المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق

- ‌تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام آخر للرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌رسالة البيهقي في فضائل الأشعري

- ‌كلام الأشعري في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌اعتراض يذكر نفاة الصفات

- ‌بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الجواب التاسع

- ‌الوجه الرابع والأربعون

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في البرهان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام الغزالي في الإحياء

- ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الشهرستاني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي نصر السجزي في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية

- ‌عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

- ‌كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية

- ‌كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة

- ‌كلام الباقلاني شرح اللمع

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌كلام الخطابي في كتاب شعار الدين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

- ‌القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

- ‌كلام الآمدي في الأبكار

- ‌كلام أبي الحسن الطبري الكيّا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن حزم في الفصل

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري

- ‌رد ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في نفي وجوب النظر

- ‌كلام أبي إسحاق الإسفراييني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في وجوب النظر

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن الزاغوني

- ‌تعليق ابن تيمية

الفصل: ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

زهير بن حرب، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح لم يجيبا، فحملا إليه مقيدين، فمات محمد بن نوح في الطريق، ومات المأمون قبل وصول أحمد بن حنبل إليه.

وهذا كله معلوم عن أهل العلم بذلك، لم يختلفوا في ذلك، فإن كانت قد جرت مناظرة مع زهير بن حرب، فلعل ذلك كان من غير المأمون، ولعل ذلك كان بين يدي نائبه إسحاق بن إبراهيم، فإنه هو الذي باشرهم بالمحنة، وإنما الذي ناظر الجهمية في المحنة هو أحمد بن حنبل، وكان ذلك في خلافة المعتصم، بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين، وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها: من الجهمية والمعتزلة والنجارية: مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث، صاحب حسين النجار، وناظرهم ثلاثة أيام، وقطعهم في تلك المناظرات، كما قد شرحنا تلك المناظرات في غير هذا الموضع.

وهذه الحجة التي ذكرت في حكاية زهير بن حرب، ذكرها الإمام أحمد وتكلم عليها في كتبه فيما الرد على الجهمية، وهو في الحبس، قبل اجتماعه بهم للمناظرة فكان الجواب عن هذه مما هو بعد عند الأئمة، كـ أحمد بن حنبل وأمثاله.

‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

قال أحمد فيما كتبه: (ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر، فقال:

ص: 257

أنا أجد آية في كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق.

فقلنا: أي آية؟ قال: قول الله عز وجل: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم} ، وعيسى مخلوق.

فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن: إن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن، لأنه يسمى مولوداً رضيعاً وطفلاً وغلاماً، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح، ومن ذرية إبراهيم، فلا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، فهل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى؟ ولكن المعنى من قول الله جل ثناؤه: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته

ص: 258

ألقاها إلى مريم} فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له (كن) فكان عيسى صلى الله عليه وسلم بكن، فعيسى ليس هو الكن، ولكن بالكن كان، فالكن من الله قول، وليس الكن مخلوقا.

وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته.

إلا أن كلمته مخلوقة، وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب، قلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة، وأما قول الله تعالى:{روح منه} ، يقول: من أمره كان الروح فيه، كقوله:{وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} ، يقول: من أمره، وتفسيره

ص: 259

روح الله إنما معناها أنها روح يملكها الله خلقها الله، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، وأرض الله) .

فبين الإمام أحمد أن الجهمية المعطلة، والنصارى الحلولية، ضلوا في هذا الموضع، فإن الجهمية النفاة يشبهون الخالق تعالى بالمخلوق في صفات النقص، كما ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم وصفوه بالنقائص، وكذلك الجهمية النفاة إذا قالوا: هو في نفسه لا يتكلم ولا يحب، ونحو ذلك من نفيهم.

والحلولية يشبهون المخلوق بالخالق، فيصفونه لصفات الكمال التي لا تصلح إلا لله، كما فعلت النصارى في المسيح.

ومن جمع بين النفي والحلول، كحلولية الجهمية: مثل صاحب الفصوص وغيره، قالوا: (ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق فهي كلها صفات له.

كما أن صفات المخلوق حق الله) .

فهم يصفون المخلوق بكل ما يوصف به الخالق، ويصفون

ص: 260

الخالق بكل ما يوصف به المخلوق، فإن الوحدة والاتحاد والحلول العام يقتضي ذلك.

ولفظ (الكلام) مثل لفظ: الرحمة، والأمر، والقدرة، ونحو ذلك من ألفاظ الصفات التي يسمونها في اصطلاح النحاة مصادر، ومن لغة العرب أن لفظ المصدر يعبر به عن المفعول كثيراً، كما يقولون: درهم ضرب الأمير.

ومنه قوله تعالى: {هذا خلق الله} : أي مخلوقه؟.

