المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فإن كانت معارض ابن الزبعري باطلة، فمعارضة هؤلاء أبطل، وهي - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق

- ‌تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام آخر للرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌رسالة البيهقي في فضائل الأشعري

- ‌كلام الأشعري في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌اعتراض يذكر نفاة الصفات

- ‌بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الجواب التاسع

- ‌الوجه الرابع والأربعون

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في البرهان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام الغزالي في الإحياء

- ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الشهرستاني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي نصر السجزي في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية

- ‌عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

- ‌كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية

- ‌كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة

- ‌كلام الباقلاني شرح اللمع

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌كلام الخطابي في كتاب شعار الدين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

- ‌القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

- ‌كلام الآمدي في الأبكار

- ‌كلام أبي الحسن الطبري الكيّا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن حزم في الفصل

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري

- ‌رد ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في نفي وجوب النظر

- ‌كلام أبي إسحاق الإسفراييني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في وجوب النظر

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن الزاغوني

- ‌تعليق ابن تيمية

الفصل: فإن كانت معارض ابن الزبعري باطلة، فمعارضة هؤلاء أبطل، وهي

فإن كانت معارض ابن الزبعري باطلة، فمعارضة هؤلاء أبطل، وهي باطلة قبل نزول القرآن، وقبل رد الله عليهم، وما نزل من القرآن كان مبيناً لبطلانها، الذي هو ثابت في نفسه يمكن علمه بالعقل، فإن الله إنما خاطب بقوله:{إنكم وما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 98] ، المشركين الذين يعبدون الأوثان، لم يخاطب بذلك أهل الكتاب.

بل الآيات المكية عامتها خطاب لمن كذب الرسل مطلقاً، وأما ما يخاطب به من صدق جنس الرسول من أهل الكتاب والمؤمنين، ففي السور المدنية.

والقرآن قد فصل بين المشركين وأهل الكتاب في غير موضع، كقوله:{لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} [البينة: 1] .

وقوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17] .

وقوله لهم: {إنكم وما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 98] .

‌الوجه الخامس

بمنزلة قوله: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام: 156] .

ص: 57

وبمنزلة قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا} [فاطر: 42] .

وأمثال ذلك مما فيه ضمير المخاطب والغائب، وهو متناول لأولئك المشركين، لكن يتناول غيرهم من جهة المعنى والاعتبار وتماثل الحالين.

فلما قال تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} [الأنبياء: 98-99] ، دليل على انتفاء الإلهية، فإن الإله لا يدخل النار، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم أن يكون من لم يدخل النار إلهاً، فمن ورد النار لم يكن إلهاً، وليس كل من لا يردها إله.

لكن كانت معرضة الزبعري وأشباهه من جهة المعنى والقياس والاعتبار، أي إذا كانت آلهتنا دخلوا النار لكونهم معبودين، وجب أن يكون كل معبود يدخل النار، والمسيح معبود فيجب أن يدخلها، فعارضوه بالقياس، والقياس مع وجود الفارق المؤثر قياس فاسد، فبين الله الفرق بأن المسيح عبد حي مطيع لله، لا يصلح

ص: 58

أن يعبد لأجل الانتقام من غيره بخلاف الأوثان، فإنها حجارة، فإذا عذبت لتحقيق عدم كونها آلهة، وانتقاماً ممن عبدها، كان ذلك مصلحة، ليس فيها عقوبة لمن لا يصلح أن يعاقب.

ولهذا قال تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا} [الزخرف: 57] ، أي جعلوه مثلاً لآلهتهم فقاسوها به، فهذا حال من عارض النص الخبري بالقياس الفاسد، وهو حال الذين يعارضون النصوص الإلهية بأقيستهم الفاسدة، فيقولون: لو كان له علم وقدرة ورحمة وكلام وكان مستوياً على عرشه، للزم أن يكون مثل المخلوق الذي له علم وقدرة ورحمة وكلام ويكون مستوياً على العرش، ولو كان مثل المخلوق للزم أن يجوز عليه الحدوث، وإذا جاز عليه الحدوث امتنع وجوب وجوده وقدمه.

فهذا من جنس معارضة ابن الزبعري، حيث قاس ما أخبر الله عنه بشيء آخر ليس مثله، بل بينهما فرق، والفرق بين الله وبين مخلوقاته، أعظم من الفرق بين المسيح وبين الأوثان، فإن كلاهما مخلوق لله تعالى.

