الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستدلال على وجود الصانع ما قاله الرازي في (نهاية العقول) وغيره.
كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما ذكره من ذلك في (الأربعين) .
وقال في النهاية: (اعلم أن الاستدلال على ما يعلم بالضرورة إنما يكون بما يعلم بالضرورة، والمعلوم بالضرورة: الأجسام، والأعراض القائمة بها، وكل منهما إما أن يعتبر إمكانه أو حدوثه، فلا جرم كانت الأدلة الدالة على الصانع تعالى هذه المسالك الأربعة) .
وذكر أن الأول هو الاستدلال بحدوث الأجسام لقيام الأعراض بها أو بعضها بها، فهذه هي الطريقة المشهورة عند الجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من الأشعرية والكرامية، ومن دخل في ذلك من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم.
وهذه هي التي ذكر الأشعري أنها طريقة الفلاسفة، ومن اتبعهم من القدرية، وذكر أنها مبتدعة مذمومة في الدين، لم يسلكها السلف الصالح، وذكر أنها خطرة مبتدعة، وأنه لا حاجة إليها.
قال الرازي: والثاني: (الاستدلال بإمكان الأجسام على وجود الصانع تعالى) .
قال: (وهذه عمدة الفلاسفة) .
قلت: هذه طريقة ابن سينا ومن وافقه، ليست طريقة قدماء الفلاسفة.
وهي مبنية على أصلهم الفاسد في التوحيد ونفي الصفات، الذين بين الناس فساده وتناقضهم فيه، وهو طريقة التركيب الذي يقولون: إن المتصف بالصفات مركب، والمركب مفتقر إلى أجزائه، قد تكلمنا عليها في مواضع.
قال الرازي: (والمسلك الثالث: الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الصانع سواء كانت الأجسام واجبة أو ممكنة، قديمة أو حادثة) .
قلت: وهذه الحجة مبنية على تماثل الأجسام، وقد بين الناس فساد هذه الحجة، وبين الرازي نفسه فسادها، بل وجمهور العقلاء على فسادها.
وقد بين ذلك في موضع آخر على وجه لا يبقي في القلب شبهة.
قال الرازي: (والمسلك الرابع: الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض على وجود الصانع، ولنفرض الكلام في أعراض لا يقدر عليها بشر، مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء أنساناً، فإذا كانت تلك التركيبات أعراضاً حادثة، والعبد غير قادر عليها، فلا بد من فاعل آخر، ثم من ادعى أن العلم بحاجة المحدث إلى الفاعل ضروري ادعى الضرورة ههنا، ومن بنى ذلك على الإمكان أو على القياس على حدوث الذوات، فكذلك يقول في حدوث الصفات) .
قال: (والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها، أن الأول يقتضي ان لا يكون الفاعل جسماً.
والثاني لا يقتضي ذلك) .
قلت: قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك صحيح، لكن
الرازي قصر فيه من وجهين: أحدهما: أنه لا يستدل بنفس الحدوث، بل يجعل الحدوث دليلاً على إمكان الحادث، ثم يقول: والممكن لا بد له من مرجح، وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا، وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث، فجعل القديم الأزلي ممكناً يقبل الوجود والعدم، وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء، فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً.
وابن سينا وأتباعه يوافقن الناس على ذلك، لكن يتناقضون وقد بسط الكلام على ذلك في مواضع، كما تكلمنا على ذلك فيما ذكره الرازي في إثبات الصانع في أول المطالب العالية وأول الأربعين وبينا فساد ذلك، وأنه على هذا التقدير لا ينفي لهم دليل على إثبات واجب الوجود.
الوجه الثاني: إنه جعل ذلك استدلالاً بحدوث الصفات والأعراض ليس بمستقيم، بل هو مبني على مسألة الجوهر الفرد.
وقد ذكرنا في غير موضع أن هؤلاء بنوا مثل هذا الكلام على مسألة الجوهر الفرد، وأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، وأن الحادث إنما هو اجتماع الجواهر وافتراقها، وحركتها وسكونها، وهذه الأربعة هي الأكوان عندهم، أو حدوث غير ذلك من الأعراض، فيجعلون تبديل الأعيان وإحداثها إنما هو تبديل أعراض.
