المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى، - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٧

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الرد على الرازي وبيان تقرير العلو بالأدلة العقلية من طرق

- ‌تابع لكلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌كلام آخر للرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌تابع كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة والعلو

- ‌الرد عليه

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الخامس

- ‌رسالة البيهقي في فضائل الأشعري

- ‌كلام الأشعري في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌اعتراض يذكر نفاة الصفات

- ‌بطلان هذا الكلام من وجوه متعددة: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على قولهم: أن القرآن لم يدل على العلو والصفات من وجوه

- ‌الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السادس في الرد على كلام الرازي المتقدم

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الجواب التاسع

- ‌الوجه الرابع والأربعون

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن ذم علم الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في البرهان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الغزالي في الإحياء عن علم من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌تابع كلام الغزالي في الإحياء

- ‌كلام الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الشهرستاني عن حدوث العالم في نهاية الإقدام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الشهرستاني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الاستدلال على وجود الله تعالى وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي نصر السجزي في الإبانة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل

- ‌كلام ابن عساكر في تبيين كذب المفتري عن ذم الأئمة لأهل الكلام

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري في المقالات عن الضرارية

- ‌عود لكلام ابن عساكر وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام أحمد بن حنبل في الرد على الجهمية عن القرآن

- ‌كلام الأشعري في مقالات الإسلاميين عن النجارية

- ‌كلام الخطابي في الغنية عن الكلام وأهله

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌بقية كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام القاضي عبد الجبار في تثبيت دلائل النبوة

- ‌كلام الباقلاني شرح اللمع

- ‌عود لكلام الخطابي في الغنية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام الخطابي في الغنية

- ‌كلام الخطابي في كتاب شعار الدين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للخطابي وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تنازع الناس في أصل المعرفة بالله وكيف تحصل

- ‌القائلون بأنها لا تحصل بالنظر

- ‌كلام الرازي في نهاية العقول عن المعرفة الفطرية

- ‌كلام الآمدي في الأبكار

- ‌كلام أبي الحسن الطبري الكيّا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌ذكر الشهرستاني في نهاية الإقدام أن الفطرة تشهد بوجود الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن حزم في الفصل

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الأشعري

- ‌رد ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن حزم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الجويني في نفي وجوب النظر

- ‌كلام أبي إسحاق الإسفراييني

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام شارح الفقه الأكبر لأبي حنيفة

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام أبي يعلى في وجوب النظر

- ‌كلام ابن الزاغوني عن وجوب النظر

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌تابع كلام ابن الزاغوني

- ‌تعليق ابن تيمية

الفصل: العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى،

العمي الذين لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهدى، أو لم يكونوا يعقلون بحال.

وأمثال هؤلاء قال تعالى فيهم: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [الأنعام: 39] .

وقد ضرب الله مثل هؤلاء وهؤلاء في غير موضوع من القرآن كسورة النور وغيرها.

‌الوجه الخامس

أن يقال: لا نسلم أن تصديق النقل المثبت لعلو الله على خلقه، وتكذيب ما يناقض ذلك مما يسمى معقولاً، يوجب القدح في أصل النقل كما في قوله:(لأن العقل أصل للنقل، فتكذيبه لتصديقه موجب لتكذيبهما) .

قلنا: لا نسلم أن المعقول النافي لعلو الله على خلقه أصل للنقل فإنه ليس كل ما يسمى معقولاً، ولا كل ما يعلم بالعقل يتوقف العلم بصحة السمع عليه، فتلك الأمور، التي لا يتوقف العلم بصحة السمع عليها، ليست أصلاً للسمع، ولا يجوز أن يقال جنس المعقول به يعلم بالسمع، فلا يجوز أن يرد شيئاً منه، فإن العقلاء متفقون على أن جنس المعقولات لا يلزم من تكذيب بعضها تكذيب السمع، وإن قدر أنها عقليات صحيحة، مثل مسائل الحساب الدقيقة وغيرها، فإنها مع كونها

ص: 41

عقليات صحيحة لا يلزم من القدح فيها في السمع، فكيف بالمعقولات التي فيها خطأ كثير وتنازع عظيم.