وأما قياس الخالق بالمخلوق، وقول القائل: لو كان متصفاً بالصفات والأفعال القائمة به، لكان مماثلاً للمخلوق المتصف بالصفات والأفعال القائمة به - ففي غاية الفساد، فإن تشابه الشيئين من بعض الوجوه لا يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء، فإذا كان المسيح المشابه لآلهتهم في وجوه كثيرة لا تكاد تحصى - مثل كون هذا كان معدوماً وهذا كان معدوماً، وهذا محدث ممكن، وهذا محدث ممكن، وهذا مفتقر إلى

ص: 59

غيره وهذا مفتقر إلى غيره، وهذا يقدر عليه غيره، وهذا يقدر عليه غيره، وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض، وهذا تعترض عليه الآفات والعلل كالتفريق والتجزئة والتبعيض، وهذا يمكن إفساده واستحالته، وهذا يمكن إفساده واستحالته، وأمثال ذلك من الأمور التي يجب تنزيه الرب عنها - فمع اشتراكهما في هذه الأمور التي يجب تنزع الرب عنها، لم يصح قياس أحدهما بالآخر، ولا أن يثبت له من الحكم ما ثبت له، وإن كانا قد اشتركا في هذه الأمور.

فالخالق سبحانه الذي يفارق غيره بأعظم مما فارق به المسيح آلهتهم، هو أولى وأحق بأن لا يمثل بخلقه، لأجل موافقته في بعض الأسماء والصفات، إذ أصل هذا القياس الفاسد أن الشيئين إذا اشتركا وتشابها في بعض الأشياء، لزم اشتراكهما وتماثلهما في غير ذلك مما ليس من لوازم المشترك، وهذا كله خطأ فاحش، وبعضه أفحش من بعض، فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فأما ما ليس من لوازمه، فلا يجب اشتراكهما فيه.

فكون المعبود من حصب جهنم، ليس من لوازم كونه معبوداً، بل من لوازم كونه معبوداً يصلح دخوله النار، والمسيح ونحوه لا يصلح دخولهم النار.

وكذلك ثبوت الوجود والحياة والعلم والقدرة والاستواء والنزول، ونحو ذلك من الأمور التي يوصف بها الخالق والمخلوق، ليس من لوازمها

ص: 60

الإمكان والحدوث والآفات والنقائص، فإن الإمكان من لوازم ما ليس واجباً بنفسه، والحدوث من لوازم المعدوم، وإمكان الآفات والنقائص من لوازم ما يقبل ذلك.

وهذه الصفات صفات كمال لا تستلزم الآفات، بل قد تكون منافية للآفات والنقائص، والمنافي للشيء لا يكون من لوازمه، بل هو مناقض للوازمه، فكيف يجعل المنافي كالملازم؟

والمقصود أن المشركين كانوا يعارضون الرسول بما يتخيلونه مناقضاً لقوله، وإن لم يكن في ظاهر قوله ما يناقض: لا معقولاً ولا منقولاً، فكيف إذا كان ظاهر قوله يناقض صريح المعقول الذي عليه أئمة أرباب العقول، لا سيما إذا كان ذلك المعقول هو الذي لا يمكن تصديقه إلا به؟ فإذا كان قد أظهر ما يطعن في دليل صدقه وشاهده، كان معارضته بذلك أولى الأشياء.

وكذلك أيضاً لما أخبرهم بالإسراء وشجرة الزقوم أنكر ذلك طائفة منهم، وزعموا أن العقل ينافي ذلك.

وأنزل الله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن} [الإسراء: 60] .

وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به» .

ص: 61

قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} [الإسراء: 1] .

وقال: {أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى} [النجم: 12-16] .

وقال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون * ولقد رآه بالأفق المبين * وما هو على الغيب بضنين * وما هو بقول شيطان رجيم} [التكوير: 22-25] .

فإذا كان ما أخبرهم به من رؤية الآيات التي أراها الله إياها ليلة الإسراء قد أنكروها وكذبوه لأجلها، واستبعدوا ذلك بعقولهم، مع أن ذلك ليس ممتنعاً في العقل، فكيف بما هو ممتنع في صريح العقل.

وكذلك أيضاً أنكروا أن يبعث الله بشراً رسولاً، وجعلوا ذلك منكراً ممتنعاً في عقولهم.

كما قال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا} [الإسراء: 24] .

وقال: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} [يونس: 2] .

ص: 62

وهذا قول من يجحد النبوات من البراهمة مشركي الهند وغيرهم، ولهم شبه معروفة يزعمون أنها براهين عقلية تقدح في جواز إرسال الرسل.

ولهذا قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} [يوسف: 109] .

