الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتناقضهم، وأن ما يدعونه من المعارف الإلهية بعقولهم جمهوره باطل، وإن كان قد وقع في كلامه من كلام هؤلاء أمور، قيل أنه رجع عنها.
ولا ريب أن الرسل صلوات الله عليهم يخبرون الخلق بما تعجز عقولهم عن معرفته، ولا يخبرونهم بما يعلمون امتناعه، فهم يخبرنهم بمحارات العقول لا بمحالاتها، فمن أراد أن يعرف ما أخبرت به الرسل بعقله، كان شبيهاً بمن قال الله تعالى فيه:{وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته} ، وقال:{بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة} .
كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية
قال الخطابي: (وذهب العلماء إلى خلاف هذا الرأي، وجعلوا المعلومات قسمين: قسم يمكن استدراكه وتثبيته حقيقة، وقسم لا يعلم إلا ظاهره ولا يتعرض لعلم باطنه وطلب كيفيته، وانتهوا في ذلك إلى ما نطق به الكتاب، وقوله سبحانه:{وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به} ، يجعلون
الوقف عند قوله: {إلا الله} ويستأنفون الكلام فيما بعده، وهو مذهب الصحابة، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وعائشة، وابن عباس، قالوا: وقد حجب عنا أنواع من العلم، كعلم قيام الساعة، وكعلم الروح، حين يقول:{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} ، وقال تعالى:{لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} ، وقال:{لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} .
قلت: قد ذكرنا معنى لفظ (التأويل) في غير هذا الموضع، وأنه في اللغة التي نزل بها القرآن يراد به: حقيقة الشيء كالكيفية التي لا يعلمها إلا الله، كما قال مالك:(الاستواء معلوم، والكيف مجهول) .
ويراد به التفسير، وهو كقوله:(الاستواء معلوم) فإنه تفسيره ومعناه معلوم) ويراد به تحريف الكلم عن مواضعه، كتأويلات الجهمية، مثل تأويل من تأول: استوى بمعنى استولى.
وهذا الذي اتفق السلف والأئمة على بطلانه وذم أصحابه.
ومثل هذا لا يقال فيه: لا يعلمه إلا الله، بل يقال: إنه باطل وتحريف وكذب، ولكن في القسم الأول يقال: لا يعلمه إلا الله، وأما القسم الثاني فيعلمه الله، وقد يعلمه الراسخون في العلم.
قال الخطابي: (فلم ينته أهل التعمق من المتكلمين حتى تكلموا في الروح وتكلموا في القدر، والتعديل والتجويز، وتكلموا في النفس والعقل وما بينهما، وتكلموا في أشياء لا تعنيهم ولا تجدي عليهم.
شيئاً.
كالكلام في الجزء والطفرة وما أشبه ذلك من الأمور التي لا طائل لها، ولا فائدة فيها، فزجر العلماء عن الخوض في هذه الأمور، وخافوا فتنتها، والخروج منها إلى ما يفضي بالمرء إلى أنواع من المكروه: من الأقوال الشنعة، والمذاهب الفاسدة، ورأوا أن يقتصروا من الكلام على ما انتهى إليه بيان الدين، وتوقيف الشريعة) .
قلت: فقد ذكر الخطابي في الكلام المذموم ما لا يد ركه الإنسان بعقله، وما لا فائدة فيه.
وما لا يدركه الإنسان بعقله إذا تكلم بلا علم، والكلام بلا علم ذمه الله في كتابه، وما لا فائدة فيه هو من باب ما لا يعني الإنسان ولا يفيده، ومن باب العلم الذي لا ينفع، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع.
ولهذا يقال: العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وهذان النوعان هما اللذان يذكرهما أبو حامد وغيره في وصف غير العلوم الشرعية، فيقول: (هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها - ونعوذ بالله من علم لا ينفع - وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم.
فالأول كالعلم بدقائق الهيئة، وحركات الكواكب، وغير ذلك مما هو بعد التعب الكثير لا يفيد إلا تضييع الزمان، وتعذيب الحيوان.
والثاني كالعلم بأحكام النجوم، التي غلبها ظنون لا تغني من الحق شيئاً، والخطأ فيها أكثر من الصواب، والكذب فيها أكثر من الصدق) .
وهذان النوعان غير ما ذكر أولاً، ذمه لما فيه من الخطر والعسر والعجز.
