المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق

- ‌تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام آخر للرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌رسالة البيهقي في فضائل الأشعري

- ‌كلام الأشعري في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌اعتراض يذكر نفاة الصفات

- ‌بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الجواب التاسع

- ‌الوجه الرابع والأربعون

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في البرهان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام الغزالي في الإحياء

- ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الشهرستاني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي نصر السجزي في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية

- ‌عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

- ‌كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية

- ‌كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة

- ‌كلام الباقلاني شرح اللمع

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌كلام الخطابي في كتاب شعار الدين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

- ‌القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

- ‌كلام الآمدي في الأبكار

- ‌كلام أبي الحسن الطبري الكيّا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن حزم في الفصل

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري

- ‌رد ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في نفي وجوب النظر

- ‌كلام أبي إسحاق الإسفراييني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في وجوب النظر

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن الزاغوني

- ‌تعليق ابن تيمية

الفصل: ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

مذمومان؟ فاعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام في الأدلة التي ينتفع بها فالقرآن والأخبار مشتملة عليه، وما خرج عنه فهو: إما مجادلة مذمومة، وهي من البدع، وإما مشاغبات بالتعلق بمناقضات الفرق، وتطويل وقت بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات تزدريها الطباع، وتمجها الأسماء، وبعضها خوض في ما لا يتعلق بالدين، ولم يكن شيء منها مألوفاً في العصر الأول، فكان الخوض فيه بالكلية من البدع.

‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

قال أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب: (ووقفت على ما التمسوه من ذكر الأصول التي عول

ص: 186

سلفنا رحمة الله عليهم عليها وعدلوا إلى الكتاب والسنة من أجلها، واتباع خلفنا الصالح لهم في ذلك، وعدولهم عما صار إليه أهل البدع من المذاهب التي أحدثوها، وصاروا إلى مخالفة الكتاب والسنة بها، وما ذكرتم من شدة الحاجة إلى ذلك، فبادرت - أيدكم الله - بإجاباتكم إلى ما التمسوه، وذكرت لهم جملاً من الأصول، مقرونة بأطراف من الحجاج، تدلكم على صوابكم في ذلك، وخطأ أهل البدع فيما صاروا إليه من مخالفتهم، وخروجهم عن الحق الذي كانوا عليه قبل هذه البدع معهم، ومفارقتكم بذلك الأدلة الشرعية، وما أتى به الرسول منها ونبه عليها، وموافقتكم بذلك لطرد الفلاسفة الصادين عنها، والجاحدين لما أتت به الرسل صلوات الله عليهم منها: اعلموا - أرشدكم الله - أن الذي

ص: 187

مضى عليه سلفنا وأتباعهم من صالح خلفنا: أن الله تعالى بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى سائر العالمين وهم أحزاب متشتتون، وفرق متباينون: منهم كتابي يدعو إلى الله بما في كتابه، وفلسفي قد تشعبت به الأباطيل في أمور يدعيها بقضايا العقول وبرهمي يمكن أن يكون لله رسول، ودهري يدعي الإهمال ويخبط في عشواء الضلال، وثنوي قد اشتملت عليه الحيرة، ومجوسي يدعي ما ليس له به خبرة، وصاحب صنع يعكف عليه ويزعم أن له رباً يتقرب بعبادة ذلك الصنم إليه، لينبههم جميعاً على حدثهم، ويدعوهم إلى توحيد المحدث لهم، ويبين لهم طرق معرفته، بما فيهم من آثار صنعتهم ويأمرهم برفض كل ما كانوا عليه من سائر الأباطيل، بعد تنبيهه عليه السلام لهم على فسادها، ودلالته على صدقه فيما يخبرهم به عن ربهم بالآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، ويوضح لهم سائر

ص: 188

ما تعبدهم الله به من شريعته، وأنه عليه السلام دعا

جماعتهم إلى ذلك، ونبههم على حدثهم، بما فيهم من اختلاف الصور والهيئات، وغير ذلك من اختلاف اللغات، وكشف لهم عن طريق معرفة الفاعل لهم، بما فيهم وفي غيرهم مما يقتضي وجوده، ويدل على إرادته وتدبيره، حيث قال عز وجل:{وفي أنفسكم أفلا تبصرون} [الذاريات: 21] ، فنبههم عز وجل بتقلبهم في سائر الهيئات التي كانوا عليها على ذلك.

