الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بهم، ولم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبنا فيه، وخدعة من الشيطان، والله المستعان) .
تعليق ابن تيمية
قلت: هو كما قال أبو سليمان فإن السلف كانوا أعظم عقولاً، وأكثر فهموماً، وأحد أذهاناً، وألطف إدراكاً، كما قال عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن: «خير قرون الأمة القرن الذي بعث فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .
وأعظم الفضائل فضيلة العلم والأيمان، فهم أعلم الأمة باتفاق علماء الأمة، ولم يدعوا الطرق المبتدعة المذمومة عجزاً عنها، بل كانوا كما قال عمر بن عبد العزيز: على كشف الأمور أقوى، وبالخير لو كان في تلك الأمور أحرى.
وقول الخطابي: (تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها، لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها) فسنبين إن شاء الله أن تلك الطرق المخالفة للسنة هي في نفسها باطلة، فأضربوا عنها، كما يضرب عن الكذب والقول الباطل، وإن كان مزخرفاً مزيناً، ولم يستجيزوا أن يقابلوا الفاسد بالفاسد، ويردوا البدعة بالبدعة.
وأما الكلام الذي لا يدري أصدق هو أم كذب، فهو بمنزلة الشاهد الذي لا يعلم صدقه، فهذا قد يعرض عنه خوفاً أن يكون باطلاً وكذباً.
فهذا يكون في الطرق المجهولة الحال.
ولا ريب أن كثيراً من الناس لا يعلم أحق هي أم باطل، فينهى عن القول بما لا يعلم، وقد ينهى بعض الناس عن أن ينظر فيما يعجز عن فهمه ومعرفة الحق فيه من الباطل، خوفاً من أن يزل ذهنه فيضل، ولا يمكن هداه، فالخوف يكون فيما لا يعلم حاله، أو لا يعلم حال سالكه، وإن كان حقاً.
وأما الكلام المخالف للنصوص فهو في نفسه باطل، فالنهي عنه كالنهي عن الكذب والكفر ونحو ذلك.
وقوله: (وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته) .
فهذا بيان لأنهم كانوا أهل علم ويقين، لا أهل جهل وتقليد، وأنه حصل لهم معرفة يقينية ضرورية، بهدى الله لهم، وشرح صدورهم، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن الإيمان والعلم لا يتوقف على النطر الذي أحدثه أهل الكلام، فضلاً عن الكلام المخالف للنصوص.
وقوله: (ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب والسنة غنىً ومندوحة عما سواهما)
فهذا لأن الكتاب - والسنة - قد بين الحق وبين الطرق التي بها يعرف الحق، وذكر من الأدلة العقلية والأمثال المضروبة، التي هي مقاييس برهانية، ما هو أكمل في تحصيل العلم واليقين، مما أحدثه أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة.
وليس هدى الكتاب بمجرد كونه خبراً، كما يظنه بعضهم، بل قد نبه وبين ودل على ما به يعرف الحق من الباطل، من الأدلة والبراهين، وأسباب العلم واليقين، كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.
وما ذكره من أنه لما تأخر الزمان، وفترت عزائم بعض الناس عن طلب حقائق علوم الكتاب والسنة أخذوا يردون شبه الملحدين
بالكلام المبتدع، المستلزم مخالفة النصوص - فهو كما قال.
وقد تأملت هذا في عامة الأبواب فوجدته كذلك، بل وجدت جميع أهل البدع يلزمهم أن لا يكونوا مصدقين بتنزيل القرآن، ولا بتفسيره وتأويله في كثير من الأمور، والعلم - والإيمان - يتضمن التصديق بالتنزيل، وما دل عليه من التأويل، وما من بدعة من بدع الجهمية وفروعهم، إلا وقد قالوا في القرآن بما يقدح في تنزيله، وقالوا في معانيه بما يقدح في تفسيره وتأويله.
فمن تأمل طرق المعتزلة ونحوهم، التي ردوا بها على أهل الدهر والفلاسفة ونحوهم، فيما خالفوا فيه المسلمين، رآهم قد بنوا ما خالفوا فيه النصوص على أصول فاسدة في العقل، لا قطعوا بها عدوا الدين، ولا أقاموا على موالاة السنة واتباع سبيل المؤمنين، كما فعلوه في دليل الأعراض والتركيب والاختصاص.
وكذلك من ناطرهم من الكلابية وغيرهم، فيما خالفوا فيه السنة من مسائل الصفات والقدر وغير ذلك، بنوا كثيراً من الرد عليهم على أصول فاسدة: إما أصول وافقوهم عليها مما أحدثه أولئك، كموافقة من وافقهم على دليل الأعراض والتركيب ونحوهما، وإما أصول عارضوهم بها فقابلوا الباطل بالباطل، كما فعلوه في مسائل القدر والوعد والوعيد، ومسائل الأسماء والأحكام، فإن أولئك كذبوا بالقدر، وأوجبوا إنفاذ الوعيد، وقاسوا الله بخلقه فيما يحسن ويقبح، وهؤلاء ابطلوا حكمة الله
تعالى، وحقيقة رحمته وعدله، وقالوا ما يقدح في أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وتوقفوا في بعض أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فصار أولئك يكذبون بقدرته وخلقه ومشيئته، وهؤلاء يكذبون برحمته وحكمته، وببعض أمره ونهيه، ووعده ووعيده، كما قد بسط في موضعه.
فكان ما دفعوا به أهل البدع من أصول مبتدعة باطلة وافقوهم عليها، أو أصول مبتدعة باطلة قاتلوهم فيها، ضلة من الرأي، وغبناً فيه، وخدعة من الشيطان، بل الحق أنهم لا يوافقون على باطل، ولا يقابل باطلهم بباطل.
وهذا كما أصاب كثيراً من الناس من أهل العبادة والزهد والتصوف والفقر، أعرضوا عن السماع الشرعي، والزهد الشرعي، والسلوك الشرعي، فاحتاجوا أن يعتاضوا عن ذلك بسماع بدعي، وزهد بدعي، وسلوك بدعي، يوافق فيه بعضهم بعضاً في باطل، أو يقابل باطلهم بباطل آخر، وكما أصاب كثيراً من الناس مع الولاة الذين أحدثوا الظلم، فإنهم تارة يوافقونهم على بعض ظلمهم، فيعاونونهم على الإثم والعدوان، وتارة يقابلون ظلمهم بظلم آخر، فيخرجون عليهم