وهذه الثلاثة غير ما هو كذب في نفسه وباطل، فإن هذا هو الكلام المذموم في نفسه، فما كان كذباً غير مطابق للحق فهو مذموم في نفسه، بخلاف ما فيه عسر وهو حق، فإن هذا، وإن ذم من وجه فقد يحمد من وجه آخر، بخلاف ما لا يدركه الإنسان، أو ما لا فائدة فيه، فإن هذا قد يقال: إن مضرته تضييع الزمان من جنس اللعب واللهو الذي لا ينفع، أو من جنس البطالة وتضييع الزمان، لكن متى أفضى بصاحبة إلى اعتقاد الباطل حقاً، والكذب صدقاً، كان من القسم المذموم بنفسه.
وكل كلام ناقض نصوص الأنبياء فإنه من الكلام المذموم بنفسه، وهو باطل قطعاً.
وأما قوله: (وتكلموا في الروح، والقدر، والتعديل والتجوير، والعقل والنفس) فقد يظن أن الكلام في هذا مذموم مطلقاً، وليس كذلك.
بل الكلام في ذلك وغيره بالحق النافع لا يذم، وإنما يذم الكلام الباطل، والكلام بلا علم، والكلام الحق لمن يعجز عن معرفته.
كما قال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
وقال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون،
ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وأما الكلام الحق النافع فهو محمود غير مذموم.
قال الخطابي: (ثم إن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج الناس إليه نصاً وتسمية، فاحتجنا إلى انتزاع أحكام الحوادث في ضمن الأسماء والنصوص، من طريق المعاني والمعقول من النصوص، فاستنبطه العلماء وتكلموا فيه من طريق القياس، ولم يتجاوزوه إلى الكلام فيما لا أصل له من الكتاب والسنة، ولم يتعرضوا لما ورد الكتاب - ثم السنة - بالزجر عنه وعن الخوض فيه، وكان هذا موضع الفرق بين الكلامين) .
قال: (وقد أشار الشافعي إلى هذه الجملة، وأبان عنها بما زجر عنه من النظر في الكلام، وعابه من مذاهب المتكلمين.
وبما زجر عنه من التقليد وجب عليه من النظر والاستدلال، فعلمنا أن زجر عنه ليس هو الذي أمر به، وتبينا أن له في الأصول مذهباً ثالثاً، ليس بالتقليد ولا بالتجريد لمذاهب المقتحمين في غمرات الكلام، والخائضين في أوديته، وإنما هو الاستدلال بمعقول أصول
الدين، التي مرجعها إلى علوم الحس ومقدماتها، والنظر المتعلق بالأصول التي هي الكتاب والسنة الصحيحة التي ينقطع العذر بها) .
قال: (ونحن لم نعد فيما أوردنا من الكلام في كتاب شعار الدين هذه الجملة، وإن كان الذي عبناه في مسألة الغنية عن الكلام هو المذهب الآخر الذي تقدم ذكرنا له، وهو مذهب الغلو والأفراط، وما يقابله من مذاهب من يرى التقليد، ولا يقول بحجج العقول، فهو في التفريط والتقصير مواز لمذاهب المتكلمين في الغلو والأفراط.
والطريقة المثلى هي القصد والاعتدال، وهو ما نختاره ونذهب إليه) .
قال: (وسبيل ما نأتيه ونذره من هذا الباب سبيل القياس، فإنا نستعمله في مواضع ونأباه في مواضع، فلا يكون ذلك منا مناقضة، وكذلك ما نطلقه من جواز الكلام في موضع، وكراهته في موضع آخر.
والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات: القول بالحس حسب، وهو مذهب الدهرية، فإنهم قالوا بما يدركه الحس، لم يقولوا بمعقول ولا خبر وقال قوم بالحس والمعقول حسب، ولم يقولوا بالخبر، وهو مذهب الفلاسفة، لأنهم لا يثبتون
النبوة.
وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر الأثر، وهو جماعة المسلمين، وهو قول عمائنا وبه نقول) .
قلت: تفصيل مقالات الناس مبسوط في غير هذا الموضع، فإن الدهرية لا تنكر جنس المعقول، بل تنكر من المعقول ما لا يكون جنسه محسوساً.
وهذا فيه كلام مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما كفروا بإنكارهم الغيب الذي أخبرت به الرسل.
والفلاسفة أيضاً لا تنكر جنس الخبر، بل تقول بالأخبار المتواترة وغيرها.
ولكن ينكرون استفادة الأمور الغائبة بأخبار الأنبياء، وهم قد يعظمون الأنبياء - صلوات الله عليهم - ويوجبون اتباع شرائعهم، ويأمرون بقتل من يخرج عنها، لكن يجعلون مقصودها هو إقامة مصالح الناس في دنياهم بالعدل الذي شرعته الأنبياء.