وشرح لهم ذلك بقوله سبحانه: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 12-14] .

وهذا مما أوضح ما يقتضي الدلالة على حدث الإنسان

ص: 189

ووجود المحدث له من قبل أن العلم قد أحاط بأن كل متغير لا يكون قديماً، وذلك أن تغيره يقتضي مفارقة حال كان عليها قبل تغيره، وكونه قديماً ينفي تلك الحال، فإذا حصل متغيراً بما ذكرناه من الهيئات التي لم يكن قبل تغيره عليها، دل ذلك على حدوثها وحدوث الهيئة التي كان عليها قبل حدوثها، إذ لو كانت قديمة لما جاز عدمها، وذلك أن القديم لا يجوز عدمه، وإذا كان هذا على ما قلنا، وجب أن يكون ما عليه الأجسام من التغير منتهياً إلى هيئات محدثة، ولم تكن الأجسام قبلها موجودة، بل كانت معها محادثة، ويدل ترتيب ذلك على محدث قادر حكيم من قبل أن ذلك لا يجوز أن يقع بالاتفاق، فيتم من غير مرتب له، ولا قاصد إلى ما وجد منه فيها، دون ما كان يجوز وقوعها عليه من الهيئات المخالفة لها، وجواز تقدمها في الزمان وتأخرها، وحاجتها بذلك إلى محدثها ومرتبها، لأن سلالة الطين والماء المهين

ص: 190

بنفسه، لا يجوز أن يقع شيء من ذلك فيها بالاتفاق، لاحتمالها لغيره، فإذا وجدنا ما صار إليه الإنسان في هيئته المخصوصة به دون غيره من الأجسام، وما فيه الآلات المعدة لمصالحه: كسمعه وبصره وشمه وحسه وآلات ذوقه، وما أعد له من آلات الغذاء التي لا قوام له إلا بها، على ترتيب ما قد أحوج إليه من ذلك، حتى يوجد في حال حاجته إلى الرضاع بلا أسنان تمنع من غذائه، وتحول بينه وبين مرضعته، فإذا نقل من ذلك وخرج إلى غذاء لا ينتفع به، ولا يصل منه إلا غرضه إلا بطحنها له جعل له منها بقدر ما به الحاجة في ذلك إليه، والمعدة المعدة لطبخ ما يصل إليها من ذلك، وتلطيفه حتى يصل إلى الشعر والظفر، وغير ذلك من سائر الأعضاء في مجاز لطاف، قد هيئات لذلك بمقدار ما يقيمها، والكبد المعدة لتسخينها بما يصل من حرارة القلب،

ص: 191

والرئة المهيأة

لإخراج بخار الحرارة التي في القلب، وإدخال ما يعتدل به من الهواء البارد، باجتذاب المناخر، وما فيها من الآلات المعدة كخروج ما يفضل من الغذاء عن مقدار الحاجة، في مجاز ينفذ ذلك منها، وغير لك مما يطول شرحه، مما لا يصح وقوعه بالاتفاق، ولا يستغني في ما هو عليه عن مقوم له يرتبه، إذا كان ذلك لا يصح أن يترتب وينقسم في سلالة الطين والماء المهين بغير صانع لها مدبر، عند كل عاقل متأمل، كما لا يصح أن تترتب الدار على ما تحتاج إليه فيها من البناء بغير مدبر ينقسم ذلك فيها، ويقصد إلى ترتيبها.

ثم زادهم الله تعالى في ذلك بياناً بقوله عز وجل: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار

ص: 192

لآيات لأولي الألباب} [آل عمران: 190] ، فدلهم تعالى بحركة الأفلاك على المقدار الذي بالخلق الحاجة إليه في مصالحهم، التي لا تخفى مواقع انتفاعهم، بها كالليل الذي جعل لسكونهم، ولتبريد ما زاد عليهم من حر الشمس في زروعهم وثمارهم، والنهار الذي جعل لانتشارهم وتصرفهم في معايشهم، على القدر الذي يحتملونه في ذلك.

