الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا الذي ذكره أبو المعالي من إنكار القياس في المعقولات وافقه عليه طائفة من المتأخرين، كأبي حامد الرازي وأبي محمد المقدسي، قال: قياس التمثيل إنما يكون في الشرعيات.
والمنطقيون قد يدعون أن قياس التمثيل في العقليات إنما يفيد الظن، وأما جمهور العقلاء فعلى أنه لا فرق بين قياس الشمول وقياس التمثيل في إفادة العلم والظن، فإن مما يجعل في قياس الشمول حداً أوسط يجعل في قياس التمثل مناط الحكم، ويسمى العلة والوصف والمشترك.
فإذا قيل: النبيذ المسكر حرام، لأنه مسكر، وكل مسكر حرام - فهذا قياس شمول، ولا بد له من دليل يدل على صحة المقدمة الكبرى القائلة: كل مسكر حرام فإذا استدل بقياس التمثيل: قال: إنه مسكر فكان حراماً، قياساً على عصير العنب المسكر.
ثم يبين أن العلة في الأصل هو السكر، فالدليل الدال على علة الوصف في الأصل، هو الدال على صحة المقدمة الكبرى، والسكر هو الوصف الذي علق به الحكم، وهو مناطه، وهو المشترك بين الأصل والفرع الذي علق به الحكم، والسكر المتصف بالسكر هو الحد الأوسط المقرر في قياس الشمول، الذي هو محمول في المقدمة الصغرى، موضوع في الكبرى.
وأما ما ذكره عن أحمد فقد أنكره أصحاب أحمد، حتى قال أبو البقاء العكبري لمن قرأ عليه كتاب البرهان:(هذا النقل ليس بصحيح عن مذهب الإمام أحمد) .
وهو كما قال، فإن أحمد لم ينه عن نظر في دليل عقلي صحيح يفضي إلى المطلوب، بل في كلامه في أصول الدين في الرد على الجهمية وغيرهم من الاحتجاج بالأدلة العقلية
على فساد قول المخالفين للسنة ما هو معروف في كتبه وعند أصحابه.
ولكن أحمد ذم من الكلام البدعي ما ذمه سائر الأمة، وهو الكلام المخالف للكتاب والسنة، والكلام في الله ودينه بغيره علم.
واستدل أحمد بقوله تعالى: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33] .
وأحمد أشهر وأكثر كلاماً في أصول الدين بالأدلة القطعية: نقلها وعقلها من سائر الأئمة، لأنه ابتلي بمخالفي السنة، فاحتاج إلى ذلك.
والموجود في كلامه، من الاحتجاج بالأدلة العقلية على ما يوافق السنة، لم يوجد مثله في كلام سائر الأئمة، ولكن قياس التمثيل في حق الله تعالى لم يسلكه أحمد، لم يسلك فيه إلا قياس الأولى، وهو الذي جاء به الكتاب والسنة، فإن الله لا يماثل غيره في شيء من الأشياء حتى يتساويا في حكم القياس، بل هو سبحانه أحق بكل حمد، وأبعد عن كل ذم، فما كان من صفات الكمال المحضة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهو أحق به من كل ما سواه، وما كان من صفات النقص فهو أحق بتنزيهه عنه من كل ما سواه.
والقرآن لما بين قدرته في إعادة الخلق بفعله لما هو أبلغ من ذلك، كان هذا من باب قياس الأولى.
وكذلك بين تنزيهه عن الولد والشريك.
وكذلك أحمد سلك هذا المسلك - كما ذكره في موضعه - مثل بيانه لإمكان كونه عالماً بجميع المخلوقات، مع كونه بائناً عن العالم فوق
العرش، بقياسين عقليين: أحدهما أن الإنسان قد يكون معه قد صاف فيرى ما فيه مع مباينته له، فالرب سبحانه قدرته على العالم ومباينته له، أعظم من قدرة هذا على ما في يده، فلا تمتنع رؤيته لما فيه وأحاطته به مع مباينته له.
والقياس الثاني من بنى داراً وخرج منها فهو يعلم ما فيها، لكونه فعلها، وإن لم يكن فيها.
فالرب الذي خلق كل شيء وأبدعه، هو أحق بأن يعلم ما خلق، وهو اللطيف الخبير، وإن لم يكن حالاً في المخلوقات.
والمقصود أن أحمد يستدل بالأدلة العقلية على المطالب الإلهية إذا كانت صحيحة، إنما يذم ما يخالف الكتاب والسنة، أو الكلام بلا علم، والكلام المبتدع في الدين، كقوله في رسالته إلى المتوكل:(لا احب الكلام في هذا إلا ما كان في كتاب الله أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الصحابة أو التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود) .
وهو لا يكره - إذا عرف معاني الكتاب والسنة - أن يعبر عنها بعبارات أخرى إذا احتيج إلى ذلك، بل هو قد فعل ذلك، بل يكره المعاني المبتدعة في هذا، أي فيما خاض الناس فيه - من الكلام في القرآن والرؤية والقدر والصفات - غلا بما يوافق الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين.
ولهذا كره الكلام في (الجسم) وفي (الحيز) ، وفي اللفظ بالقرآن نفياً وإثباتاً، لما في كل من النفي والإثبات من باطل، وكلامه في هذه الأمور مبسوطة في موضع آخر كما هو معروف في كتابه وخطابه.
والمذموم شرعاً ما ذمه الله ورسوله، كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحق بعد ما تبين.
فأما المجادلة الشرعية، كالتي ذكرها الله تعالى على الأنبياء عليهم السلام وأمر بها، مثل قوله تعالى:{قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا} [هود: 32] .
وقوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83]، وقوله تعالى:{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [البقرة: 258] .
وقوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] .
وأمثال ذلك، فقد يكون واجباً أو مستحباً، وما كان كذلك لم يكن مذموماً في الشرع.
وما ذكره أبو حامد الغزالي من كلام السلف، في ذم أهل الكلام، لو أنه معروف عنهم، في كتب يعتمد عليها، لم يذكره هنا.