فالأمر يراد به نفس مسمى المصدر، كقوله:{أفعصيت أمري} ، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} ، {ذلك أمر الله أنزله إليكم} .

ويراد به المأمور به، كقوله تعالى:{وكان أمر الله قدرا مقدورا} ، {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} ، فالأول هو كلام الله وصفاته، والثاني مفعول ذلك وموجبه ومقتضاه.

وكذلك لفظ (الرحمة) يراد بها صفة الله التي يدل عليها اسمه: الرحمن، الرحيم، كقوله تعالى:{ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما} ، ويراد بها ما يرحم به عباده من

ص: 261

المخلوقات، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة» .

وقوله «عن الله تعالى: يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، ويقول للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي» .

وكذلك الكلام يراد به الكلام الذي هو الصفة، كقوله تعالى:{وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا} ، وقوله:{يريدون أن يبدلوا كلام الله} .

ويراد به ما فعل بالكلمة، كالمسيح الذي قال له (كن) فكان، فخلقه من غير أب على غير الوجه المعتاد المعروف في

ص: 262

الآدميين، فصار مخلوقا بمجرد الكلمة دون جمهور الآدميين، كما خلق آدم وحواء أيضاً على غير الوجه المعتاد، فصار عيسى عليه السلام مخلوقا بمجرد الكلمة دون سائر الآدميين.

وفي هذا الباب، باب المضافات إلى الله تعالى، ضلت طائفتان: طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك، كإضافة البيت والناقة إليه، وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، حتى ابن عقيل وابن الجوزي وأمثالهما، إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك، وقالوا: هذه آيات الإضافات لا آيات الصفات، كما ذكر ذلك ابن عقيل في كتابه المسمى بـ نفي التشبيه وإثبات التنزيه، وذكره أبو الفرج بن الجوزي في منهاج الوصول وغيره، وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة.

وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه إضافة صفة، ويقولون بقدم الروح، فمنهم من يقول بقدم روح العبد، لقوله:

ص: 263

{ونفخت فيه من روحي} ، وهم من جنس النصارى الذين يقولون بأن روح عيسى من ذات الله تعالى.

ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث، إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، كطائفة من أهل طبرستان وجيلان، وأتباع الشيخ عدي وغيره.

وطائفة ثالثة تقف في روح العبد: هل هي مخلوقة أم لا؟ وهم منتسبون إلى السنة والحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، والنزاع بين متأخري أصحاب أحمد وغيرهم وهو في المضافات الخبرية، كالوجه واليد والروح.

وأما المعتزلة فيطردون ذلك في الكلام وغيره.

وقد بين أحمد الرد على الطائفتين الأوليين، وهؤلاء الطائفتان أيضاً يضلون في المضاف بمن، فإن المجرور بالإضافة حكمه حكم المضاف، كقوله تعالى:{ولكن حق القول مني} ، وقوله تعالى:{وروح منه} ، فالطائفتان يجعلون القول منه كالروح منه، ثم يقةل النفاة: والروح مخلوقة بائنة عنه، فالقول مخلوق بائن عنه، ويقول الحلولية: القول صفة له ليس لمخلوق، فالروح التي منه صفة له ليست مخلوقة.

ص: 264

والفرق بين البابين: أن المضاف إذا كان معنى لا يقوم ينفسه ولا بغيره من المخلوقات، وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل وأرواح بني آدم، امتنع أن تكون صفة لله تعالى، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره.

فقوله تعالى: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} ، وقوله في عيسى:{وروح منه} ، وقوله تعالى:{قل الروح من أمر ربي} ، يمتنع أن يكون شيء من هذه الأعيان القائمة بنفسها صفة لله تعالى.

لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين: أحدهما أن تضاف إليه من جهة كونه خلقها وأبدعها، فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله.

ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عباد الله، وجميع المال مال الله، وجميع البيوت والنوق لله.

والوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه الله به من معنى يحبه ويرضاه ويأمر به، كما خص البيت العتيق بعباجة فيه لا تكون في غيره، وكما خص المساجد بأن يفعل فيها ما يحبه ويرضاه من العبادات، وأن

ص: 265

تصان عن المباحات التي لم متشرع فيها فضلاً عن المكروهات.

وكما يقال عن مال الفيء والخمس: هو مال الله ورسوله.

ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره.

فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه، وهذه الإضافة العامة لا تتضمن إلا خلقه وربوبيته.

وكذلك كلماته نوعان: كلماته الدينية المتضمنة شرعه ودينه كالقرآن.

وكلماته الكونية التي بها كون الكائنات.

وهي الكلمات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بها في قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر» ، فإن كلماته التي بها كون المخلوقات لا يخرج عنها بر ولا فاجر، بخلاف كلماته التي شرع بها دينه فإن الفجار عصوها، كما عصاها إبليس ومن اتبعه.