ولو كان دهرهم كله ليلاً لأضر بهم ما فيه من الظلمة، التي تقطعهم عن التصرف في مصالحهم، وتحول بينهم وبين إدراك منافعهم، وكذلك لو كان دهرهم كله نهاراً، لأضر بهم ذلك ودعاهم إلى ما فيه من الضياء إلى التصرف في طلب المعاش مع حرصهم على ذلك، إلى ما لا يطيقونه، فأداهم قلة الراحة إلى عطبهم، فجعل لهم من النهار قسطاً لتصرفهم، لا يجوز بهم قدر الطاقة فيه، وجعل لهم من الليل قسطاً لسكونهم، لا يقتصر عن درك حاجتهم، لتعتدل في ذلك

ص: 193

أحوالهم، وتكمل مصالحهم، وجعل لهم من الحر والبرد فيهما، بمقدار ما لهم من ثمارهم ولمواشيهم من الصلاح، رفقاً لهم وجعل لون ما يحيط بهم من السماء ملاوماً لأبصارهم، ولو كان لونها على اختلاف ذلك من الأولون لأفسدها، ودلهم على حدثها، بما ذكرناه من حركتها، واختلاف هيئاتها، كما ذكرنا أنفاً، ودلهم على حاجتها وحاجة الأرض، وما فيهما من الحكم، ومع عظمها وثقل أجرامها إلى إمساكه عز وجل لهما بقوله تعالى:{إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا} [فاطر: 41] .

فعرفنا تعالى أن وقوفهما لا يصح أن يكون من غيره، وأن وقوفهما

ص: 194

لا يجوز ان يكون بغير موقف لهما، ثم نبهنا على فساد قول الفلاسفة بالطبائع، وما يدعونه من فعل الأرض والماء والنار والهواء في الأشجار، وما يخرج منها من سائر الثمار بقوله عز وجل:{وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ثم قال عز وجل {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} [الرعد: 4] .

ثم نبه تعالى خلقه على انه واحد باتساق أفعاله وترتيبها، وأنه تعالى لا شريك له فيها، بقوله عز وجل:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [الأنبياء: 22] .

ووجه الفساد بذلك: لو كان إلهين ما اتسق أمرهما على نظام، ولا يتم إحكام، وكان لا بد أن يلحقهما العجز، أو يحلقهما، عند التمانع في الأفعال والقدرة على ذلك، وذلك أن كل واحد منهما لا يخلو أن يكون قادراً

ص: 195

ما يقدر عليه الآخر على طريق البدل من فعل لآخر، أو لا يكون كل واحد منهما قادراً على ذلك، فإن كان كل واحد منهما قادراً على فعل ما يقدر الأخر بدلاً منه، لم يصح أن يفعل كل واحد منهما ما يقدر عليه الآخر، وإلا بترك الآخر له، وإذا كان كل واحد منهما لا يفعل إلا بترك الآخر له، جاز أن يمنع كل واحد منهما صاحبه من ذلك.

ومن يجوز أن يمنع ولا يفعل إلا بترك غيره له، فهو مذموم عاجز، وإن كان كل واحد منهما لا يقدر على فعل مقدور الآخر بدلاً منه، وجب عجزهما وحدوث قدرتيهما، والعاجز لا يكون إلهاً ولا رباً.

ثم نبه المنكرين للإعادة، مع إقرارهم بالابتداء على جواز إعادته تعالى لهم، حيث قال لهم لما استنكروها وقالوا: من يحي العظام وهي رميم؟ {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل

ص: 196

خلق عليم} ثم أوضح لهم ذلك بقوله: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون} [يس: 79-80] ، فدلهم بما يشاهدونه من جعله النار من العفار والمرخ وهما شجرتان خضراوان إذا حكت أحدهما الأخرى بتحريك الريح لها اشتعل النار فيهما، على جواز إعادته الحياة في العظام والنخرة والجلود المتمزقة.

