المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بن درهم، والجهم بن صفوان، وقد قتلهما المسلمون. وكلام السلف والأئمة - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق

- ‌تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام آخر للرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌رسالة البيهقي في فضائل الأشعري

- ‌كلام الأشعري في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌اعتراض يذكر نفاة الصفات

- ‌بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الجواب التاسع

- ‌الوجه الرابع والأربعون

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في البرهان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام الغزالي في الإحياء

- ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الشهرستاني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي نصر السجزي في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية

- ‌عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

- ‌كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية

- ‌كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة

- ‌كلام الباقلاني شرح اللمع

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌كلام الخطابي في كتاب شعار الدين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

- ‌القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

- ‌كلام الآمدي في الأبكار

- ‌كلام أبي الحسن الطبري الكيّا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن حزم في الفصل

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري

- ‌رد ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في نفي وجوب النظر

- ‌كلام أبي إسحاق الإسفراييني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في وجوب النظر

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن الزاغوني

- ‌تعليق ابن تيمية

الفصل: بن درهم، والجهم بن صفوان، وقد قتلهما المسلمون. وكلام السلف والأئمة

بن درهم، والجهم بن صفوان، وقد قتلهما المسلمون.

وكلام السلف والأئمة في ذم الجهمية أعظم وأكثر من أن يذكر هنا، حتى كان غير واحد من الأئمة يخرجهم عن عداد الأمة.

وقال يوسف بن أسباط وعبد الله ابن المبارك: أصولي الثنتين وسبعين فرقة أربع: الخوارج والشيعة، والمرجئة والقدرية،.

فقيل لابن المبارك: فالجهمية: فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ولأصحاب أحمد في الجهمية: هل هم من الثنتين وسبعين فرقة، أم هم خارجون عنها كالملاحدة والزنادقة؟ - قولان.

والجهمية باتفاقهم هم نفاة الصفات الذين يقولون إن الله ليس فوق العالم، ولا يرى، ولا تقوم به صفة ولا فعل.

وابن كلاب ومتبعوه خالفوهم في العلو والصفة، ووافقوهم على نفي الأفعال القائمة به، وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته، فكيف يمكن مع هذا أن يقال: إن السلف كانوا من القائلين بنفي العلو والصفات.

وإذا كانوا من المثبتة امتنع أن يقال: إنهم عرفوا أن القرآن إنما يدل على قول الإثبات وخالفوه.

‌الوجه الرابع

أن يقال: القرآن: إما أن يقال: إنه بنفسه دال على العلو وإثبات ما يفهم منه من الصفات.

وإما أن يقال: أنه ينفي ذلك، وإما أن يقال: إنه لا يدل على ذلك لا بنفي ولا إثبات.

فإن قيل بالأول ثبت المقصود وعلم أن مدلول القرآن ومفهومه هو

ص: 110

الإثبات، وتبين ما ذكر من أنه يمتنع أن يكون العقل الصريح معارضاً لذلك.

وإن قيل بالثاني كان هذا معلوم الفساد بالاضطرار، فإن ليس في القرآن آية واحدة ظاهرة في نفي الصفات، وغاية ما يريد من يستدل بذلك أن يستدل بقوله:{ليس كمثله شيء} [الشورى: 11]، وقوله:{ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] ، ونحو ذلك، وهذه الآيات إنما تنفي مماثلة صفاته لصفات المخلوقين، لا تنفي ثبوت الصفات.

ولا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات، فأما أن يكون فيه ما ينفي الصفات، فهذا من أعظم البهتان، الذي يظهر أنه كذب لكل عاقل.

ولهذا لما كان النفاة يعتمدون على ما ينفي التمثيل كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} ، وقوله:{ولم يكن له كفوا أحد} ، وهذا لا يدل على مقصودهم في اللغة التي نزل بها القرآن، بل هو على نقيض مقصودهم أدل، فإن هذا يدل على ثبوت شيء موصوف بصفات الكمال، لا مماثل له في ذلك، وهم لم يثبتوا ذلك - احتاجوا إلى أن يفتروا على اللغة، بعد أن افتروا على العقل، فصاروا مفترين على الشرع والعقل واللغة، فيقول أحدهم: لو كان موصوفاً بالعلو لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان مماثلاً لسائر الأجسام، والله قد نفى عنه المثل، فهذا أعظم ما يعتمدون عليه من جهة السمع.

وقد بين في غير هذا الموضع فساد هذا من وجوه كثيرة.

منها أن يقال: هنا ثلاث مقدمات حصل فيها التلبيس: أحدها: كون كل

ص: 111

عال جسماً.

والثاني: كون الأجسام متماثلة.

والثالث: كون هذا التماثل هو المراد بالمثل في لغة العرب التي نزل بها القرآن.

ومنشأ الغلط في الاشتباه والاشتراك والإجمال في لفظ (الجسم) ولفظ (المثل) .

فيقال: الجسم في لغة العرب هو البدن، وهو عندكم مما يمكن الإشارة إليه، فالهواء والماء والنار ونحو ذلك ليس جسماً في لغة العرب، وهو في اصطلاحكم جسم.

وإذا كان الجسم في لغة العرب أخص منه في عرفكم، وقد علم بصريح العقل أن الذهب ليس مثل الفضة، ولا الخبز مثل التراب، ولا الدم كالذهب، فما يسمى في لغة العرب (جسداً) و (جسماً) ونحو ذلك، هو مما يعلم أنه ليس متماثلاً بصريح العقل والحس، فكيف بما هو أعم من ذلك، مثل كونه يشار إليه، أو كونه يقبل الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق؟ مع أن هذه الألفاظ ليس مرادهم بها ما هو معناها في اللغة المعروفة، فإن هؤلاء عندهم الحبة الواحدة، كالعدسة والسمسمة، بل الذرة التي قال الله فيها:{إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] ، هي في اصطلاحهم طويلة عريضة عميقة.

ومن المعلوم بالاضطرار من لغة العرب أنهم يقولون عن نوع الإنسان: هذا طويل، وهذا قصير.

وكذلك أعضاء الإنسان كيده

ص: 112

ورجله وعنقه، يقولون: هذا طويل وهذا قصير، ويقولون: هذا عريض، وهذا دقيق ورقيق، لعنقه ويده.

وأما العميق عندهم فيقال في مثل الآبار ونحوها، لا يقولون لفم الإنسان: إنه عميق، ولا لأذنه وعينه ونحو ذلك، فكيف بالعدسة والسمسمة والذرة.

فإذا قالوا عن الشيء: إنه طويل عريض عميق، لم يقصدوا بذلك المعروف في اللغة، وما يعقله الناس من معنى الطول والعرض والعمق، بل يقصدون هذا المعنى العام الذي وضعوا له لفظ الطول والعرض والعمق، ثم يقولون مع هذا: إن كل ما وصف بهذه المعاني العامة، فإنه يجب أن يكون مماثلاً مستوياً في الحد والحقيقة، لا يختلف إلا باختلاف أعراضه.

فهذا القول من أبعد الأقوال عن المعقول الذي يعرفه الناس بحسهم وعقلهم.

ثم بتقدير أن يكون كذلك، فلا يتمارى عاقلان أن لفظ (المثل) في لفة العرب وسائر الأمم ليس المراد به هذا، وأنه إذا قيل له: إن كذا مثل كذا، أو ليس مثله، وهذا ليس له مثل، فإنه ليس المفهوم من (المثل) كون هذا بحيث يشار إليه، وكون هذا بحيث يشار إليه، أو كون كل منهما له قدر، أو له طول وعرض وعمق، لا بالمعنى اللغوي، ولا بما هو أقرب إليه، فضلاً عن اصطلاحهم.

ونحن نعلم بالضرورة من لغة العرب انهم لا يقولون: الجبل مثل النار، ولا الهواء مثل الماء ولا الجمل مثل البقر، ولا الشمس والقمر مثل الذهب والفضة، مع اشتراكهما في كثير من الصفات الزائدة على

ص: 113

مطلق المقدار، بل قد نفى في القرآن كون الشيء مثل غيره مع كون كل منهما جسماً، بل حيواناً، بل إنساناً.

كما يف قوله: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38] .

وقال تعالى: {أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون} [الواقعة: 58-61] .

وهذا في لغة العرب لقول شاعرهم:

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يوازيه في الفضائل

وقال الآخر:

ما إن كمثلهم في الناس واحد

فكيف يجوز مع هذا أن يستدل بقوله: {ليس كمثله شيء} ، أو قوله:{ولم يكن له كفوا أحد} على أنه لا صفة له، أو لا يرى في الآخرة، أو ليس فوق العرش - بناءً على تلك المقدمات، وهو أنه لو كان كذلك لكان جسماً، والأجسام متماثلة، والله قد نفى المثل؟

ومن عجيب ما يحتجون به أنهم يقولون: لو كان متصفاً بذلك لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان منقسماً، والمنقسم ليس بواحد، والله قد أخبر أنه واحد.