وأما الأمور الإلهية والمعاد ونحو ذلك، فيزعمون أنهم لم يخبروا عنها بما يحصل به العلم، ولكن خاطبوا الناس فيه بطريق التخييل وضرب المثل الذي ينتفع به الجمهور.
وحقيقة قولهم هو ما ذكره الخطابي من أنهم لا يجعلون خبر الأنبياء طريقاً إلى العلم، وقد ذكرنا من كلام من دخل معهم في هذا الأصل الفاسد، من المنتسبين إلى المسلمين، ما تبين به هذا الأصل، وبينا من ضلالهم وكذبهم في هذا القول ما قد بسط في موضعه.
وحقيقة ما يزعمونه في المعقول إنما هو أمور ذهنية كلية، قائمة في الذهن، لا حقيقة لها في الخارج.
وما يثبتونه من المجردات العقليات، بل وواجب الوجود الذي يثبتونه وغير ذلك، يعود إلى هذا.
ومن هنا استطال عليهم إخوانهم الفلاسفة الطبيعية والدهرية، فإن أولئك لم ينكروا مثل هذه العقليات، ولكن أنكروا وجود هذه في الخارج، وادعوا أن كل موجود في الخارج فلا بد أن يمكن إحساسه، والفريقان جميعاً كذبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله من الإخبار بالغيب إلا من كان منهم من الصابئة الحنفاء الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون صالحاً، فأولئك هم سعداء في الآخرة.
كما قال تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
وأما الصابئة المشركون، الذين يعبدون الكواكب والأوثان، ونحوهم من الفلاسفة المشركين، فهؤلاء كفار كسائر المشركين.
والفلسفة اليونانية - فلسفة المشائين - عامتها من هذه الفلسفة، فإن اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان، وفي مقالاتهم حق وباطل، كما في مقالات مشركي العرب والهند وغيرهم من أصناف المشركين، وهذا مبسوط في موضعه.
وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية.
وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصاً.
فهذا كلام في القياس العلمي الشرعي، وهو مبسوط في موضعه.
والناس في هذا بين إفراط وتفريط، كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري.
فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص، بل إنما تعلم بالقياس.
وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل، حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط، ويردون قياس الأولى وفحوى الخطاب، والعلة المنصوصة، ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال.
وكل من الطائفتين مخطئة غالطة، فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما، وقصرت في معرفتهما وفهمهما، واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي تغنى من شيئاً، أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله.
وكثيراً ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى.
بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك، من غير دليل يدله على ذلك، بل بمجرد اشتباه قام في نفسه،
أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف، وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد، التي متى حوقق عليها سقط بناؤه، وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب، فضلاً عن أن يكون من كلام المعصوم.
وقد يتمسكون بما يظهر له من ألفاظ المعصوم، ولا تكون داله على ما فهموه.
وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله - في زعم أحدهم - مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها، ويفرق بين المتماثلين تفريقاً لا يأتى به عاقل، فضلاً عن نبي معصوم، وتجمد على ما تراه ظاهر النص من خطائها في فهم النص ومراد قائله، وتسلب الشريعة حكمها ومحاسنها ومعانيها، وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان، ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل، والرجل العاقل.
والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه، الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة، التي نطق بها الكتاب والسنة.
وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط، كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه، والاجتهاد في عدل الشخص المعين، والنفقه بالمعروف للمرأة المعينة، والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين، المثل الواجب في إتلاف المال المعين، وصلة الرحم الواجبة، ودخول أنواع
من المسكرات في اسم الخمر، وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر، وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع، وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه.
فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء، وهو ضروري في كل شريعة، فإن الشارع غاية ما يمكنه بان الأحكام بالأسماء العامة الكلية، ثم يحتاج إلى معرفة دخول ما هو أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان.
وقد احتج من احتج من الأئمة المثبتين للقياس عليه بمثل هذا القياس، وأن القرآن العزيز ورد بمثل هذا في القبلة، وجزاء الصيد، وعدل الشخص، ونحو ذلك.
وهذا لا حجة فيه، فإن مثل هذا لا نزاع فيه، وهو ضروري لا بد منه، ولا يمكن إثبات حكم النوع - أو عين - إلا بمثل هذا.
ونفاة القياس لا يسمونه قياساً، وإن سماه المسمي قياساً كان نزاعاً لفظياً.