وقال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43] .

وقال: {قل ما كنت بدعا من الرسل} [الأحقاف: 9] .

وأمثال ذلك.

وكذلك لما أخبرهم بالمعاد عارضوه بعقولهم، وقد ذكر الله تعالى من حججهم التي احتجوا بها في إنكار المعاد ما هو مذكور في القرآن.

كقوله تعالى: {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم} [يس: 78-81] .

وقد ذكر طعنهم في الرسالة والمعاد جميعاً في قوله تعالى: {ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا

ص: 64

شيء عجيب * أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} [ق: 1-4] .

ثم ذكر الأدلة عليهم إلى قوله: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} [ق: 15] .

وهذه السورة قد تضمنت من أصول الإيمان ما أوجبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها في المجامع العظام، فيقرأ بها في خطبة الجمعة وفي صلاة العيد، وكان من كثرة قراءته لها يقرأ بها في صلاة الصبح، وكل ذلك ثابت في الصحيح.

قال تعالى: {وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} [الإسراء: 49-52] .

وقد ذكر نحو ذلك عمن مضى من المكذبين للرسل، كقولهم عن رسولهم: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هي إلا حياتنا الدنيا

ص: 65

نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين} [المؤمنون: 35-38] .

وقال تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} [الجاثية: 24] .

وأمثال هذا في القرآن كثير.

وذكر عنهم أنه طعنوا في الرسول بعقولهم بأمور ظنوها لازمة له، كقولهم:{وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحور} [الفرقان: 7-8] .

قال تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} [الفرقان: 9] .

وكذلك قالوا عمن قبله من الرسل كما قال فرعون: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} [الزخرف: 52-53] .

وقالوا لشعيب: {إنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} [هود: 91] .

والمقصود هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعارضه من

ص: 66

المؤمنين به والكفار من لا يكاد يحصى معارضة لا ترد عليه.

ولم تكن إلا من جهل المعارض، ولم يكن في ظاهر الكلام الذي يقوله لهم ومفهومه ومعناه ما يخالفه صريح المعقول، بل كان المعارضون يعارضون بعقولهم ما لا يستحق المعارضة، فلو كان فيما بلغهم إياه عن الله، من أسمائه وصفاته ونحو ذلك، ما يخالف ظاهره صريح المعقول، لكان هذا أحق بالمعارضة، وكان يمتنع في مستمر العادة أن مثل هذا لا يعارضه أحد: لا معارضة دافع طاعن، ولا معارضة مستشكل مسترشد، فكيف إذا كان ذلك يعارض القضايا العقلية التي بها علموا نبوته، وأنه رسول الله إليهم؟ فكانت تكون المعارضة بذلك أولى أن تقع من الكفار والمسلمين.

أما الكفار فيقولون له: نحن لا نعلم صدقك إلا بأن نعلم بعقولنا أموراً تناقض ما يفهم ويظهر مما تخبرنا به، فالمصدق لك يكون متناقضاً متلاعباً، لا يمكنه أن يقبل بعض أخبارك إلا برد بعضها، وهذا ليس فعل العالمين الصادقين دائماً، بل فعل من يكذب تارة ويصدق أخرى، أو يصيب تارة ويخطئ أخرى.

وأما المسلمون المظهرون للإسلام فقد كان فيهم منافقون، وفي المؤمنين سماعون لهم يتعلقون بأدنى شبهة يوقعون بها الشك والريب في قلوب المؤمنين، وكان فيهم من له معرفة وذكاء وفضيلة وقراءة للكتب ومدارسة لأهل الكتاب، مثل أبي عام الفاسق، الذي كان يقال له أبو عامر الراهب، الذي أتخذ له المنافقون مسجد الضرار.

ص: 67

وأيضاً فقد كان اليهود والنصارى يعارضونه بما لا يصلح للمعارضة، ويقدحون في القرآن بأدنى شبهة، ويخاطبون بذلك من أسلم، كما قالوا للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرأون في كتابكم: {يا أخت هارون} [مريم: 28] ، وموسى بن عمران كان قبل عيسى بسنين كثيرة، فظنوا أن هارون المذكور هو هارون أخو موسى، وهذا من فرط جهلهم، فإن عاقلاً لا يخفى عليه أن موسى كان قبل عيسى بسنين كثيرة، وأن مريم أم عيسى ليست أخت موسى وهارون، ولا هو المسيح ابن أخت موسى، وليس في من له تمييز - وإن كان من أكذب الناس - من يرى أن يتكلم بمثل هذا الذي يضحك عليه به كل من سمعه، فكيف بمن هو أعظم الناس عقلاً وعلماً ومعرفة، غلبت عقول بنى آدم ومعارفهم وعلومهم، حتى استجاب له كل ذي عقل مصدقاً لخبره، مطيعاً لأمره وذل له - أو خاف منه - كل من لم يستجيب له، وظهر به من العلم والبيان، والهدى والإيمان، ما قد ملأ الآفاق، وأشرق به الوجود غاية الإشراق.