بل كل من كان عن الشرائع أبعد، كان اضطرابهم في عقلياتهم أكثر، كالفلاسفة فإن بينهم من الاختلاف في عقلياتهم - حتى في المنطق والهيئة والطبيعيات - ما لا يكاد يحصى.

وكلامهم في الإلهيات قليل، وعلمهم بها ضعيف، ومسائلها عندهم يسيرة، وهي مع هذا عندهم لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل.

وأساطينهم معترفون بأنه لا سبيل لهم إلى اليقين فيها وإنما يتكلمون فيها بالأولى وألا خلق، وهم مع هذا متنازعون فيها أعظم من تنازع كل فرقة من مبتدعة أهل الملل في الأمور الإلهية.

وإذا كان جنس ما يسميه هؤلاء عقليات، فيه خطأ كثير باتفاق الناس وبالضرورة، لم يمكن أن يقبل جنس ما يقال له عقليات، فضلاً عن أن يعارض به، ولو قبل جنس ما يقال له عقليات كله، للزم من الجميع بين النقيضين ما شاء الله.

فنفاة الجزء - الذي هو الجوهر الفرد - ومثبتوه، كل منهم يقول: إن ذلك معلوم بالعقل.

والقائلون ببقاء بعض الأعراض، مع القائلين بفنائها، والقائلون بتماثل الأجسام مع القائلين باختلافها، والقائلون

ص: 42

بوجوب تناهي الحوادث مع القائلين بعدم جواز تناهيها، وأضعاف ذلك.

بل العقليات الصحيحة: ما كان معقولاً للفطر السليمة الصحيحة الإدراك التي لم يفسد إدراكها.

وهذا القدر لا يزال موجوداً في بني آدم، وإن فسد رأي القوم، لم يلزم فساد رأي آخرين.

لكن إذا تنازع الناس، وادعى كل فريق أن قولنا هو الذي تشهد به الفطر السليمة، لم يفصل بينهم إلا ما يتفقون على صدق شهادته: إما كتاب منزل من السماء يحكم بينهم، وإما شهادة فطر تقر الطائفتان أنها صحيحة الإدراك صادقة الخبر، فلا يحكم بين المتنازعين إلا حاكم يسلمان لحكمه.

والمقصود هنا أنه لا يقول عاقل: إن كل ما يسمى معقولاً يجوز قبوله، فضلاً عن أن يجب، فضلاً عن أن يعارض به معقول آخر، فضلاً عن أن يعارض به كتاب منزل من عند الله.

وإذا كان كذلك لم يكن في رد كثير مما يسمى معقولاً رد لسائرها، فإذا رد مما يسمى معقولاً ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه، لم يكن في هذا رد للأصل المعقول الذي به يعلم السمع، وهو المطلوب.

وإذا كان كذلك، فالمعقول المذكور هنا الذي عارضوا به الآيات الإلهية والأحاديث النبوية - هو ما ذكروه في نفي علو الله على خلقه، وليس شيء من ذلك مما يحتاج في العلم بصحة السمع إليه، فإن إثبات موجود لا يمكن أن يشار إليه، ولا يكون داخل العالم ولا خارجه،

ص: 43

ومقدمات ذلك مستلزمه له، لا يتوقف العلم بصحة السمع على شيء من ذلك، فإن نعلم بالاضطرار بعد تأمل أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه التابعين لهم بإحسان، أن الذين أمنوا بالرسول وجزموا بصدقه - وهم باتفاق المسلمون أعلم الأمة بصدقه، والصدق ما أخبر به، وصحة ذلك - لم يكونوا في إيمانهم وعلمهم بصدقه، يستدلون بشيء من هذه المقدمات على صحة ذلك، ولو مناظرين به أحداً، ولا يقيمون بها حجة على غيرهم فضلاً عن أن يكونوا هم لم يعلموا صدقه إلا بعد العلم بهذه المقدمات المستلزمة لوجود موجود لا يشار إليه، وأن صانع العلم ليس بداخل العلم ولا خارجه، ولا فوق العالم رب ولا على العرش إله.