وقد قابلهم في ذلك طائفة من المتفلسفة، كابن سينا وأمثاله، فجعلوا الصور كلها جواهر، كما جعل أولئك الصور كلها أعراضاً.
وذلك أن هؤلاء المتفلسفة نظروا في المصنوعات: كالخاتم، والدرهم، والسيف، والسرير، والبيت، والثور، ونحو ذلك مما يؤلفه الآدميون ويصورونه، فوجدوها مركبة من مادة كالفضة، ويسمونها أيضاً الهيولى، والهيولى في لغتهم معناه المحل، وتصرفهم فيه بحسب عرفهم الخاص، كتصرف متكلمي العرب في اللغة المعربة، فهذه المصنوعات مركبة من مادة هي المحل، ومن صورة وهي الشكل الخاص، وهذا نظر صحيح.
ثم زعموا أن صور الحيوان والنبات والمعدن لها مادة هي هيولاها كذلك، وأن النار والهواء والتراب لها أيضاً مادة هي هيولاها.
ومنهم من قال: جميع الأجسام لها مادة مشتركة هي هيولاها، وجعلوا الهيولى ثلاث مراتب.
صناعية وطباعية وكلية، وتنازعوا: هل تنفرد المادة الكلية عن الصور، فتكون الهيولى مجردة عن الصور؟ على قولين:
وإثبات هذه المادة المجردة يذكر عن شيعة أفلاطون، وإنكار ذلك قول أصحاب أرسطو.
والتحقيق أن الصور الصناعية إنما هي أعراض وصفات قائمة بالأجسام، كالفضة والحديد والخشب والغزل واللبن ونحو ذلك، وأما الحيوان والنبات والمعدن فهي جواهر استحالت عن جواهر أخرى، وإثبات مادة مشتركة بينها باقية مع اختلاف الصور عليها قول باطل، كما أن إثبات أولئك للجوهر الفرد قول باطل.
والذين قالوا: إن بدن الإنسان وأمثاله من المحدثات إنما حدثت أعراضه لم تحدث عين قائمة - أخطأوا، والذين قالوا: إن جميع الصور جواهر أخطأوا، بل الصورة قد تكون عرضاً كالشكل، والصور الصناعية من هذا الباب.
وقد يعبر بالصورة عن نفس الشيء المصور كالإنسان، فالصورة هنا جوهر قائم بنفسه، ليس قائماً بجوهر آخر.
والقرآن العزيز ذكر خلق الله تعالى لما خلقه من الجواهر التي هي أعيان قائمة بأنفسها، مع ما نشهده من إحداث الصفات والأعراض أيضاً، والاستدلال بذلك على الخالق سبحانه، وجعل ذلك من آياته هو مما بينه القرآن.
ولكن هؤلاء لم يسلكوا طريقة القرآن من وجهين: أحدهما: أنهم جعلوا الحوادث إنما هي أعراض لا أعيان، كما جعله الرازي وغيره.
لكن الرازي وغيره مع ذلك استدلوا بذلك على إثبات الصانع، فكان دليلاً صحيحاً في نفسه، وإن كان فيه تقصير من ذلك الوجه، ومن حيث رد ذلك إلى طريقة الإمكان.
الثاني: ما ذكره الأشعري، حيث أنه استدل بذلك على حدوث محل هذه الصفات والأعراض، بناء على أن الحادث صورة هي عرض ولها محل، فتكون الأجسام التي هي محل هذه الأعراض حادثة، وهذا لا يتم إلا ببيان امتناع حوادث لا أول لها، ثم إذا أراد أن يستدل بذلك على حدوث سائر الأجسام احتاج أن يبنيه على تماثل الأجسام.
وهذه ثلاث مقدمات ينازعهم فيها أكثر العقلاء، بل يبينون فسادها بصريح المعقول، فهي من جنس طريقة المعتزلة.
لكن مقصود الأشعري أن هذه الطريقة تغني الناس عن تلك الطريقة الطويلة، الكثيرة المقدمات، الغامضة التي يقع فيه نزاع، فإذا كانت الطريقتان مشتركتان في البناء على امتناع حوادث لا أول لها، وهذه الطريقة لا تحتاج إلى ما تحتاج إليه تلك، فكانت هذه أقرب وأيسر، فبحث الأشعري مع المعتزلة في هذه الطريقة، من جنس بحوثه