فكان النصارى الذين سمعوا هذا - لو كان لهم تمييز - لعلموا أن مثل هذا الرجل العظيم الذي جاء بالقرآن لا يخفى عليه أن المسيح ليس هو ابن أخت موسى بن عمران، ولا يتكلم بمثل ذلك، ولو كانت أختهما لكان إضافتها إلى موسى أولى من إضافتها إلى هارون، فكان يقال لها: يا أخت موسى، لكن لما اتفق أن مريم هذه بنت عمران، وذانك

ص: 68

موسى وهارون ابنا عمران، فكان لفظ عمران فيه اشترك، والاشتراك غالب على أسماء الأعلام - نشأت الشبهة، حتى سأل المغيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:«ألا قلت لهم إنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم؟ إن هارون هذا كان رجلاً في بنى إسرائيل سموه باسم هارون النبي» .

فمن كانوا يعارضونه بمثل هذه المعارضة، كيف يسكتون عن معارضته إذا كان الخطاب الذي أخبر به، والمفهوم الظاهر منه - بل الصريح منه الذي لا يحتمل التأويل مخالفاً لصريح العقل، بل مخالفا لما به يعلم صدقه وصدق الأنبياء قبله؟ وهلاً كان أهل الكتاب يقولون له: ما جئت به يقدح في نبوات الأنبياء قبلك، فإنا لا يمكننا أن نصدقك إلا بقضايا عقلية بها يعلم صدق الرسل، وما أظهرته للناس وبينته لهم وأخبرته به يناقض الأصول العقلية التي بها نعلم تصديق الأنبياء؟

واعلم أنه من أمعن النظر في هذا المقام وتوابعه، حصل لهم أمور جليلة:

بطلان قول من يقول: العلم بصحة السمع لا يكون إلا بقضايا عقلية مناقضة للمفهوم الظاهر من أخبار الله ورسوله.

بل بطلان قول من يجعل صريح العقل مناقضاً لأخباره.

ص: 69

بل بطلان قول من يدعي أن أقوال الجهمية النفاة لعلو الله على خلقه - مما هي معروفة بصريح العقل، سواء كانت موافقة لخبر الرسول أو مخالفة له.

وذلك من وجوه:

أحدها: أن إيمان المؤمنين به، العالمين بصدقه، حصل بدون هذه القضايا.

الثاني: أن أحداً منهم لم يورد هذه المعارضة، ولم يستشكل هذا الذي هو تناقض في وعم هؤلاء.

الثالث: أن المنافقين لم يورد أحد منهم هذا.

الرابع: أن المشركين لم يورد أحد منهم هذا.

الخامس: أن أهل الكتاب لم يورد أحد منهم هذا.

السادس: أنه لم يعهد إليهم أن لا يصدقوا بمضمون هذه الظواهر ولا يعتقدوا موجبها، ولا أمرهم بترك تدبرها وفهمها وعقلها، ولا بتأويلها تأويلا يصرفها عن المعنى الظاهر المفهوم منها، ولا بتفويضها وقولهم: لا نعلم معناها.

السابع: أن الصحابة لم يوصوا التابعين بذلك.

الثامن: أن التابعين لم يوردوا على الصحابة، ولا أورد بعضهم على بعض ظهور هذا التناقض والتعارض، ولا سئل بعضهم بعضاً: كيف نصنع؟ هل نتبع موجب النصوص أو موجب العقول المعارضة،

ص: 70

وتناول النصوص؟ أو نصرف قلوبنا عن فهمها وتدبرها وعقلها، ونقول: لا ندري ما معناها؟

فإن قيل: فهذا الذي ذكرته ظاهراً لا يخفى على من تأمل أمور الإسلام كيف كانت، وكيف ظهر الإسلام، ومع هذا فهذه الشبه العقلية التي احتج بها النفاة وقد ضل بها خلق كثير من هذه الأمة ومن أهل الكتاب، فهل كانت عقول الكفار أصح من عقول هؤلاء؟ ثم إذا كان الأمر هكذا فكيف إذا وقع في هذه من وقع؟