ثم نبه عباد الأصنام بتعريفه لهم على فساد ما صاروا إلى عبادتها مع نحتها، بقوله تعالى:{أتعبدون ما تنحتون} ثم قال: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 95-96] .

فبين لهم فساد عبادتها، ووجوب عبادته دونها، بأنها إذا كانت لا تصير أصناماً إلا بنحتكم لها، فأنتم أيضاً لن تكونوا على ما أنتم عليه

ص: 197

من الصور والهيئات إلا بفعلي، وإني - مع خلقي لكم وما تنحتونه - خالق لنحتكم، إذ كنت أنا المقدر لكم عليه والممكن لكم منه.

ثم رد على المنكرين لرسله بقوله عز وجل: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} [الأنعام: 191] .

وقال تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165] .

ثم احتج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الكتب بما في كتبهم من ذكر صفته والدلالة على اسمه ونعته، وتحدي النصارى - لما كتموا ما في كتبهم من ذلك وجحدوه - بالمباهلة، عند أمر الله عز وجل له بذلك بقوله: {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من

ص: 198

العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين} آل عمران: 61] .

وقال لليهود لما بهتوه: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} [البقرة: 94] ، فلم يجسر أحد منهم على ذلك، مع اجتماعهم على تكذيبه، وتناهيهم في عداوته، واجتهادهم في التنفير عنه، لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم، لأقدموا على إجابته، ولسارعوا إلى فعل ما يعلمون أن فيه توهين أمره.

ثم إن الله تعالى بعد إقامة الحجج عليهم أزعج خواطر جماعتهم للنظر فيما دعاهم إليه، ونبههم عليه، بالآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، وأيده بالقرآن الذي تحدى به فصحاء قومه الذين بعث

ص: 199

إليهم لما قالوا: إنه مفترى أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو سورة من مثله، وقد خاطبهم فيه بلغتهم، فعجزوا عن ذلك، مع إخباره لهم أنهم لا يأتون بمثله، ولو تظاهر على ذلك الإنس والجن، وقطع عليه السلام عذرهم به عذر غيرهم، كما قطع موسى عليه السلام عذر السحرة وغيرهم في زمانه بالعصا التي فضحت سحرهم، وبان بما كان منها - لهم ولغيرهم - أن ذلك من فعل الله تعالى، وأن هذا ليس تبلغه قدرتهم، ولا تطمع فيه خواطرهم، وكما قطع عيسى عليه السلام عذر من كان في زمانه من الأطباء، الذين قد برعوا في معرفة العقاقير، وقوى ما في الحشائش، وقدر ما ينتهي إليه علاجهم، وتبلغه حيلهم، بإحياء الموتى بغير علاج، وإبراء الأكمة والأبرص، وغير ذلك مما

ص: 200

بهرهم به، وأظهر لهم منه ما يعلمون بيسير الفكر أنه خارج عن قدرهم، وما يصلون إليه بحيلهم.

وكذلك قد أزاح نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن - وما فيه من العجائب - علل الفصحاء من أهله، وقطع به عذرهم، لرؤيتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم، ونظموه في شعرهم، وبسطوه في خطبهم، وأوضح لجميع من بعث إليه من الفرق التي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته، ودل على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته، حتى لم يبق لأحد منهم شبهة فيه، ولا احتيج مع ما كان منه عليه السلام في ذلك إلى زيادة من غيره، ولو لم يكن ذلك كذلك، لم يكن له عليه السلام حجة على جماعتهم، ولا كانت طاعته لازمة لهم، مع خصامهم وشدة عنادهم، ولكانوا قد احتجوا عليه بذلك، ودفعوه عما يوجب

ص: 201

طاعتهم له، وقرعوه بتقصيره عن إقامة الحجة عليهم فيما يدعوهم إليه، مع طول تحديه لهم، وكثرة تبكيتهم، وطول مقامه فيهم، ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، مع حرصهم عليه.

وإذا كان هذا على ما ذكرناه، علم صحة ما ذهبنا إليه في دعوته عليه الصلاة والسلام إلى التوحيد، وإقامة الحجة على ذلك، وإيضاحه لطرق إليها.