ومما يوضح ذلك أن نعلم بالعادة المطردة أن القضايا التي بها علموا أنه رسول الله الصادق فيما يخبر به الله، لو كانت مستلزمة لقول نفاة العلو، وأن الله ليس مبايناً للعالم ولا هو فوق السماوات، ولا يمكن الإشارة إليه، ولا عرج أحد من الملائكة ولا محمد، إليه نفسه، ولا نزل من عنده نفسه شيء: لا ملك ولا غيره - لكانت هذه اللوازم تحصل في نفوسهم، كما حصلت على أنفس غيرهم، ولا سيما مع كثرة الخلق، وانتشار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجا، ولو كانت هذه القضايا مستقرة في أنفسهم، لامتنع فيه العادة أن يتكلموا بها، فضلاً عن أن يتكلموا بنقيضها، ولو وجب في العادة أن يعارضوا بها ما دل عليه ظاهر السمع، لكانوا يسألونه ويقولون: ما دلت

ص: 44

عليه هذه الآيات والأحاديث التي أخبرتنا بها يناقض هذه القضايا التي علمنا بها أنك رسول الله الصادق عليه، فما يمكننا أن نجمع بين تصديقك في دعوى الرسالة، وبين الإخبار بهذه الأمور، بل تصديقك في دعوى الرسالة التي يقتضي تكذيب مقتضى هذه الأخبار، فكيف نصنع؟ هل لها تأويل يوافق ما به علماً أنك صادق؟ : أم نحن مأمورون بأن نقرأ ما ظاهره كفر وكذب يقدح في أصول إيماننا، ونعرض بقلوبنا وعقولنا عن فهم ذلك وتدبره والنظر فيه؟ .

وهذا فيه عذاب عظيم للعقول، وفساد عظيم في القلوب، إذا كان الرجل مأموراً أن يقرأ في الليل والنهار كلاماً، يقرأ به في صلاته وغير صلاته، ويجزم بأنه صدق لا كذب، وأن من كفر بحرف منه فهو كافر، وذلك الكلام مشتمل على أن أخبارها ظاهرها ومفهومها يناقض ما به علم وصدق ذلك الكلام، بل هو باطل وضلال وكفر، فيورثه ذلك الحيرة والاضطراب، ويمرض قلبه أعظم مرض، ويكون تألمه لذلك ووجع قلبه، أعظم بكثير من مرض بدنه ووجع يده ورجله، فإنه حينئذ إن قبل ما به صدق هذا الرسول قدح في الكلام الذي أخبر أنه حق وصدق، فيكون ذلك الدليل الذي دله على صدقه، دله على كذب المفهوم من أخباره وإن صدق المفهوم من أخباره، أبطل شاهد صدقه.

ومن المعلوم أن أخباره لو عارضت معقولاً لهم، غير ما به علموا صدقه، لأوجب ذلك من الحيرة والألم والفساد ما لا يعلمه إلا الله، فكيف إذا كان المعارض له ما به علموا صدقه؟ .

ص: 45

وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأل بعضهم بعضاً، عن أدنى شبهة تعرض في خطابه وخبره، مثل ما كان يوم الحديبية لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم مشركي مكة، على أن يرجع ذلك العام بأصحابه الذين قدموا معه معتمرين، وبايعهم بيعة الرضوان تحت الشجرة، وهم السابقون الأولون، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فصالح المشركين على أن يرجع بهم ذلك العام، ويرد إلى المشركين ما جاءه مؤمناً مهاجراً، ولا يرد المشركون من ذهب إليهم مرتداً، وامتنعوا من أن يكتبوا في كتاب الصلح:(بسم الله الرحمن الرحيم) وأن يكتبوا: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله، وأمثال ذلك.

والمقصود أن كثيراً من الصحابة اشتد عليهم ذلك، وأجلهم عمر، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق، وعدونا على باطل؟ قال: بلى.

قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه.

فقال: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت، ونطوف به؟ فقال بلى، أقلت لك إنك تأتيه هذا العام؟ قال: لا.

قال: فإنك آتيه ومطوف به) .

