المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: النقول عن الفقهاء: - أبحاث هيئة كبار العلماء - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في حكم اقتطاع جزء من المقبرةلمصلحة عامة كتوسعة طريق ونحوه

- ‌ أقوال أهل العلم في حكم تحويل الميت من قبره إلى آخر لغرض صحيح:

- ‌غلة الأوقاف المنقطعة جهاتهاأو الفائض من غلاتها على مصارفها

- ‌ مذهب الحنفية:

- ‌ مذهب المالكية:

- ‌ مذهب الشافعية:

- ‌ مذهب الحنابلة:

- ‌الرهن

- ‌أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين:

- ‌ تعريفه لغة:

- ‌ تعريفه شرعا:

- ‌ المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي:

- ‌رابعا: الخلاف في أن قبض الرهن شرط في لزومه أو ليس بشرط

- ‌خامسا: الخلاف في اشتراط استدامة القبض

- ‌سادسا: ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة:

- ‌سابعا: حكم الرهن بعد القبض:

- ‌ مