الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: (والجواب أن الظواهر النقلية إذا عارضت الدلائل العقلية لم يمكن تصديقهما ولا تكذيبهما، لامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما، ولا تصديق النقل وتكذيب العقل، لأن العقل أصل النقل، فتكذيبه لتصديقه يوجب تكذيبهما، فتعين تصديق العقل، وتفويض علم النقل إلى الله، أو الاشتغال بتأويل الظاهر) .
الرد عليه
وجواب هذا أن يقال: القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك، كالعلم بالأكل والشرب في الجنة، والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والعلم بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، والعلم بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما، بل نصوص العلو قد قيل إنها تبلغ مئين من المواضع.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك، فلم يكن بنا حاجة إلى نفي ذلك من لفظ معين، قد يقال إنه يحتمل التأويل، ولهذا لم يكن بين الصحابة والتابعين نزاع في ذلك، كما تنطق بذلك كتب الآثار المستفيضة المتواترة في ذلك، وهذا يعلمه من له عناية بهذا الشأن، أعظم مما يعلمون أحاديث الرجم والشفاعة
والحوض والميزان، وأعظم مما يعلمون النصوص الدالة على خبر الواحد والإجماع والقياس، وأكثر مما يعلمون النصوص الدالة على الشفعة، وسجود السهو، ومنع نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ومنع ميراث القاتل، ونحو ذلك مما يتلقاه عامة الأمة بالقبول.
ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين، والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس: إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول، فيكون حين انصرافه عن الاستماع والتدبر غير محصل لشرط العلم، بل يكون ذلك الامتناع مانعاً له من حصول العلم بذلك، كما يعرض عن رؤية الهلال فلا يراه، مع أن رؤيته ممكنة لكل من نظر إليه، وكما يحصل لمن لا يصغي إلى استماع كلام غيره وتدبره، لا سيما إذا قام عنده اعتقاد إن الرسول لا يقول مثل ذلك، فيبقى قلبه غير متدبر ولا متأمل لما به يحصل له هذا العلم الضروري.
ولهذا كان كثير من علماء اليهود والنصارى يؤمنون بأن محمداً رسول الله، وأنه صادق، ويقولون: إنه لم يرسل إليهم، بل إلى الأميين، لأنهم أعرضوا عن سماع الأخبار المتواترة والنصوص المتواترة، التي تبين أنه كان يقول: إن الله أرسله إلى أهل الكتاب، بل أكثرهم لا يقرون بأن الخليل بنى الكعبة هو وإسماعيل، ولا أن إبراهيم ذهب إلى تلك الناحية، مع أن هذا من أعظم الأمور تواتراً لإعراضهم.
وكثير من الرافضة تنكر أن يكون أبو بكر وعمر مدفونين عند النبي
صلى الله عليه وسلم، وفي الغالية من يقول: إن الحسن والحسين لم يكونا ولدين لعلي، وإنما ولدهما سلمان الفارسي، وكثير من الرافضة لا تعلم أن علياً زوج بنته لعمر، ولا أنه كان له ابن كان يسمى عمر.
وأما دعوى التقية والإكراه فهذا شعار المذهب عندهم.
وبعض المعتزلة أنكر وقعة الجمل وصفين، وكثير من الناس لا يعلمون وقعة الحرة، ولا فتنة ابن الأشعث وفتنة يزيد بن المهلب، ونحوها من الوقائع المتواترة المشهورة.
بل كثير من الناس، بل من المنسوبين إلى العلم، لا يعلمون مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم المواترة المشهورة وترتيبها، وما كان فيه قتال أو لم يكن، فلا يعلمون أيما قبل: بدر أو أحد؟ وأيما قبل: الخندق أو خيبر؟ وأيما قبل: فتح مكة أو حصار الطائف؟ ولا يعلمون هل كان في تبوك قتال أو لم يكن؟ ولا يعلمون عدد أولاد النبي صلى الله عليه وسلم: الذكور والإناث، ولا يعلمون كم صام رمضان، وكم حج واعتمر، ولا كم صلى إلى بيت المقدس بعد هجرته؟ ولا أي سنة فرض رمضان؟ ولا يعلمون هل أمر بصوم يوم عاشوراء في عام واحد أو أكثر؟ ولا يعلمون هل كان يداوم على قصر الصلاة في السفر أم لا؟ ولا يعلمون هل كان يجمع بين الصلاتين، وهل كان يفعل ذلك كثيراً أم قليلاً؟ .
إلى أمثال هذه الأمور التي كلها معلومة بالتواتر عند أهل العلم
بأحواله، وغيرهم، ليس عنده فيها ظن فضلاً عن علم، بل ربما أنكر ما تواتر عنه؟ .
ومعلوم أن أئمة الجهمية النفاة والمعتزلة وأمثالهم، من أبعد الناس عن العلم بمعاني القرآن والأخبار وأقوال السلف، وتجد أئمتهم من أبعد الناس عن الاستدلال بالكتاب والسنة، وإنما عمدتهم في الشرعيات على ما يظنونه إجماعاً، مع كثرة خطئهم فيما يظنونه إجماعاً، وليس بإجماع، وعمدتهم في أصول الدين على ما يظنونه عقليات، وهي جهليات، لا سيما مثل الرازي وأمثاله، الذين يمنعون أن يستدل في هذه المسائل بالكتاب والسنة.
واعتبر ذلك بما تجده في كتب أئمة النفاة، مثل أبي الحسين البصيري وأمثاله، ومثل أبي حامد، والرازي، وأمثالهما.
فأبو الحسين البصيري، وأمثاله من المعتزلة، يعتمدون في أصول دينهم على أحاديث قد يجمعها عبد الوهاب بن أبي حية البغدادي، فيها الكذب والضعف، وأضعافها من الأخبار المتواترة لا يعرفونها البتة، حتى يعتقدون أنه ليس في الرؤية إلا حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع
الشمس وقبل غروبها فافعلوا» .
ويقولون: هذا لم يروه إلا قيس بن أبي حازم، وكان يبغض علياً، فيظنون أنه ليس في الرؤية إلا هذا الحديث.
وأهل العلم بالحديث يعلمون أحاديث الرؤية متواترة، أعظم من تواتر كثير مما يظنونه متواتراً، وقد احتج أصحاب الصحيح منها أكثر مما خرجوه في الشفعة، والطلاق، والفرائض، وسجود السهو، ومناقب عثمان وعلي، وتحريم المرأة على عمتها وخالتها، والمسح على الخفين، والإجماع، وخبر الواحد، والقياس، وغير ذلك من الأبواب الذين يقولون إن أحاديثها متواترة.
فأحاديث الرؤية أعظم من حديث كل نوع من هذه الأنواع، وفي الصحاح منها أكثر مما فيها من هذه الأنواع.
مثل حديث أبي هريرة الطويل في تجليه يوم القيامة، ومرورهم على الصراط، وهو في الصحيح أيضاً، من حديث أبي سعيد، ومن حديث جابر.
وفي الصحيحين حديث أبي موسى في رؤيته في الجنة.
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة رؤيته لربه.
وفي الصحيح حديث صهيب في رؤية أهل الجنة.
وأما أحاديث العلو وما يتضمن هذا المعنى، فأضعاف أضعاف أحاديث الرؤية.
فأبو الحسين وأمثاله من المعتزلة، وكذلك الغزالي والرازي وأمثالهما من فروع الجهمية، هم من أقل الناس علماً بالأحاديث النبوية وأقوال السلف في أصول الدين، وفي معاني القرآن، وفيما بلغوه من الحديث، حتى أن كثيراً منهم لا يظن أن السلف تكلموا في هذه الأبواب.
ومن كان له علم بهذا الباب، علم أن كلام السلف في هذه المسائل الأصولية، كمسائل العلو وإثبات الصفات الخبرية وغير ذلك.
أضعاف أضعاف كلامهم في مسائل الجد، والإخوة، والطلاق، والظهار، والإيلاء، وتيمم الجنب، ومس المحدث للمصحف، وسجود السهو، ومسائل الإيمان، والنذور والفرائض، وغير ذلك مما تواتر به النقل عنهم.