والله تعالى لا يضيف إليه من المخلوقات شيئاً إضافة تخصيص إلا

ص: 266

لإختصاصه بأمر ويوجب الإضافة، وإلا فمجرد كونه مخلوقا ومملوكا لا يجب أن يخص بالإضافة.

ويهذا يتبين فساد قول النفاة الذين يقولون في قوله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ، من الأقوال ما لا اختصاص لآدم به، كقولهم: بقدرته، أو بنعمته، أو أن المعنى: خلقته أنا، أو أنه أضافه إلى نفسه إضافة تخصيص، فإن هذه المعاني كلها موجودة في الملائكة وإبليس والبهائم، فلا بد أن يثبت لآدم من اختصاصه بكونه سبحانه خلقه بيديه مالا يثبت لهؤلاء.

وكذلك أيضا إذا قيل عن القرآن العزيز - أو غيره - إنه كلام الله، فإن هذا لا يوجب أن تكون إضافته إليه إضافة خلق وملك، لوجهين: أحدهما: أنه صفة، والصفات إذا أضيفت إليه كانت إضافة وصف لا إضافة خلق.

الثاني: أن هذا يقتضي أن يكون كل كلام خلقه الله كلام، فيكون إنطاقه لما أنطقه من المخلوقات كلاماً له، ومن عرف أن الله خالق كل شيء لزمه أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه، كما فعل ذلك حلولية الجهمية، كابن عربي وغيره حيث قالوا:

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

ص: 267

ولا يجوز أن تكون إضافته إليه لا ختصاصه بمعنى يحبه ويرضاه، كما أضاف إليه البيت والناقة، بقوله تعالى:{وطهر بيتي للطائفين والقائمين} ، وقوله:{ناقة الله وسقياها} ، لأن هذا يوجب أن يكون كل كلام يحبه الله فإنه كلامه، فيكون الإنسان إذا أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون ذلك كلام الله، ويكون الشاهد إذا شهد بشهادة أمر بها تكون كلام الله، ويكون كل من حدث بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما حدث بكلام الله تعالى.

والناس قد تنازعوا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» .

هل المراد بها: الكلمة التي شرعها الله، وهي عقد النكاح؟ أو المراد كلمة التي تكلم بها، وهي شرعه وإذنه وتحليله لذلك؟

والصواب أن المراد بقوله: كلمة الله، كلامه الذي تكلم به المتضمن إذنه وتحليله وشرعه، لا العقد الذي هو كلام العباد.

ومن قال

ص: 268

إن المراد به العقد فقد أخطأ من وجون متعددة، قد بسطناها في غير هذا الموضع، وتكلمنا على ذلك في مسألة مفردة، ولا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به، ولكن لو قدر أنه قد يراد بالكلام المضاف إلى الله ما أمر به، وقدر أنه حصل نزاع في قوله:{وكلمة الله هي العليا} هل المراد: الكلمة التي يحبها ويأمر بها؟ أو الكلمة التي تكلم بها، وهي نفس أمره وخبره؟

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا» .

فمن قال: المراد بالجميع كلام الله الذي تكلم له أطردت الإضافة على قوله، ولو قدر أن قائلا قال: أضيف إليه من الكلام ما يحبه ويرضاه، وإن لم يكن تكلم به - لم يمكن أن يجعل كون القرآن

ص: 269

كلامه من هذا الباب بالضرورة والاتفاق، إذ لازم ذلك أن يكون القرآن بمنزلة ما أمر به من الشهادة والأخبار وتقويم السلع وخرص النخل وسائر أنواع الكلام الصادق الذي يجب التكلم به، فيكون كل من تكلم بشيء من ذلك قد تكلم بكلام الله، ويكون كون القرآن كلام الله هو من هذا الباب، ولا يكون لله عز وجل في نفسه كلام إلاما تكلم به الخلق، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده.

ثم قول القائل: الكلام الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به، أو الكلام الذي يكرهه وينهى عنه - يقتضي أن هناك محبة ورضاء وامراً غير المأمور به، وكلاماً هو نهي غير المنهي عنه، وذلك هو كلامه الذي هو أمره ونهيه، فالأمر والنهي غير المأمور به والمنهي عنه.

وهذا على قول من اشتبه عليه أمر الإضافة في هذا المواضع، وإلا فالصواب في قوله صلى الله عليه وسلم:«واستحللتم فروجهن بكلمة الله،» أنها كلمته التي تكلم بها.

وكذلك قوله تعالى: {وكلمة الله هي العليا} .

ص: 270

هي كلمته التي تكلم بها، وكل كلام تكلم به سبحانه مخبرا فإنه صدق، كما أن كل كلام تكلم به آمرا فهو عدل، وقد تمت كلماته صدقا وعدلا.