مع أنه لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم

ص: 114

من الأمم، استعمال الواحد الأحد والوحيد إلا فيما يسمونه جسماً ومنقسماً، كقوله تعالى:{ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] .

وقوله تعالى: {وإن كانت واحدة فلها النصف} [النساء: 11] .

وقوله: {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} إلى قوله: {قال له صاحبه وهو يحاوره} [32-37] .

وقوله: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} [البقرة: 266] .

وقوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49] .

وقوله: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26] .

وقوله: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110] .

وقوله: {ولا تستفت فيهم منهم أحدا} [الكهف: 23] .

وقوله: {قل إني لن يجيرني من الله أحد} [الجن: 22] .

وقوله: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18] .

وقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] .

ص: 115

وقوله: {ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36] .

إلى قوله: {أما أحدكما فيسقي ربه خمرا} [يوسف: 41] .

وقوله: {قالت إحداهما يا أبت استأجره} [القصص: 26] .

إلى قوله: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} [القصص: 27] .

وقوله: {ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 4] .

والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وفرس واحد، وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد، ورأس واحد، وذكر واحد، وأمير واحد، وملك واحد، ومسكن واحد، وسيد واحد، وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى.

فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسماً منقسماً، لأن ما لا يسمونه هم جسماً منقسماً ليس هو شيئاً يعقله الناس، ولا يعلمون وجوده حتى يعبروا عنه، بل عقول الناس وفطرهم مجبولة على إنكاره ونفيه، فلو قدر وجود هذا في الخارج، أو إمكان وجوده، لاحتيج بعد ذلك إلى أن يثبت لفظ (الواحد) في لغة العرب يعبرون بها عنه، إذ ليس كل ما وجد، أو أمكن وجوده، يجب أن يتصوره أهل اللغة، ويكون داخلاً فيما عبروا عنه من لغتهم.

ص: 116

وإذا قدر أن أهل اللغة عبروا بلفظ (الواحد) و (الأحد) في لغتهم عن هذا، لم يجز أن يقال: إن لفظ (الواحد) في لغتهم لا يقع إلا عليه، لما ذكرناه أن لفظ (الواحد) وما اشتق منه عرف واشتهر استعماله في اللغة فيما يجعلونه هم جسماً منقسماً، وذلك ليس بواحد عندهم، فسمي الواحد عندهم منتف في اللغة، وإن قدر وجوده لكان نادراً في اللغة.

والغالب المشهور في اللغة أن اسم (الواحد) يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحتج بقوله تعالى:{وإلهكم إله واحد} [البقرة: 163]، وقوله:{قل هو الله أحد} ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، واخبرنا فيه انه أحد، وأنه إله واحد - على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحداً مما ليس معروفاً في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر - كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديماً بنفسه، متصفاً بالصفات مبايناً لغيره، مشاراً إليه.

وما لم يكن مشاراً إليه أصلاً، ولا مبايناً لغيره، ولا مداخلاً له، فالعرب لا تسميه واحداً ولا أحداً، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، لا على مطلوبهم.

ص: 117

يؤيد هذا أنهم يقولون: اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعاً بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس، وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها، وقالوا: المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركاً.

وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركاً، فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة، فضلاً عن أن يعلموا أن لفظ (الحركة) موضوع له.

ولفظ (الحركة) لفظ مشهور يتداوله الخاصة والعامة، فلا يحوز أن يكون مفهومه ما لا يتصوره المخاطبون به.

وهذا بعينه ما يقال لهؤلاء النفاة الذين يسمون نفيهم توحيداً، فيقال هذا الواحد الذي تثبتونه، وهو أنه لا يشار إليه، ولا يتميز منه شيء عن شيء، ونحو ذلك - أمر لا يتصوره إلا بعض الناس، بل قليل منهم، والذين تصوروه تناعوا في إمكان وجوده في الخارج، فمنهم من قال: وجود هذا في الخارج ممتنع، وإن كان كذلك، ولفظ الواحد مشهور في اللغات كلها أشهر من لفظ (الحركة) ، فلا يجوز أن يكون مسمى هذا الاسم في اللغة المعروفة معنى لا يتصوره إلا قليل من الناس، وهم متنازعون في إمكان ثبوته في الخارج، وإذا لم يكن هذا المعنى هو المراد بلفظ (الواحد) و (الأحد) ، لم يجز الاستدلال بالسمع الوارد بلغة العرب على هذا.