وقد أكد الله تعالى دلالة نبوته، بما كان من خاص آياته عليه السلام التي تنقض بها عاداتهم، كإطعامه الجماعة الكثيرة في المجاعة الشديدة من الطعام اليسير، وسقيهم الماء في العطش الشديد من الماء اليسير، وهو ينبع من بين أصابعه، حتى رووا ورويت مواشيهم، وكلام الذئب، وإخبار الذراع المشوية أنها مشوية، وانشقاق القمر، ومجيء الشجرة إليه عند دعائها إليه ورجوعها إلى مكانها بأمره لها، وإخباره لهم عليه

ص: 202

السلام بما تجنه صدورهم، وما يغيبون به عنه من أخبارهم.

ثم دعاهم عليه السلام إلى معرفة الله عز وجل، وإلى طاعته فيما كلف تبليغه إليهم، بقوله تعالى:{وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [التغابن: 12] ، وعرفهم أمر الله بإبلاغه ذلك، وما ضمنه له من عصمته منهم، بقوله تعالى:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] ، فعصمه الله منهم، مع كثرتهم وشدة بأسهم، وما كانوا عليه من شدة عنادهم وعداوتهم له، حتى بلغ رسالة ربه إليهم، مع كثرتهم ووحدته وتبري أهله منه، ومعاداة عشيرته، وقصد الجميع المخالفين له حين سفه آراءهم فيما

ص: 203

كانوا عليه من تعظيم أصنامهم، وعبادة النيران، وتعظيم الكواكب، وإنكار الربوبية، وغير ذلك مملا كانوا عليه حتى بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأوضح الحجة في فساد جميع ما نهاهم مما كانوا عليه، ودلهم على صحة جميع ما دعاهم إلى اعتقاده وفعله بحجج الله وبيناته، وأنه عليه السلام لم يؤخر عنهم بيان شيء مما دعاهم إليه عن وقت تكليفهم فعله، لما يوجبه تأخير ذلك عنهم من سقوط تكليفه لهم.

وأنه جوز فريق من أهل العلم تأخير البيان فيما أجمله الله من الأحكام قبل لزوم فعله لهم فأما تأخير ذلك عن وقت فعله فغير جائز عن كافتهم.

ومعلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إليه من واجهه من أمته من اعتقاد حديثهم ومعرفة المحدث لهم.

وتوحيده ومعرفة أسمائه الحسنى، وما هو عليه من صفات نفسه وصفات

ص: 204

فعله، وتصديقه فيما بلغهم من رسالته، مما لا يصلح أن يؤخر عنهم البيان فيه، لأنه عليه السلام لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة، ولا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه، وإنما أمرهم بفعل ذلك على الفور، وإنما كان ذلك من قبل أنه لو أخر ذلك عنهم، لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله، والزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه، وهذا غير جائز عليه، لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره وسقوط طاعته.

ولهذا المعنى لم يوجد عن أحد من صحابته خلاف في شيء ما وقف عليه جماعتهم، ولا شك في شيء منه، ولا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك، ولا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج، بل مضوا جميعاً على ذلك، وهم متفقون: لا يختلفون في حدثهم، ولا

ص: 205

في توحيد المحدث لهم، وأسمائه وصفاته، وتسليم جميع المقادير إليه، والرضى فيها بأقسامه، لما قد ثلجت به صدورهم، وتبينوا وجوه الأدلة التي نبههم عليه السلام عليها عند دعائه لهم إليها، وعرفوا به صدقه في جميع ما أخبرهم به، وإنما تكلفوا البحث والنظر فيما كلفوه من الاجتهاد في حوادث الأحكام عند نزولها بهم وحدوثها فيهم، وردها إلى معاني الأصول التي وقفهم عليها، ونبههم بالإشارة على ما فيها، فكان منهم رحمة الله عليهم في ذلك ما نقل إلينا عنهم من طريق الاجتهاد التي اتفقوا عليها، والطرق التي اختلفوا فيها، ولم يقلد بعضهم بعضاً في جميع ما صاروا إليه من جميع ذلك، لما كلفوا من الاجتهاد وأمروا به، فأما ما دعاهم إليه عليه السلام من معرفة حدثهم والمعرفة

