المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعليق ابن تيمية - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق

- ‌تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام آخر للرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌رسالة البيهقي في فضائل الأشعري

- ‌كلام الأشعري في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌اعتراض يذكر نفاة الصفات

- ‌بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الجواب التاسع

- ‌الوجه الرابع والأربعون

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في البرهان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام الغزالي في الإحياء

- ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الشهرستاني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي نصر السجزي في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية

- ‌عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

- ‌كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية

- ‌كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة

- ‌كلام الباقلاني شرح اللمع

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌كلام الخطابي في كتاب شعار الدين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

- ‌القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

- ‌كلام الآمدي في الأبكار

- ‌كلام أبي الحسن الطبري الكيّا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن حزم في الفصل

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري

- ‌رد ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في نفي وجوب النظر

- ‌كلام أبي إسحاق الإسفراييني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في وجوب النظر

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن الزاغوني

- ‌تعليق ابن تيمية

الفصل: ‌تعليق ابن تيمية

والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} .

‌تعليق ابن تيمية

ومن المستقر في بدائه العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق الآدميين، فإذا كان فيها من الدلالة على علم خالقها وقدرته وحكمته ما بهر العقل، أفلا يكون ذلك دالاً على أنه قادر على إحياء الموتى لا يعي بذلك كما لم يعي بالأول بطريق الأولى والأخرى؟

ولعل هذا الجاهل لم يفهم هذه الآية، فظن أن قوله:{ولم يعي بخلقهن} ، وهو من الإعياء: الذي هو النصب اللغوب، وأن المعنى إذا كنا ما تعبنا في الخلق الأول، فكيف نتعب في الثاني؟ فإن كان هذا هو الذي فهمه من الآية، كما يفهم ذلك جهال العامة الذين لا يعرفون لغة العرب ولا تفسير القرآن، ولا يفرقون بين عيي وأعياء، فقد أوتي من جهة جهله بالعقل والسمع.

وهؤلاء المبتدعين يجهلون حقائق ما جاء به الرسول، ويعرضون عنه، ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من

ص: 381

جنس ما في كلامهم، ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لتبينوا أنه الجامع لكل خير.

وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص، فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم.

ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض، وقد علم ما فيه من الأعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب.

وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب، فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب.

والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث، فجعلوا القديم الأزلي داخلاً في مسمى الممكن، وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم، مع تناقضهم في ذلك.

وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلاً على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل.

وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه، ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح، كما قد بسط في موضعه.

ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات، ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات.

ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات، فكثير

ص: 382

من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود، وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول: إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات.

ومآل القولين واحد، وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين، فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود، فمن جعله هو الوجود الواجب، أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك، كان منكراً للصانع.

ثم إذا كان هذا الوجود الواجب، كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه، كما بينا ذلك في غير هذا الموضع.

فمن جعله وجود كل موجود، كان فيه الشهادة على نفس الوجود المحدث الكائن بعد أن لم يكن بأنه واجب، ومن جعله وجود الفلك كان فيه من افتقار واجب الوجود إلى غيره، ومن حدوث الحوادث بلا سبب فاعل، ومن غير ذلك ما يناقض أصولهم وأصول غيرهم المتفق على صحتها، ويوقعهم في شر مما منه فروا.

والمقصود هنا أنه سبحانه لما قال: {أفعيينا بالخلق الأول} ، لم يرد الإعياء الذي هو التعب، وإيما أراد العي، كما تقول العرب: عيي بأمره إذا لم يهتد لوجهه.

وحينئذ فيكون في الآية من الدلالة على علم الخالق وحكمته ما يبين أنه خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه.

ومن كان خالقاً لهذا العالم بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، كان بأن يقدر على إحياء الموتى أولى وأحرى.

ص: 383

والملاحدة المنكرون للعماد تعود شبههم كلها إلى ما ينفي علم الرب تعالى أو قدرته أو مشيئته أو حكمته.

ونفي العي يثبت هذه الصفات، فتنتفي أصول شبههم.

فالفلاسفة الإلهيون الذين هم أشهر هذه الطوائف بالحكمة والنظر والعلم - رهط الفارابي وابن سينا وأمثالهما - عمدتهم في إنكار المعاد هو اعتقادهم قدم العالم، وأن الفاعل علة تامة موجبة بالذات، لا يختلف فعلها، فلا يجوز أن يتغير العالم لأجل ذلك.

وهؤلاء في كلامهم من نفي قدرته وعلمه ومشيئته ما هو مبسوط في غير هذا الموضع.

ومن أيسر ذلك أنهم في الحقيقة ينكرون أن يكون خالقاً للمحدثات.