وهذا الأصل قد بسطناه في مواضع، مثل كلامنا في تواتر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، مما يحتاج إلى معرفة هذا الأصل، وأنه قد يتواتر عند أهل العلم بالشيء ما لا يتواتر عند غيرهم.
وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول.
ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإليهم المرجع في هذا الباب، لا إلى من هو أجنبي عن معرفته، ليس له معرفة بذلك، ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة، لكان في الشرع مثل آحاد الجهال من العامة.
فإن قيل: قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول، وأقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين، وما بلغوه عن الرسول، ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك.
قيل: هؤلاء أنواع: نوع ليس لهم خبرة بالعقليات، بل هم يأخذون ما قاله النفاة عن الحكم والدليل، ويعتقدونها براهين قطعية، وليس لهم قوة على الاستقلال بها، بل هم في الحقيقة مقلدون فيها، وقد اعتقد أقوال السلف أولئك، فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث
وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك، بل إما أن يظنوه موافقاً لهم، وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه.
وهذه حال مثل أبي حاتم البستي، وأبي سعد السمان المعتزلي، ومثل أبي ذر الهروي، وأبي بكر البيهقي، والقاضي عياض، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي الحسن علي ابن المفضل المقدسي، وأمثالهم.
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها، كما غلط غيره، فيشارك الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا
يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة من هذا الباب ما كان لأئمة السنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما.
وهذه حال أبي محمد بن حزم، وأبي الوليد الباجي، والقاضي أبي بكر بن العربي، وأمثالهم.
ومن هذا النوع بشر المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي، وأمثالهما.
ونوع ثالث سمعوا الأحاديث، والآثار، وعظموا مذهب السلف.
وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار، ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها.
وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض.
وهذا حال أبي بكر بن فورك، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل وأمثالهم.
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل، كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار.
وتارة يفوضون معانيها، ويقولون: تجري على ظواهرها، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك.
وتارة يختلف اجتهادهم، فيرجحون هذا تارة وهذا تارة، كحال ابن عقيل وأمثاله.
وهؤلاء قد يدخلون في الأحاديث المشكلة ما هو كذب موضوع، ولا يعرفون أنه موضوع، وما له لفظ يدفع الإشكال، مثل أن يكون رؤيا منام، فيظنونه كان في اليقظة ليلة المعراج.
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية وغيرهم، وقد شاركهم في بعض أصولها، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة، كمسألة القرآن والرؤية، فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة والحديث، وبين موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية، التي ظنها صحيحة، ولم يكن لهم من الخبرة المفصلة بالقرآن ومعانيه، والحديث وأقوال الصحابة، ما لأئمة السنة والحديث، فذهب مذهباً مركباً من هذا وهذا، وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض.
وهذه طريقة الأشعري وأئمة أتباعه، كالقاضي أبي بكر، وأبي إسحاق الإسفراييني، وأمثالهما.
ولهذا تجد أفضل هؤلاء، كالأشعري، يذكر مذهب أهل السنة والحديث على وجه الإجمال، ويحكيه بحسب ما يظنه لازماً، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه، وإذا ذكر مقالات أهل الكلام، من المعتزلة وغيرهم، حكاها حكاية خبير بها، عالم بتفصيلها.
وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة وغيرهم، ومعرفة فساد أقولهم.
وأما في معرفة ما جاء به الرسول، وما كان عليه الصحابة والتابعون، فمعرفتهم بذلك قاصرة، وإلا فمن كان عالماً بالآثار، وما جاء عن الرسول، وعن الصحابة والتابعين، من غير حسن ظن بما يناقض ذلك، لم يدخل مع هؤلاء: إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعاً، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال، كأكثر أهل الحديث، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها، كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك وعبد العزيز الماجشون وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع بن الجراح وعبد الله بن إدريس وعبد الرحمن بن مهدي ومعاذ بن معاذ ويزيد بن هارون الواسطي ويحيى بن سعيد القطان وسعيد بن عامر والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبد الرحمن القاسم بن