ص: 206

بمحدثهم، ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وعدله وحكمته - فقد تبين لهم وجوه الأدلة في جميعه، حتى ثلجت صدورهم به، واستغنوا على استئناف الأدلة فيه، وبلغوا جميع ما وقفوا عليه من ذلك، واتفقوا عليه إلى من جاء بعدهم، فكان عذرهم فيما دعوا إليه من ذلك، مقطوعاً بما نبههم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأدلة على ذلك، وما شاهدوا من آياته الدالة على صدقه، وعذر سائر من تأخر عنه مقطوع بنقلهم ذلك إليهم، ونقل أهل كل زمان حجة على من بعدهم، ومن غير أن تحتاج - أرشدكم الله - في المعرفة لسائر ما دعينا إلى اعتقاده إلى استئناف أدلة غير الأدلة التي نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، ودعا سائر أمته إلى تأملها، إذ كان من المستحيل أن يأتي في ذلك أحد

بأهدى

ص: 207

مما أتى به، أو يصل من ذلك إلى ما بعد عنهم عليه السلام.

وجميع ما اتفقوا عليه من الأصول المشهورة في أهل النقل الذين عنوا بحفظ ذلك، وانقطعوا إلى الاحتياط فيه، والاجتهاد في طلب الطرق الصحية إليه: من المحدثين والفقهاء، يعلم أكابرهم أصاغرهم، ويدرسون صبيانهم في كتاتيبهم، لتقر ذلك عندهم.

، وشهرته فيهم، واستغنائهم في العلم بصحة جميع ذلك، بالأدلة التي نبههم صاحب الشريعة عليها في وقت دعوته.

واعلموا - أرشدكم الله - أن ما دل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات - بعد تنبيهه لسائر المتكلفين على حدثهم ووجود المحدث لهم - قد أوجب صحة أخباره، ودل على أن ما أتى به من الكتاب والسنة من عند الله عز وجل.

وإذا ثبت بالآيات صدقه، فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 208

عنه، وصارت أخباره عليه السلام أدلة على صحة سائر ما دعانا إليه، من الأمور الغائبة عن حواسنا، وصفات فعله، وصار خبره عليه السلام عن ذلك سبيلاً إلى إدراكه، وطريقاً إلى العلم بحقيقته، وكان ما يستدل به من أخباره عليه السلام على ذلك، أوضح دلالة من دلالة الأعراض التي اعتمد على الاستدلال بها الفلاسفة، ومن اتبعها من القدرية وأهل البدع المنحرفين عن الرسل عليهم السلام، من قبل أن الأعراض لا يصح الاستدلال بها، إلا بعد رتب كثيرة يطول الخلاف فيها، ويدق الكلام عليها، فمنها ما يحتاج إليه في الاستدلال على وجودها، والعرفة بفساد شبه المنكرين لها، والمعرفة بمخالفتها للجواهر، في كونها لا تقوم بنفسها، ولا يجوز ذلك على شيء منها، والمعرفة بأنها لا تبقى، والمعرفة باختلاف أجناسها، وأنه لا يصح انتقالها من محالها، والمعرفة بأن ما لا ينفك منها فحكمه في الحدث حكمها، ومعرفة ما يوجب ذلك من الأدلة وما

ص: 209

يفسد به شبه المخالفين في جميع ذلك، حتى يمكن الاستدلال بها على ما هي أدلة عليه عند مخالفينا، الذين يعتمدون في الاستدلال على ما ذكرناه بها، لأن العلم بذلك لا يصح عندهم إلا بعد المعرفة بسائر ما ذكرناه آنفاً.