ص: 118

ولو قيل: إنه يجوز استعمال لفظ (الواحد) في لغتهم في هذا المعنى: إما بطريق المجاز والاشتراك أو التواطؤ.

قيل: هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك، لكن نحن نعلم أنهم لم يستعملوه في ذلك، لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى، وبتقدير أن يكون مستعملاً في هذا وهذا، فإنه يكون دالاً على ما به الاشتراك، فلا يدل على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر، فلا يدل على محل النزاع، ولو قدر أنه حقيقة في أحدهما: مجاز في الآخر، لكان حقيقة في المعنى الذي يسبق إلى إفهام الناس عند الإطلاق، وهو المعروف.

ولو قدر أنه مشتركاً اشتراكاً لفظياً لم يجز تعيين محل النزاع إلا بقرينة تدل على تعيينه، والقرائن اللفظية إنما تدل على نقيض قولهم، لا على عين قولهم، فإنه ليس في الكتاب إثبات واحد بالمعنى الذي ادعوه، فضلاً عن أن يكون الله موصوفاً به.

وهذا (الواحد) الذي يثبته هؤلاء من جنس الأحوال التي يثبتها أولئك، ومن جنس الشيء المعدوم الذي يثبته من يقول: المعدوم شيء، ومن جنس الكليات والمجردات، كالعقول والمادة والصورة العقلية التي يثبتها الفلاسفة، فهؤلاء يثبتون في الخارج ما لا وجود له في الخارج، لكن مثبتة الأحوال اعقل، ولهذا كان فيهم من هو من أهل الإثبات، فإنهم عرفوا أنها ليست موجودة في الخارج، لكن تناقضوا حيث قالوا: لا موجودة ولا معدومة، فصاروا مشابهين للقرامطة الباطنية المتفلسفة، الذين يقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت.

ومن قال: المعدوم شيء، وهو ثابت وليس بموجود - يشبه المتفلسفة الذين جعلوا

ص: 119

الكليات المجردات أموراً موجودة في الخارج، لكن تناقضوا حيث فرقوا بين الوجود والثبوت.

والمقصود أن كل هؤلاء يجمعهم إثبات أمور يدعون أنها موجودة في الخارج، وهي لا يتصورها إلا طائفة قليلة من الناس، فضلاً عن أن تكون الألفاظ المعروفة المشهورة في اللغة دالة عليها.

ولا ريب أنهم أخطأوا في المعاني المعقولة، ثم في مدلول الألفاظ المسموعة.

فتبين لك أن قولهم يتضمن من الفرية على اللغة والعقل من جنس ما تضمن من الفرية على الشرع، وأنهم لا يمكنهم أن يقولوا: إن الشرع دال على قولهم بوجه من الوجوه، لا بطريق الحقيقة ولا بطريق المجاز.

فإذا أريد بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعوه من مسمى الواحد، كان هنا طرق:

أحدها: أن هذا اللفظ لم يستعمل إلا فيما نفوه دون ما أثبتوه.

الثاني: أن نبين انتفاء ما أثبتوه في الخارج، وحينئذ فلا يكون كلام دالاً على وجود ما ليس بموجود.

الثالث: أن ما يذكرونه لا يتصوره عامة الناس: لا العرب ولا غيرهم، فلا يكون اللفظ موضوعاً له ودالاً عليه، وإن كان له وجود.

ولا يقال: هو بتقدير وجوده يشمله لفظ الواحد، لما تقدم من أن اللفظ المشهور بين الخاص والعام لا يكون مسماه مما لا يتصوره إلا الخاصة.

الطريق الرابع: أنه بتقدير شموله لما أثبتوه وما نفوه، فلا ريب أن شموله لما

ص: 120

نفوه أظهر، إذ لم يعرف استعماله في ذلك، فلا يمكنهم دعوى اختصاص معنى الواحد بما ادعوه.

الخامس: أنه بتقدير عمومه وكونه متواطئاً إنما يدل على القدر المشترك لا على خصوص ما أثبتوه.

السادس: أنه بتقدير كون أحدهما مجازاً، فالحقيقة هي ما نفوه دون ما أثبتوه، لأن المعنى الذي يسبق إلى إفهام المخاطبين.