والتحقيق أن دخول الأعيان في المعنى العام الذي دل عليه الخطاب، هو من قياس الشمول، وأن تمثيل بعض الأعيان والأنواع ببعض، هو من قياس التمثيل، لكن شمول اللفظ لهذا ولهذا بطريق العموم يغني عن قياس التمثيل.
ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم، وإن سماه الممي قياساً كلياً، بل هو عمدتهم وعصمتهم، هو واستصحاب الحال.
فهذا نوع.
ومن نازع في القياس والعموم جميعاً - كما فعل ذلك من فعله من الرافضة - فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام، فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم.
ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط، وهي داخلة فيه.
وليس كذلك، فإن هذه فيها نزاع.
وهنا نوع ثان يسمى تنقيح المناط، وهو أن يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة، وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها، بل يتناولها وغيرها، فيحتاج أن ينقح مناط الحكم، أي يميز الوصف الذي تعلق به ذلك الحكم، بحيث لا يزداد عليه ولا ينقص منه.
وهذا كأمره صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي استفتاه لما جامع امرأته في رمضان بالكفارة، ثم لما أتى العرق، قال: أطعمه أهلك وأمره لمن سأله عن فأرة وقعت في سمن بأن تلقى وما حولها ويأكل السمن.
وأمره لمن سأله عمن أحرم بعمرة، وعليه جبة، وهو متضمخ بخلوق، أن ينزع عنه الجبة، ويغسل الخلوق، ويصنع في
عمرته ما كان صانعاً في حجته.
وأمره لمن ابتاع صاعاً جيداً من التمر بصاعين من الرديء، أن يبيع الرديء بدراهم ثم يبتاع بها جيداً.
ومثل أمره لبريرة لما عتقت أن تختار.
ومثل رجمه لماعز والغامدية، وقطعه لسارق رداء صفوان والمخزومية وغيرهما، وأمثال ذلك.
فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليس مخصوصاً بتلك الأعيان، بل يتناول ما كان مثلها، لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك الذي به علق الشارع الحكم.
وهذا قد يكون ظاهراً، وقد يكون خفياً.
فالظاهر: مثل كون سبب الرجم هو زنا المحصن، وسبب القطع هو السرقة.
والخفي: مثل كون الكفارة وجبت لخصوص الجماع، أو لعموم الإفطار.
وهل وجبت لنوع من الإفطار، أو لجنسه؟ وهل وجب لوقاع في صوم صحيح في رمضان، أو لوقاع في صوم واجب في رمضان؟ سواء كان صحيحاً أو فاسداً؟ كما يجب في الإحرام الواجب، سواء كان صحيحاً أو فاسداً فهذه مما تنازع فيه الفقهاء.
وكذلك لما أجاب عن الفأرة التي وقعت في السمن، فلا ريب أن الحكم ليس مخصوصاً بتلك الفأرة والسمن، ولا بنوع من الفأر ونوع من الأسمان، فلا بد من إثبات حكم عام.
وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس، أو أكثرهم.
وكثير من الفقهاء لا يسميه قياساً، بل يثبتون به الكفارات والحدود، وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس، فإنه
هنا قد علم يقيناً أن الحكم ليس مخصوصاً بمورد النص، فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق، كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط، فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها، إلا بدليل يدل على ذلك.
ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن، دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات، ظهر خطاؤهم يقيناً، فإن الشارع - صلوات الله عليه - لم يعلق الحكم في خطابه بفأره وقعت في سمن، ولكن السائل سأله عن ذلك، والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة، أو نوع باسمه، لم يجب أن يكون الحكم معلقاً مختصاً بما سأل عنه السائل، بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلاً في حكم عام، كما إذا سئل عن عين معينة لم يكن الحكم مخصوصاً بتلك العين، ولا فرق بين أن يسأل عن عين أونوع، فليس في جوابه ما يقتضي اختصاص الحكم بمورد السؤال، فهذا من أعظم الغلط.
وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم، فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة، دل على فهمه لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول القائل: الحكم هنا ليس متعلقاً بمجرد الميتة، بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه:{ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} ، فإن الميتة، وإن
شاركت الخنزير والدم في التحريم، فقد شمل الجميع اسم الخبيث، فالتحريم متناول للوصف العام، ليس مخصوصاً بنوع من الأنواع، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه دليل على الاختصاص بنوع، لتعلق الحكم بالوصف العام المشترك - وهو الخبث - فيكون الخبيث الجامد الواقع في السمن حكمه حكم الفأرة، سواء كان دماً أو ميتة متجسدة، ونحو ذلك.