قيل: المقصود هنا فساد قول من يقول: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بقضايا عقلية تناقض مفهوم ما أخبر به، وهذا يلزم من قال ذلك من الجهمية والمعتزلة، وأتباعهم من الأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة والصوفية: إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بأن يستدل على حوادث العالم بحدوث الأجسام، وأنه يستدل على ذلك بحدوث ما قام بها من الأعراض مطلقاً أو الحركات، وأن ذلك مبني على امتناع حوادث لا أول لها، وذلك يستلزم نفي الأفعال القائمة بذات الله تعالى المتعلقة بمشيئته واختياره، بل نفي صفاته، وأن يكون القرآن مخلوقاً، وأن الله لا يرى في الآخرة، ولا يكون فوق العالم.

فمن قال: إن تصديقه فيما أخبر به لا يمكن إلا بهذه الطريق، كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، ولهذا قال الأشعري وغيره: إن هذه الطرق مبتدعة في دين الأنبياء، بل محرمة غير

ص: 71

مشروعة لا ريب أن عقل من آمن بالله ورسوله كان خيراً من عقل من سلك هذه الطريق من أهل الكلام.

وأما عقول الكفار فلا ريب، وإن كانت عقول جنس المؤمنين خيراً من عقولهم، لكان قد يكون عند الكفار من عقل التمييز ما يمنعه أن يقول ما يقوله كثير من أهل البدع.

ألا ترى أن أكاذيب الرافضة لا يرضاها أكثر من العقلاء من الكفار؟ فذلك عقول المشركين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تقبل أن ترد رسالته بمثل هذا الكلام الذي فيه من الدقة والغموض ما لا يفهمه أكثر الناس، ومن فهمه من العقلاء علم أنه من باب الهذيان والبهتان.

يبين لك كل ذلك أن العرب مع شركها كانت مقرة بأن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه، مقرة بالقدر، وكانت عقولهم من هذا الوجه خيراً من عقل من جعل كثيراً من المحادثات لم يخلقه الله ولا قدره ولا أراده، وكانت العرب أيضاً تقر بان الله فاعل مختار، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكانت عقولهم خيراً من عقول الدهرية والفلاسفة، الذين يقولون بأن العالم صدر عن علة تامة موجبة له، كما يقول الدهرية والإلهيون.

ولا ريب أن من أنكر الصانع وقال بان العالم واجب بذاته، فعقله أفسد من عقل هؤلاء.

والعرب لم تكن تقول بهذا اللهم إلا أن يكون في تضاعيفهم آحاد وتقوله، ولكن لم يكن هذا القول ظاهراً فيهم، بل الظاهر فيهم الإقرار بالخالق وعلمه وقدرته ومشيئته.

وهذه الشبه - شبه الجهمية - هي في الأصل نشأت من ملاحدة

ص: 72

الأمم المنكرين للصانع، وهؤلاء أجهل الطوائف وأقلهم عقلاً، فلهذا لم تكن العرب تعارض بمثل هذه الشبه، وإنما ذكر الله تعالى نظير قول الجهمية عن مثل فرعون وأمثاله من المعطلة، كالذي حاج إبراهيم في ربه.

ولا ريب أن المعطلة شر من المشركين، والعرب، وإن كانوا مشركين، لم يكن الظاهر فيهم التعطيل للصانع، وإن كان قد يكون في أضعافهم من هو من المرتابين في الصانع أو الجاحدين له، كما في تضاعيف كل أمة، حتى في المصلين من هو من هؤلاء، إذ المنافقون لم يزالوا في الأمة ولم يزالوا على اختلاف أصنافهم.

وإذا عرف أن المقصود بيان فساد قول من يزعم أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بالطريق الجهمية، المناقضة لإثبات ما اخبر من صفات الله وكلامه وأفعاله حصل المقصود.

وأما من قال: إن هذه المعقولات تعارض المفهوم الظاهر من الآيات والأحاديث، من غير أن يقول: إن العلم بصدق الرسول موقوف عليها، كما يقول من يعتقد صحة هذه الطريق: طريقة الاستدلال على الصانع بحدوث الأعراض وتركيب الأجسام، وإن قال إنه يمكن تصديق الرسول بدونها، كما يقول الأشعري نفسه، وكثير من أصحابه، والرازي وأمثاله، وكثير من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، يوجد شيء من هذا في كلام المحاسبي، وأبي حاتم البستي، والخطابي، وأبي الحسن التميمي، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل، وابن الزاغوني، وغير هؤلاء - فإن هؤلاء وجمهور المسلمين يقولون: إنه

ص: 73