ثم ذهب عمر إلى أبي بكر، فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم، من غير أن يكون سمع جواب النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 46

والقصة مستفيضة رواها أهل الصحيح والمسند والمغازي والسير والتفسير والفقه وسائر العلماء.

فهذا عمر، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» أخرجاه في الصحيحين.

وقال: «إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه» .

وقال: «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» رواه الترمذي.

إلى غير ذلك من فضائله، وقد اشتبه عليه معنى نص، وليس ظاهره ينافي الواقع، فإن الله تعالى قال:{لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين} [الفتح: 27] .

ص: 47

وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك قبل نزول الآية خبراً مطلقاً، من المعلوم باتفاق الفقهاء أن الرجل إذا قال: والله لأفعلن كذا وكذا، ولم يكن هنا سبب ولا نية توجب التعجيل كان له أن يؤخره إلى وقت آخر، فلم يكن في ظاهر خطاب الله ورسوله ما يقتضي تعجيل إتيان البيت والطواف به.

ومع هذا لما ظن هذا الذي هو أفضل الأمة بعد أبي بكر، أن ظاهره يقتضي التعجيل، أورده على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على صديقه، وأجاب كل منهما في مغيب الآخر بأنه ليس في الخطاب ما يقتضي التعجيل، وإنما الذي فهم ذلك من الخطاب غلط في فهمه.

فالغلط منه، لا لنقص في دلالة الخطاب.

وأيضاً ففي الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: «من نوقش الحساب عذب.

قالت عائشة: فقلت يا رسول الله، أليس الله يقول في كتابه:{فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 8]، فقلت: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب» .

ومعلوم أن قوله: {فسوف يحاسب حسابا يسيرا} [الانشقاق: 8] ، لا يدل ظاهره على أن المحاسب يناقش، بل الظاهر من لفظ الحساب اليسير أنه لا تكون فيه مناقشة، ومع هذا فلما قال: من نوقش عذب، فظنت امرأة تحبه ويحبها - وهي أحب النساء إليه، وأبوها احب الرجال إليه - أن ظاهر خطابه يعارض تلك الآية - سألته عن ذلك ولم تسكت.

ص: 48

وكذلك في الحديث الصحيح أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة.

قالت حفصة: فقلت يا رسول الله: أليس الله يقول: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] .

فقال: ألم تسمعيه قال: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم: 72] » .

وقد بين في الحديث الصحيح الذي رواه جابر وغيره أن الورود هو المرور على الصراط، ومعلوم أنه إذا كان قد أخبرهم أن جميع الخلق يعبرون الصراط ويردون النار بهذا الاعتبار، لم يكن قوله لهم: فلان لا يدخل النار منافياً لهذا العبور، ولهذا قال لها: ألم تسمعيه قال: {ثم ننجي الذين اتقوا} فأخبرها أن هذا الورود لا ينافي عدم الدخول الذي أخبرت به، فالذين نجاهم الله بعد الورود - الذي هو العبور - لم يدخلوا النار.

ولفظ الورود والدخول قد يكون فيه إجمال فقد يقال لمن دخل سطح الدار: أنه دخلها ووردها، وقد يقال لمن مر على السطح ولم يثبت فيها: إنه لم يدخلها.

فإن قيل: فلان ورد هذا المكان الرديء ثم نجاه الله منه، وقيل فلان: لم يدخله الله إياه، كان كلا الخبرين صدقاً لا منافاة بينهما.

وقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما

ص: 49

مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا} [مريم: 71-72]، بيان فيه نعمة الله على المتقين: أنهم مع الورود والعبور عليها وسقوط غيرهم فيها نجوا منها، والنجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه، يقال: نجاه الله منهم.

ولهذا قال تعالى: {ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم} [الأنبياء: 76] .

ومعلوم أن نوحاً لم يغرق ثم خلص.

بل نجي من الغرق الذي أهلك الله به غيره.

كما قال: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} [العنكبوت: 15] .

وكذلك قوله عن لوط: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث} [الأنبياء: 74] .