السابع: أنه بتقدير الاشتراك اللفظي لا يجوز إرادة ما ادعوه غلا بقرينة، ويكفينا في هذا المقام ألا نستدل به على أحدهما.

الثامن: أن من يستدل به على ما نفوه، لأن القرائن اللفظية المذكورة في القرآن تدل عليه، لأنه أثبت لهذا الواحد صفات متعددة، وأفعالاً متعددة، وتلك تستلزم ما نفوه لا ما أثبتوه.

التاسع: أن يقال: أسم (الأحد) لا يستعمل في حق غير الله إلا مع الإضافة، أو في غير الموجب، كقوله:{قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} [يوسف: 36]، وقال:{ولا يظلم ربك أحدا} [الكهف: 49]، وقال:{وإن أحد من المشركين استجارك} [التوبة: 6] ، فهو أبلغ في إثبات الوحدانية من اسم الواحد، ومع هذا فلم يستعمل إلا فيما نفوه مثل قوله:{ولم يكن له كفوا أحد} وأمثاله، لا يعرف استعمال (الأحد) فيما ادعوه، لا في النفي والإثبات، فكيف اسم الواحد؟

ص: 121

العاشر: أن القرآن أثبت الوحدانية في الإلهة بقوله: {وإلهكم إله واحد} [البقرة: 62]، وقوله:{وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون} [النحل: 51]، وقوله حكاية عن المشركين:{أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5] .

وأمثال ذلك.

وأما كون القديم واحداً، أو الواجب واحداً، فهذا إنما يعرف عن الجهمية من المتكلمين والفلاسفة، فإنهم قالوا: القديم واحد، وهو لفظ مجمل يراد به أن الإله القديم واحد، وهذا حق، ويراد به أن مسمى القديم واحد، ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لكان القديم أكثر من واحد.

وقالت جهمية الفلاسفة: الواجب واحد، وهو مجمل: يراد به الإله الواجب بذاته، وهذا حق.

ويراد به مسمى الواجب ثم قالوا: لو أثبتنا له الصفات لتعدد الواجب.

ومعلوم أن التوحيد الذي في القرآن هو الأول لا هذا، وكذلك التوحيد الذي جاءت به السنة، واتفق عليه الأئمة، فتبين أن لفظ (التوحيد) و (الواحد) و (الأحد) في وضعهم واصطلاحهم، غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن.

وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي

ص: 122

لفظ التوحيد على ما يدعونه هم، لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون، بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته، كما قال تعالى:{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} [إبراهيم: 4] ، بل لفظ (التوحيد) و (الأحد) و (الواحد) الموجود كلام الله ورسوله يدل على نقيض قولهم، وأنه موصوف بالصفات الثبوتية، كما تقدم التنبيه عليه من أنه لا يعرف مسمى الواحد في لغة العرب إلا ما كان كذلك، ومن أن الله وصف هذا الواحد بالصفات الثبوتية، وسماه بالأسماء المتضمنة للمعاني الثبوتية في غير موضع.

فلو قدر أن لفظ (الواحد) فيه اشتراك وإجمال، لكان ما بينه القرآن من اتصافه بالصفات الثبوتية رافعاً للإجمال والاشتراك، موافقاً لقول أهل الإثبات دون النفاة.

وهذه الأدلة كلما تدبرها العاقل تبين له قطعاً أن هؤلاء النفاة مناقضون للرسول، هم في جانب، والرسل في جانب، كمناقضة القرامطة الباطنية وأمثالهم، وأن استدلال هؤلاء بنصوص الأنبياء على نفيهم، من جنس استدلال القرامطة على شريعتهم الإلحادية بنصوص الأنبياء.

ومما يبين ذلك أن كلام الله ورسوله صدق، بل أصدق الكلام كلام الله.

والكلام الصدق يتضمن الإخبار عن الأمور على ما هي عليه، لا على خلاف ما هي عليه، بخلاف الكلام الذي هو كذب، سواء كان

ص: 123

صاحبه يعلم أنه كذب، أو كان مخطأ يظن أنه صدق مطابق للحقائق وليس كذلك، كما هو كلام هؤلاء النفاة للصفات، فإن الواحد الذي يثبتونه لا حقيقة له في الخارج، فيمتنع أن يكون كلام الله مخبراً عن وجوده في الخارج وذلك أنهم يجعلون الحقائق المتنوعة: كل واحدة هي الأخرى بلا امتياز أصلاً، فيجعلون الذات القائم بنفسها هي الصفة القائمة بها، كما يجعلون العالم عين العلم، والقادر عين القدرة.