وإذا كان قد عرف بضرورة العقل أن المحدثات، وما فيها من التخصيص والإتقان والحكمة، دل على الخالق العليم القدير الحكيم، علم فساد قول هؤلاء، فإن قولهم يستلزم أن تكون المحدثات كلها حدثت بلا محدث، لأن العلة القديمة التامة التي جعلوها الأول لا يتأخر عنها شيء من معلولاتها، فلا يكون شيء من الحوادث معلولاً لها، فلا يكون مفعولاً لها، ولا يجوز أن تكون الحوادث معلولة لعلة أخرى تامة موجبة بذاتها، لأن القول في تلك

ص: 384

العلة كالقول في هذه، ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن لا علة له، لأن الممكن لا يكون موجوداً بنفسه، بل لا بد له من موجد - سمي علة أو لم يسم - ولا يجوز أن يكون صدرت عن ممكن بنفسه، لأن كون ذلك الممكن محدثاً لها أمر ممكن محدث.

فلا بد له من محدث، فإذا استحال على أصولهم صدور الحوادث عن العلة التامة الواجبة بواسطة أو غير واسطة، فقد تعذر صدورها عن ممكن لا موجب له، وعن موجب لا يستند فعله إلى الواجب بنفسه، لزم على قولهم أن لا يكون لها فاعل.

ووجه الحصر أن يقال: محدث الحوادث: إما أن يكون هو الواجب بنفسه، بوسط أو بغير وسط، أو غير الواجب بنفسه.

وما ليس بواجب بنفسه فهو الممكن.

والممكن إما أن يكون له موجد، وإما أن لا يكون.

والثاني ممتنع.

والأول نفس إحداثه للمحدثات أمر حادث ممكن، فلا بد له من موجد.

فتبين أن المحدثات لا بد لها من محدث، يكون واجباً بنفيه، ولا يكون علة تامة مستلزمة لمعلولها، وهذا يبطل أصل قولهم.

وهذا قول حذاقهم - كابن سينا وأمثاله - الذين يقولون: إنه صدر عن موجب بالذات.

ويحكى هذا القول عن برقلس.

وأما أرسطو وأتباعه فعندهم الأول لا يوجب شيئاً ولا يفعل شيئاً، بل

ص: 385

الفلك يتحرك للتشبه به - وهذا أفسد من ذاك من طرق متعددة وليس هذا موضع بسط ذلك.

وإنما المقصود هنا التنبيه على أن قوله تعالى: {ولم يعي بخلقهن} ، فيه تنبيه على ثبوت الأمور التي توجب وصف خالق السماوات والأرض بصفات الكمال وبإحداث الأفعال، وذلك هو الذي يستلزم قدرته على إحياء الموتى، وبسط ذلك يطول.

ومما يبين خذلان الله لأهل البدع، والمخالفين للكتاب والسنة، أن هذين الأصلين: أمر الولادة، وأمر المعاد، هما من أعظم أصول أهل الضلال كالدهرية من الفلاسفة وغيرهم، الذين يقولون: إن العقول تولدت عن الله، وينكرون إحياء الله الموتى.

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك.

فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولداً، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد.

وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» .

وهذا في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة، وابن عباس.

ص: 386

وهذا المبتدع ذكر في دلالة القرآن على هذا وعلى هذا ما تقدم التنبيه على فرط ضلال قائله عن حقائق ما أنزل الله على رسوله.

ولهذا كانت طريقة القرآن فيما يثبته للرب تعالى وينفيه عنه مبنية على برهان الأولى، لا على البرهان الذي تستوي أفراده، أو يماثل فرعه أصله.

قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى} ، بعد قوله:{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم} .

وقال تعالى في الآية الأخرى: {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن} ، أي بما ضربوه للرحمن مثلاً، والمثل الذي ضربوه له هو البنات، وهو عندهم مثل سوء مذموم معيب.

فقال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} ، ومن قال: إنه ولد الملائكة، أو قال: إنه ولد العقول أو النفوس، فإنه لا يؤمن بالآخرة، فله مثل السوء.

والله تعالى له المثل الأعلى، فلا يضرب له المثل المساوي، إذا لا كفو ولا ند، فضلاً عن أن يضرب له المثل الناقص، ولا يكتفي في حقه بالمثل العالي، بل له المثل الأعلى، إذ هو الأعلى سبحانه، والعلم به أعلى العلوم، وذكره أعلى الأذكار، وحبه أعلى الحب.

ص: 388

والذي يبتغي وجه ربه الأعلى هو أعلى إذ هو الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله، كما قال تعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ، وقال تعالى:{وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} .

ونظير ما ذكره سبحانه في الأولاد، ما ذكره في الشركاء في قوله تعالى:{ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} ، يقول تعالى: إذا كان الواحد منكم ليس له من مماليكه شريك في ما رزقه الله، بحيث يخاف ذلك المملوك، كما يخاف السادة بعضهم بعضاً، فكيف تجعلون لي شريكاً هو مملوكي، وتجعلونه شريكاً فيما يختص بي من العبادة والمخافة والرجاء حتى تخافوه كما تخافوني؟.

ومن المعلوم أن ملك الناس بعضهم بعضاً ملك ناقص، فإن السيد لا يملك من عبده إلا بعض منافعه، لا يملك عينه، وهو شبيه بملك الرجل بعض منافع امرأته، وملك المستأجر بعض منافع أجيره.