وفي كل رتبة من ما ذكرنا فوق تخالف فيها، ويطول الكلام معهم عليها، وليست يحتاج - أرشدك الله - في الاستدلال بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه من المعرفة بالأمر الغائب عن حواسنا إلى مثل ذلك، لأن آياته والأدلة على صدق محسوسة مشاهدة، قد أزعجت القلوب، وبعثت الخواطر، على النظر في صحة ما يدعوا إليه، وتأمل ما استشهد به على صدقه، والمعرفة بأن آياته من قبل الله تعالى تدرك بيسير الفكر فيها، وأنها لا يصح أن

ص: 210

تكون من البشر، بوضوح الطرق إلى ذلك، ولا سيما مع إزعاج الله قلوب سائر من أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم على النظر في آياته، بخرق عوائدهم له، وحلول من يعدهم به من النقم عند إعراضهم عنه ومخالفتهم له، على ما ذكرنا مما كان من ذلك موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان ذلك على ما وصفنا بان لكم - أرشدكم الله - أن طرق الاستدلال بإخبارهم عليهم السلام على سائر ما دعينا إلى معرفته وما لا يدرك بالحواس - أوضح من الاستدلال بالأعراض، إذ كان أقرب إلى البيان على حكم ما شوهد من أدلتهم المحسوسة مما اعتمدت عليه الفلاسفة، ومن اتبعهم من أهل الأهواء واغتروا بها، لبعدهم عن الشبهة، كما ذكرناه، وقرب من أخلد ممن ذكرنا إلى الاستدلال به من الشبه، وكذلك ما منع الله رسله من الاعتماد

ص: 211

عليه، لغموض ذلك على كثير ممن أمروا بدعائهم، وكلفوا عليهم السلام إلزامهم فرضه، فأخلدنا سلفنا رحمة الله عليهم ومن اتبعهم من الخلف الصالح، بعد ما عرفوه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم، في ما دعاهم إليه من العلم بحذفهم، ووجود المحدث لهم، بما نبههم عليه من الأدلة - إلى التمسك بالكتاب والسنة، وطلب الحق في سائر ما ادعوا إلى معرفته منهم، والعدول عن كل ما خالفها، لثبوت نبوته عليه السلام عندهم، وثقتهم بصدقه في ما أخبرهم به عن ربهم، لما وثقته الأدلة لهم فيه، وكشفته لهم العبرة، وأعرضوا عما صارت إليه الفلاسفة - ومن اتبعهم من القدرية وغيرهم من أهل البدع - من الاستدلال بذلك على ما كلفوا معرفته، لاستغنائهم بالأدلة الواضحة في ذلك عنه، وإنما صار من أثبت حدث العلم والمحدث له من الفلاسفة إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر، لدفعهم الرسل وإنكارهم لجواز مجيئهم، وإذا كان العلم قد حصل لنا بجواز

ص: 212

مجيئهم في العقول وغلط من دفع لك، وبان صدقهم بالآيات التي ظهرت عليهم - لم يسع لمن عرف من ذلك ما عرفه أن يعدل عن طريقتهم، إلى طرق من دفعهم وأحال مجيئهم، فلما كان هذا واجباً لما ذكرناه عند سلف الأمة والخلف كان اجتهاد الخلف - في طلب أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، والاحتياط في عدالة الرواة لها - واجباً عندهم،

ليكونوا فيما يعتقدونه من ذلك على يقين.

لذلك كان أحدهم يرحل إلى البلاد البعيدة في طلب الكلمة تبلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حرصاً على معرفة الحق من وجهه، وطلباً للأدلة الصحيحة فيه، حتى تثلج صدورهم بما يعتقدونه، وتسكن نفوسهم إلى من يتدينون به، ويفارقوا بذلك من ذمه في تقليده لمن يعظمه من سادته بغير دلالة تقتضي ذلك، ولما كلفهم الله عز وجل ذلك وجعل أخبار نبيه صلى الله عليه وسلم

ص: 213

طريقاً إلى المعارف بما كلفهم إلى آخر الزمان - حفظ أخباره عليه السلام في سائر الأزمنة، ومنع من تطرق الشبه عليها، حتى لا يروم أحد تغيير شيء منها، أو تبديل معنى كلمة قالها، إلا كشف الله تعالى ستره، وأظهر في الأمة أمره، حتى يرد ذلك عليه العربي والعجمي، ومن قد أهل لحفظ ذلك من حملة علمه عليه السلام.