ومعلوم أن لوطاً لم يصبه العذاب الذي أصابهم من الحجارة والقلب وطمس الأبصار.

وكذلك قوله: {ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ} [هود: 58]، وقوله:{فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ} [هود: 66] .

ص: 50

وأمثال ذلك يبين سبحانه أنه نجى عباده المؤمنين من العذاب الذي أصاب غيرهم، وكانوا معرضين له، لولا ما خصهم الله من أسباب النجاة - لأصابهم ما أصاب أولئك.

فلفظ (النجاة من الشر) يقتضي انعقاد سبب الشر، لا نفس حصوله في المنجى.

فقوله تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا} [مريم: 72] ، لا يقتضي أنهم كانوا معذبين ثم نجوا، لكن يقتضي أنهم كانوا معرضين للعذاب الذي انعقد سببه، وهذا هو الورود.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» ، لا ينافي هذا الورود، فإن مجرد الورود ليس بعذاب، بل هو تعريض للعذاب، وهو إنما نفى الدخول الذي هو العذاب، لم ينف التقريب من العذاب، ولا انعقاد سببه، ولا الدخول على سطح مكان العذاب.

ومع هذا لما اشتبه ذلك على امرأته، سألته عن ذلك، وذكرت ما يعارض خبره في فهمها، ولم تسكت، وقد كان يفعل الأمر فيسألونه: هل هو بوحي فيجب طاعته؟ أو هو رأي يمكن معارضته برأي أصلح منه؟ ويشيرون عليه في الرأي برأي آخر، فيقبل منهم ويوافقهم، كما سأله الحباب بن المنذر لما نزل ببدر فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل الذي نزلته: أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتعداه، أم هو الرأي

ص: 51

والحرب والمكيدة؟ فقال: (بل هو الرأي والحرب والكيدة.

) فقال: ليس هذا بمنزل قتال.

ولما صالح غطفان عام الخندق على نصف ثمر المدينة لما تألبت عليهم الأحزاب: من قريش وحلفائها، وأهل نجد وجموعهم، وبني قريظة اليهود جيران المدينة، وكانت تلك القضية من أعظم البلاء والمحنة، وفيها أنزل الله سورة الأحزاب، فلما صالحهم على نصف ثمرها.

قال له سعد ما مضمونه: إن كان الله أمرك بهذا سمعنا وأطعنا، وإن كان رأياً منك أردت به مصلحتنا، فقد كنا في الجاهلية وما أحد منهم ينال منها ثمرة إلا بشرىً أو قرىً، فحين أعزنا الله بالإسلام نعطيكم ثمرنا؟ أو كما قال: فبين له النبي صلى الله عليه وسلم: ( «إني لما رأيت الأعداء قد تحزبوا عليكم خشيت أن تضعفوا عنهم، فرأيت أن أدفع هؤلاء ببعض الثمر، فإذا كنتم ثابتين صابرين، فلا حاجة إلى هذا) » .

وفي الصحيح «أنهم كانوا في بعض الأسفار فنفد زادهم فاستأذنوه في نحر ظهرهم - وهي الإبل التي يركبونها - فأذن لهم، فأتاه عمر وأخبره أنهم إن نحروا ظهرهم تضرروا بذلك، وطلب أن تجمع أزوادهم ويدعوا فيها

ص: 52

بالبركة ليغنيهم الله بذلك عن نحر ظهرهم، ففعل ذلك» .

وكذلك في الصحيح «أنه أعطى أبا هريرة نعله ليبشر الناس بأن الموحدين في الجنة، فلقيه عمر فرده، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهم إذا سمعوا ذلك اتكلوا، فترك ذلك) » .

بل كان يأمرهم بالأمر الذي يجب عليهم طاعته، فيعارضه بعضهم بما لا يصلح للمعارضة، فيجيبهم.

(فإن في الصحيح «أنه نهاهم عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي ويطعمني ويسقيني) » .