ثم ينظر في السمن فيعلم أنه لا اختصاص في الشرع له بذلك، بل سائر الأدهان كذلك ثم سائر المائعات كذلك، ثم يبقى النظر: هل يفرق بين الماء وسائر المائعات؟ أو يسوي بينهما؟ وهل يفرق بين الجامد والمائع أو يسوى بينهما؟ وهل يفرق بين القليل والكثير، أو يسوى بينهما؟ هذا من المواضع الخفية التي تنازع فيها العلماء.
والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس.
وكذلك العلة المنصوصة، وكذلك القياس في معنى الأصل، وقياس الأولى.
وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة، فهذا محل اجتهاد.
ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك، فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة، ومنهم من يقول بالمؤثر،
وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم، كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال، فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتاً لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر.
وأما إذا لم يكن مؤثراً، فهو الذي يسمونه المناسب الغريب، وفيه قولان مشهوران، فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه من المصلحة.
ومن تدبر الأدلة الشرعية: منصوصها ومستنبطها، تبين له أن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين، وهو من العدل الذي أمر الله به ورسوله، وأنه حق لا يجوز أن يكون باطلاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالعدل، فلم يسو بين شيئين في حكم إلا لاستوائهما فيما يقضي تلك التسوية، ولم يفرق بين اثنين في حكم إلا لافتراقهما فيما يقتضي ذلك الفرق، ولا يجوز أن يتناقض قياس صحيح ونص صحيح، كما لا يتناقض معقول صريح ومننقول صحيح، بل إذا ظن بعض الناس تعارض النص والقياس، كان أحد الأمرين لازماً: إما أن القياس فاسد، وإما أن النص لا دلالة له.
ومع هذا فالكتاب والسنة بينا جميع الأحكام بالأسماء العامة، لكن يحتاج إدخال الأعيان في ذلك إلى فهم دقيق ونظر ثاقب، لإدخال كل معين تحت نوع، وإدخال ذلك النوع تحت نوع آخر بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وحينئذ فكل من الحوادث شملها خطاب الشارع، وتناولها الاعتبار الصحيح.
وخطاب الشارع العام الشامل دل عليها بطريق العموم الذي يرجع إلى تحقيق المناط، وهو في معنى قياس الشمول البرهاني.
والاعتبار الصحيح تناولها بطريق قياس التمثيل، الذي يتضمن التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين.
والتماثل والاختلاف ثابت في نفس الأمر، وقد نصب الله عليه أدلة تدل عليه، وكما أن القياس الشمولي والتمثيلي يرجعان إلى أصل واحد، ولا يجوز تناقضهما إلا مع فسادهما أو فساد أحدهما، فكذلك الخطاب العام والاعتبار الصحيح يرجعان إلى أصل واحد، ولا يجوز تناقضهما إلا لفساد دلالتهما أو أدلة أحدهما.
وهذا تنبيه على مجامع نظر الأولين والآخرين في جميع استدلالهم، ومن تبصر في ذلك وفهمه وعلم ما فيه من الأحاطة.
وبين له أن دلائل الله تعالى لا تتناقض، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصرائح المعقول، وأن ما شرعه للعباد هو العدل الذي به صلاح المعاش والمعاد، وإن فهم - مع ذلك - مسألة التحسين والتقبيح العقلي، وارتباطها بمسألة المناسبات، ورجوع جنس التحسين والتقبيح إلى حصول المحبوب ودفع المكروه - هو المعروف والمنكر - كما يرجع جنس الخبر إلى الوجود والعدم، وإن هذا يرجع إلى الحق النافع، وفي مقابلته الباطل الذي لا ينفع، وهذا يرجع إلى الحق
الموجود، وفي مقابلته المعدوم - تبين به أيضاً تناسب جميع العلوم الصحيحة، والموجودات المعتدلة، والشرائع الإلهية، وأعطى كل ذي حق حقه:{والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} ، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} .
وإذا أحسن الاعتبار، تبين له ما في منطق اليونان وفلسفتهم من الصواب والخطأ في الحد والبرهان، لت سيما في مواد القياس والبرهان، وتبين له كثير من خطأهم في التفريق بين المتماثلين، والتسوية بين المختلفين، مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية، وليس الأمر كذلك، وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات، مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية، كما قد ذكر في غير هذا الموضع، فهذا لمعة من كلام علماء الكلام وغيرهم في طريقة الأعراض ونحوها.