والمبلغين عنه، كما حفظ كتابه، حتى لا يطيق أحد من أهل الزيغ على تحريك حرف ساكن فيه، أو تسكين حرف متحرك، إلا يبادر القراء في رد ذلك عليه، مع اختلاف لغاتهم، وتباين أوطانهم، لما أراده الله عز وجل من صحة الأداء عنه، ووقوع التبليغ لما أتى به نبينا عليه السلام إلى من يأتي في آخر الزمان،

ص: 214

لانقطاع الرسل بعده، واستحالة خلوهم من حجة الله عليهم، حتى قد ظهر ذلك بينهم، وأيست من نيله خواطر المنحرفين عنه، وجعل الله ما حفظه من ذلك وجمع القلوب عليه، حجة على من تعبد بعده عليه السلام بشريعته، ودلالة لمن دعا إلى قبول ذلك ممن لم يشاهد الأخبار، وأكمل الله لجميعهم طرق الدين، وأغناهم بها عن التطلع إلى غيرها من البراهين.

ودل على ذلك بقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] .

وليس يجوز أن يخبر الله عز وجل عن إكماله الدين، مع الحاجة إلى غير ما أكمل لهم به الدين، وبين النبي صلى الله عليه وسلم معنى

ص: 215

ذلك في حجة الوداع، لمن كان بحضرته من الجم الغفير من أمته، عند اقتراب أجله، ومفارقته لهم صلى الله عليه وسلم بقوله: اللهم هل بلغت؟

فلو كنا نحتاج مع ما كان منه عليه السلام في معرفة ما دعانا إليه، إلى ما رتبه أهل البدع من طرق الاستدلال، لما كان مبلغاً، إذ كنا نحتاج إلى المعرفة بصحة ما دعانا إليه إلى علم ما لم يبينه لنا من هذه الطرق التي ذكروها، ولو كان هذا كما قالوا، لكان فيما دعانا إليه وقوله بمنزلة الملغز، ولو كان كذلك لعارضه المنافقون، وسائر المرصدين لعداوته في ذلك، ولم يمنعهم مانع، كما لم يمنعهم من تعنيته في طلب الآيات، ومجادلته في سائر الأوقات، ولكنهم لم يجدوا سبيلاً إلى الطعن، لأنه عليه السلام لم يدع شيئاً مما بهم الحاجة إليه في معرفة سائر ما دعاهم إلى اعتقاده،

ص: 216

أو مثل فعله كذا، إلا وقد بينه لهم.

ويزيد هذا وضوحاً قوله عليه السلام «إني قد تركتكم على مثل الواضحة: ليلها كنهارها» .

وإذا كان هذا على ما وصفنا علم أنه لم يبق بعد ذلك عتب لزائغ، ولا طعن لمبتدع، إذ كان عليه السلام قد أقام الدين، بعد أن أرسى أوتاده، وأحكم أطنابه، ولم يدع النبي صلى الله عليه وسلم لسائر من دعاه إلى توحيد الله حاجة إلى غيره، ولا لزائغ طعناً عليه، ثم مضى صلى الله عليه وسلم محموداً بعد إقامة الحجة، وتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة والنصيحة لسائر الأمة، حتى لم يحوج أحداً من أمته إلى البحث عن شيء قد أغفله هو مما ذكره لهم أو معنى أسره إلى أحد من أمته.

بل قد قال - عليه والسلام - في المقام الذي لم ينكتم قوله

ص: 217

فيه، لاستحالة كتمانه على من حضره، أو طي شيء منه على من شهده،: إني خلفت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي، ولعمر إن فيهما الشفاء من كل أمر مشكل، والبرء من كل داء معضل، وإن في حراستهما من الباطل - على ما تقدم ذكرنا له - آية لمن نصح نفسه، ودلالة لمن كان الحق قصده) .

قال: (وفيما ذكرنا دلالة على صحة ما استندوا إلى الاستدلال به، وقوة ما عرفوا الحق منه، فإذا كان ذلك ما وصفنا فقد علمتم بهت أهل البدع لهم في نسبتهم لهم إلى التقليد، وسوء اختيارهم لهم في المفارقة لهم، والعدول عما كانوا عليه معهم، وبالله التوفيق.

وإذ قد بان بما ذكرناه استقامة لطرق

ص: 218