ومعلوم أن هذه معارضة فاسدة، لو أوردها بعض طلبة الفقهاء، أجابه آخر بأن أمره ونهيه يجب طاعته فيه، وحكمه لازم للأمة باتفاق المسلمين، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دينه، وإن كان بعض الناس

ص: 53

ينازع في الأمر المطلق: هل يفيد الإيجاب أم لا؟ فلم ينازع في أنه إذا بين في الأمر أنه للإيجاب يجب طاعته، ولا أنه إذا صرح ابتداءً بالإيجاب تجب طاعته.

ولكن نزاعهم في مراده بالأمر المطلق: هل يعلم به أنه أراد به الإيجاب؟ فهذا نزاع في العلم بمراده، لا نزاع في وجوب طاعته فيما أراد به الإيجاب، فإن ذلك لا ينازع فيه إلا مكذب به.

والمقصود أن حكم النهي لازم للأمة، وأما فعله فقد يكون مختصاً به باتفاق الأمة.

بل قد تنازعوا في تعدي حكم فعله إلى غيره، على ما هو معروف، فإذا أمر المسلمين أو نهاهم أمراً ونهياً علموا به مراده، لم يكن لأحد منهم أن يعارض ذلك بفعله باتفاق العلماء، وإنما يتكلمون في تعارض دلالة القول والفعل، إذا لم يعلموا مراده بالقول، كما تكلموا في «نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول» ، «مع أنه قد رآه ابن عمر مستقبل الشام مستدبر الكعبة وهو يتخلى» .

فهنا قد يظن بعضهم أن نهيه ليس عاماً بل خاص إذا لم يكن حائل، ويوفق بين القول والفعل، ويظن بعضهم الفرق بين الاستقبال والاستدبار، ويظن بعضهم أن أحدهما منسوخ لاعتقاده التعارض،

ص: 54

ويظن بعضهم أن الفعل خاص له، فهذا كله لعدم علمهم بأن النهي عام محكم.

وأما إذا علموا أن نهيه عام محكم غير منسوخ، كانوا متفقين على أنه لا يعارض بفعله.

فتبين أن من عارض نهيه عن الوصال بقوله: إنك تواصل، كانت معارضته خطأ، باتفاق العلماء ومع هذا فقد أجابه ببيان الفرق، وقال:«إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» .

«بل لما غير عادته يوم الفتح، فصلى الصلوات بوضوء واحد سأله عمر فقال: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله.

فقال: عمداً فعلته» .

هذا وأمثاله كثير.

هذا من المؤمنين به المحبين له، فأما معارضة الكفار بما لا يصلح للمعارضة - عند أهل النظر والخبرة بالمناظرة - على سبيل الجدل بالباطل فكثيرة.

مثل معارضتهم لله لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} [الأنبياء: 98]، فقام ابن الزبعري وغيره فقالوا: قد عبد المسيح، فآلهتنا خير أم هو؟ .

فأنزل الله تعالى: {ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون} [الزخرف: 57] : إي يضجون.

{وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم

ص: 55

خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} [الزخرف: 58-59] .

وأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} [الأنبياء: 101-102] .

وقد ظن طائفة من الناس أن قوله {وما تعبدون} [الأنبياء: 98] ، لفظ يعم كل معبود من دون الله لكل أمة، فيتناول المسيح وغيره، وجعلوا هذا مما استدلوا به على عموم الأسماء الموصوفة، مثل (من) و (ما) و (الذي) .

واستدل بذلك بعضهم على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

قالوا: لأن اللفظ عام، وأخر بيان المخصص إلى أن نزل قوله:{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} [الأنبياء: 101] .

وهذا خطأ، ولو كان قول هؤلاء صحيحاً، لكانت معارضته المشركين صحيحة.

فإن من سمع اللفظ العام ولم يسمع المخصص، فأورد على المتكلم، كان إراده مستقيماً.

وهذا سوء ظن ممن قاله بكلام الله ورسوله وحسن ظن المشركين.

ولكن هؤلاء وأمثالهم الذين يجعلون المفهوم المعقول الظاهر من القرآن مردوداً بآرائهم، كما رده المشركون بالمسيح، فإن قول المشركين إن المسيح لا يدخل النار والملائكة لا تدخل النار، كلام صحيح، أصح مما يعرض به المعارضون لكلام الله ورسوله.

ص: 56