ولهذا

ص: 389

يشبه النكاح بملك اليمين، كما قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته.

وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله، وقرأ قوله تعالى:{وألفيا سيدها لدى الباب} ، فإذا كان هذا الملك الناقص لا يكون المملوك فيه شريكاً للمالك، فكيف بالملك الحق التام لكل شيء؟ ملك المالك للأعيان والصفات، والمنافع والأفعال، الذي لا يخرج عن ملكه شيء بوجه من الوجوه، ولا لغيره ملك مفرد، ولا شريك في ملك ولا معاونة له بوجه من الوجوه، كيف يسوغ في مثل هذا، أن يجعل مملوكه شريكه بوجه من الوجوه؟.

والشرك نوعان: أحدهما: شرك في الربوبية، والثاني شرك في الإلهية.

فأما الأول فهو إثبات فاعل مستقل غير الله، كمن يجعل الحيوان مستقلاً بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول، أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلاً بشيء من الإحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل، فإن كل ما يذكرونه من فعل هذه الفاعلات أمر حادث يفتقر إلى محدث يتم به إحداثه، وأمر ممكن لا بد له من واجب يتم به

ص: 390

وجوده، وكل ما سوى الخالق القديم الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره، فلا يتم به حدوث حادث، ولا وجود ممكن.

وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه، بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وإنما كان من النوع الثاني، فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول من غير عكس.

والثاني الشرك في الإلهية، وضده هو التوحيد في الإلهية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين المقرين بأنه رب كل شيء، كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع، ويستدفعون بها المضمار، ويتخذونها وسائل تقربهم إليه، وشفعاء يستشفعون بها إليه.

وهؤلاء خلق من خلقه، لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، فكل ما يطلب منهم لا يكون إلا بإذنه، وهو سبحانه لم يأمر بعبادة غيره، ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل.

بل قد قال تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} .

قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} .

وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في

ص: 391

السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون} .

وهذا المعنى كثير في القرآن: يبين سبحانه أنه لم يشرع عبادة غيره، ولا إذن في ذلك، بل يبين أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فإنه كما يمتنع أن يكون غيره رباً فاعلاً، يمتنع أن يكون إلهاً معبوداً.

وإذا كان جعل المملوك شريكاً في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك، يرهب منه كما يرهب من المالك - ممتنعاً يوجب الفساد، فجعل المملوك المخلوق شريكاً لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزم الفساد.

وذلك أن الذي يخافه إنما يخاف أن يضره، فإذا كان يعلم أنه لا يضره إلا بإذن الله سبحانه، كان الله تعالى هو الذي يجب أن يخاف.

وكذلك الذي يرجوه، إذا كان إنما يرجو نفعه، وهو لا ينفعه إلا بإذن الله، كان الله هو الذي يجب أن يرجى، إذ لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، بخلاف مملوك البشر، فإنه - وإن كان لا يترف في المال إلا بإذن سيده، ولا يمنع من أذن له

ص: 392

سيده - فقد يمكنه معصية سيده، وإن كان في معصيته نوع من الفساد.

والخالق تعالى لا يمكن أحداً أن يفعل شيئاً إلا بمشيئته وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي معصية أمره الفساد الذي لا صلاح معه، فالمخلوق أعجز عن أن ينفع أو يضر بدون إذنه، من عجز المملوك عن النفع والضر بدون إذن سيده، ومعصية المخلوق لأمره، الذي أرسل به رسله، أعظم فساداً من معصية المملوك لأمر سيده.

قال تعالى في قصة الخليل صلى الله عليه وسلم ومناظرته لقومه: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} .

ص: 393

قال تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} .

وقال تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} .

ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل، وهما متلازمان، كان من سلك الطريق العقلي دله على الطرق السمعي، وهو صدق الرسول، ومن سلك الطريق السمعي بين له الأدلة العقلية، كما بين ذلك القرآن، وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا.

كما قال أهل النار: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} .

وقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} .

ولهذا نفى سبحانه عن الشرك الطريق السمعي والعقلي، ونفى شرك الإلهية والربوبية في مثل قوله: {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات

ص: 394

ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين} ، فطالبهم أولاً بالطريق العقلي، وثانياً بالطريق السمعي.

ونظيره قوله: {قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا} ، وهذا باب واسع قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا التنبيه اللطيف على بعض ما في القرآن من تقرير المعاد ونفي الولد والشريك، إذ كان هذا فصلاً معترضاً في هذا المقام.

فقد تبين أن جمهور النظار من جميع الطوائف يجوزون أن تحصل المعرفة بالصانع بطريق الضرورة، كما هو قول الكلابية والأشعرية، وهو مقتضى قول الكرامية والضرارية والنجارية والجهمية وغيرهم، وهو قول طوائف أهل السنة، من أهل الحديث والفقهاء وغيرهم، كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفه ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.

وإنما ينازع في ذلك من ينازع من القدرية كالمعتزلة ونحوهم، مع أنهم متنازعون في ذلك، بل كثير من أهل الكلام، بل

ص: 395