا واعتقدوا أننا إنما نتبع في الدين آباءنا وكبراءنا فقط، ولو أن آباءنا وكبراءنا تركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم لتركناه، فلو قالوا هذا واعتقدوه لكانوا مقلدين كفاراً غير مؤمنين، لأنهم إنما اتبعوا آباءهم وكبراءهم الذين نهوا عن اتباعهم، لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمروه باتباعه) .
قال: (وإنما كلق الله الإتيان بالبرهان - إن كانوا صادقين - الكفار المخالفين لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نص الآية، ولم يكلف قط المسلمين الإتيان بالبرهان، ولا أسقط اتباعهم حتى يأتوا بالبرهان.
والفرق بين الأمرين واضح وهو أن كل من خالف النبي صلى الله عليه وسلم فلا برهان له أصلاً، فكلف المجيء بالبرهان تبكيتاً وتعجيزاً، وإن كانوا صادقين - وليسوا
صادقين - فلا برهان لهم، وأما من اتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الحق الذي قامت البراهين بصحته، ودان بالصدق الذي قامت الحجة البالغة بوجوبه، فسواء علم هو بذلك - أي البرهان - أو لم يعلم، حسبه أنه على الحق الذي صح البرهان به، ولا برهان على سواه، فهو محق مصيب) .
قال: (وأما قولهم: ما لم يكن علماً فهو شك وظن، والعلم هو اعتقاد الشيء على ما هو به عن ضرورة أو استدلال.
قالوا: والديانات لا تعرف صحتها بالحواس ولا بضرورة العقل، فصح أنه لا تعرف صحتها إلا بالاستدلال، فإن لم يستدل المرء فليس عالماً، وإذا لم يكن عالماً فهو جاهل شاك أو ظان، وإذا كان لا يعلم الدين فهو كافر.
قال: فهذا ليس كما قالوا، لأنهم قضوا قضية باطلة فاسدة بنوا عليها هذا الاستدلال، وهي إقحامهم في حد العلم قولهم عن ضرورة أو استدلال.
هذه زيادة فاسدة لا نوافقهم عليها، ولا جاء بتصحيحها قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا لغة، ولا طبيعة،
ولا قول صاحب.
وحد العلم على الحقيقة أنه اعتقاد الشيء على ما هو به فقط، وكل من اعتقد شيئاً على ما هو به ولم يتخالجه شك فيه فهو عالم به، وسواء كان عن ضرورة حسً، أو عن بديهة عقل، أو عن برهان استدلال، أو عن تيسير الله عز وجل له، وخلقه لذلك المعتقد في قلبه، ولا مزيد ولا يجوز البتة أن يكون محقق في اعتقاد شيء، كما هو ذلك الشيء، وهو غير عالم به، وهذا تناقض وفساد وتعارض) .
قال: وقول النبي صلى الله عليه وسلم في مساءلة الملك حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال فيه: «فأما المؤمن أو الموقن فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، ولم يقل: فأما المستدل.
فحسبنا نور المؤمن الموقن، كيف كان إيمانه ويقينه.
و «قال صلى الله عليه وسلم: وأما المنافق أو المرتاب» - ولم يقل: غير المستدل - فيقول: «سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته» ، فنعم هذا هو قولنا، لأن
المنافق والمرتاب ليسا موقنين ولا مؤمنين، وهذا مقلد للناس لا محقق، فالخبر حجة عليهم كافية.
وأما قولهم: إن الله قد ذكر الاستدلال في غير موضع من كتابه وأمر به وأوجب العلم به، والعلم به لا يكون إلا عن استدلال، فهذا أيضاً زيادة أقحموها وهي قولهم: وأمر به.
فهذا لا يجدونه أبداً، ولكن الله ذكر الاستدلال وحض عليه، ونحن لا ننكر الاستدلال، بل هو فعل حسن مندوب إليه، محضوض عليه كل من أطاقه، لأنه مزيد من الخير، وهو فرض على كل من لم تسكن نفسه إلى التصديق، وإنما ننكر كونه فرضاً على كل أحد لا يصح إسلام أحد دونه، فهذا هو الباطل المحض.
وأما قولهم: إن الله أوجب العلم به، فنعم.
وأما قولهم: والعلم لا يكون إلا عن استدلال، فهذا هو الدعوى الكاذبة التي أبطلناها آنفاً.
وأول بطلانها أنه دعوى بلا برهان) .
قال: (فسقط قولهم إذ تعرى من البرهان، وكان دعوى منهم مفتراه لم يأت بها نص قط ولا إجماع.
ونحن ذاكرون البراهين على بطلان قولهم.
يقال لمن قال: لا يكون مسلماً إلا من
استدل أخبرنا: متى يجب عليه فرض الاستدلال؟ أقبل البلوغ أو بعده؟ فأما الطبري.
فإنه أجاب بأن واجب قبل البلوغ.
قال ابن حزم: وهذا خطأ، لأن من لم يبلغ ليس مكلفاً ولا مخاطباً) .
قال: وأما لاأشعرية فإنهم أتوا بما يملأ الفم، وتقشعر منها جلود أهل الاسلام، وتصطك منه المسامع، ويقطع ما بين قائلها وبين الله، وهو أنهم قالوا: لا يلزم طلب الأدلة إلا بعد البلوغ.
ولم يقنعوا بهذه الجملة حتى كفونا المؤونة، وصرحوا بما كنا نريد أن نلزمهم، فقالوا غير مساترين: لا يصح إسلام أحد بأن يكون بعد بلوغه شاكاً غير مصدق.
قال: وما سمعنا قط في الكفر والانسلاخ من الإسلام بأشنع من قول هؤلاء القوم: إنه لا يكون أحد مسلماً حتى يشك في الله عز وجل، وفي صحة النبوة، وفي هل رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق أو كاذب؟ ولا سمع قط سامع في الهوس