فالكلام له نسبة إلى المتكلم به، وهو الآمر المخبر به وله نسبة إلى المتكلم فيه، وهو المأمور به والمخبر عنه، فكلام الله الذي تكلم به يشبرك كله في كونه تكلم به.

ثم ما أخبر به عن نفسه، مثل قوله تعالى:{قل هو الله أحد} ، وآية الكرسي، وغير ذلك - أفضل مما أخبر به عن خلقه، وذكر فيه أحوالهم، كقوله تعالى:{تبت يدا أبي لهب وتب} ، وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم،

وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين، فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون: إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه، بناء على أنه قديم، والقديم لا يتفاضل.

ويتأولون قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو

ص: 271

مثلها} ، أي خير لكم وأنفع.

والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة: إن بعض كلام الله أفضل من بعض، كما دل على ذلك الشرع والعقل.

ففي الحديث الثابت «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سعيد بن المعلى: لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها» ، ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس في القرآن لها مثل، فبطل قول من يقول بتماثل جميع كلام الله.

وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب: أتدري أي آية في كتاب الله أعظم: فقال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ، فضرب بيده في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر، فبين أنه هذه الآية أعظم من غيرها من الآيات.

ص: 272

وقد ثبت عنه في الصحيحين من غيره وجه أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.

وذلك أن القرآن: إما خبر، وإما إنشاء، والخبر: إما خبر عن الخالق، وإما عن المخلوق.

فثلثه قصص.

وثلثه أمر، وثلثه توحيد، فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار.

وأيضاً فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلم به في أنه تكلم بالجميع.

فقد تفاضل من جهة المتكلم فيه، فإن كلامه الذي وصف به نفسه، وأمر فيه بالتوحيد، أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه، وأمر فيه بما هو دون التوحيد.

وأيضاً فإذا كان بعض الكلام خيراً للعباد وأنفع، لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة، فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه، وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه، لا يكون ثواب أحدهما أكثر، ولا نفعه أعظم.

والمقصود هنا شيئان: أحدهما: أن الذين يعظمون الأشعري وأمثاله من أهل الكلام كالبيهقي، وابن عساكر، وغيرهما - وقد عرفعوا ذم الشافعي وغيره من الأئمة للكلام، ذكروا أن الكلام المذموم هو كلام أهل البدع، وقالوا: إنما كان يعرف في عصرهم بالكلام أهل البدع،

ص: 273

وأنه أراد بذلك كلام مثل حفص الفرد وأمثاله، وأنه لما حدثت طائفة سمت ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها، وقالوا بترك القول بالأخبار التي رواها أهل الحديث، وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم، قام جماعة من أئمتنا، وبينا أن جميع ما ورد في الأخبار صحيح في المعقول، وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في العقول، وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة، فكانوا لا يسمون تسميتهم، وإنما يعني بقوله (من ارتدى بالكلام لم يفلح) كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم عقولهم، وأخذوا في تسوية الكتاب والسنة عليها، فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل، إبطالاً لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل.

قلت: وهذا اتفاق من علماء الأشعرية، مع غيرهم من الطوائف المعظمين للسلف، على أن الكلام المذموم عند السلف: كلام من يترك الكتاب والسنة، ويعول في الأصول على عقله، فكيف بمن يعارض

ص: 274

الكتاب والسنة بعقله؟! وهذا هو الذي قصدنا إبطاله، وهو حال أتباع صاحب الإرشاد الذين وافقوا المعتزلة في ذلك.

وأما الرازي وأمثاله، فقد زادوا في ذلك على المعتزلة، فإن المعتزلة لا تقول: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، بل يقولون: إنها تفيد اليقين، ويستدلون بها أعظم مما يستدل بها هؤلاء.

الثاني: أن كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ونحوه من الأئمة تضمن ذم كلام حفص الفرد وأمثاله في مسألة القرآن.

والكلام في ذلك مبني على نفي قيام الأفعال به، فإن المعتزلة يقولون: الكلام لا بد له من فعل يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته، فلو قام به الكلام لقامت به الأفعال، وهي حادثة، فكان يكون محلا للحوادث، وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم.

وقد بينا أن ذم الشافعي لكلام حفص وأمثاله لم يكن لأجل إنكار القدر، فإن حفصاً لا ينكره، وإنما كان لإنكار الصفات والأفعال، المبني على دليل الأعراض.

وهكذا كلام الإمام أحمد - وغيره من الأئمة - في ذم الكلام، كان متناولاً لكلام الجهمية.

وكلام أحمد وأمثاله في ذلك كثير ظاهر معلوم، فإن مناظرته للجهمية، ورده عليهم، أشهر وأكثر من أن

ص: 275