ومنهم من يجعل العلم عين المعلوم، ويجعلون كل صفة هي الأخرى، كما يجعلون العلم هو القدرة، والقدرة هي الإرادة، أو يجعلون النوع الكلي العام المقسوم إلى أعيان هو واحد بالعين، بحيث تكون هذه العين هي تلك العين، كما يقولون: الوجود واحد، والموجود الواجب، وهو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، الذي لا يختص بوجه من الوجوه، أو بشرط عدم كل أمر وجودي عنه، فلا يختص بكونه واجباً أو عالماً أو قادراً أو حياً، أو نحو ذلك من الأمور التي توجب اختصاصه بموجود دون موجود.

وإذا حققوا الأمر لم يفرقوا بين الوجود الواجب الخالق القديم الفاطر الغني عن كل ما سواه، والوجود الممكن المحدث المخلوق المفطور الفقير الذي لا يستغني بوجه من الوجوه عن خالقه بل لا يزال فقيراً إليه.

ويجعلون الكلام المنقسم إلى الأمر والنهي والخبر هو نفس الأمر والنهي والخبر، وإن عين الكلام الذي هو أمر عين الكلام الذي هو

ص: 124

خبر، وعين الكلام الذي هو أمر بالصلاة، هو عين الكلام الذي هو أمر بالصيام، وعين الكلام الذي هو خبر عن الله، هو العين الكلام الذي هو خبر عن أبي لهب، فيجمعون ذلك بين كون الواحد العام الكلي المشترك الذي لا يكون إلا بالذهن، هو الآحاد المعينة الموجودة في الخارج، ولا يفرقون بين الواحد بالنوع والواحد بالعين.

كما لم يفرق بين هذا وهذا وحدة الوجود، الذين قالوا الوجود واحد، وجعلوا وجود الخالق عين وجود المخلوقات، الذين قالوا: الحقائق المتنوعة كالأمر والخبر حقيقة واحدة.

فالواحد الذي يثبته النفاة - أو من أخذ ببعض أقوالهم - لا بد أن يتضمن بعض هذا، مثل جعل الذرات هي الصفات، أو جعل كل صفة هي الأخرى، أو جعل الكل المقسوم إلى أنواع هو نفس الأعيان المختلفة الموجودة في الخارج، وجعل ما يمتنع وجوده في الخارج ولا يكون إلا في الذهن أمراً موجوداً في الخارج يجب وجوده في الخارج، وجعل ما يجب وجوده في الخارج مما يمتنع وجوده في الخارج، فلا يكون إلا في الذهن.

ومنتهاهم في توحيدهم إلى إثبات واحدين: أحدهما: الجوهر الفرد الذي يثبته من يثبته من المعتزلة ومن وافقهم من أهل الكلام، مع أن

ص: 125

جمهور العقلاء ينكرونه، مع دعوى النظام أن في كل جسم من ذلك ما لا يتناهى.

الثاني: الجواهر العقلية التي يثبتها من يثبتها من المتفلسفة، مع أن جمهور العقلاء يعلمون بالضرورة أنها إنما هي في الأذهان لا في الأعين، مثل الكليات المطلقة التي توصف بها العيان.

وهم يقولون إن الحقائق الموجودة بالخارج - الذي يسمونها الأنواع، كالإنسان والفرس وغيرها من أنواع الحيوان - مركبة من هذه، ومثل المادة الكلية والصورة الجوهرية اللتين يدعون أنهما جوهران عقليان يتركب منهما كل جسم، ومثل العقول العشرة التي يدعون أنها مجردات - فإن هؤلاء يصورون أن ما يعقله الإنسان من المعقولات المجردات المفارقات للأعيان المحسوسة، فتوهموها أنها تلك المعقولات المجردات هي موجودة في الخارج مفارقات للأعيان محسوسة، وإنما هي أمور متصورة في الأذهان، لا أنها موجودة مع كونها كلية أو مع كونها مجردة في الأعيان، ثم يدعون تركيب الأنواع منها، كما يدعي أولئك تركب الأعيان من الأجزاء التي يسمونها الجواهر المنفردة.

وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر، وبين أن هذا الواحد الذي يثبتون في العلم الإلهي والطبيعي والمنطقي لا حقيقة له إلا في الأذهان.

ومن تصور أن هذا حق التصور، تبين لهم من غلط هؤلاء

ص: 126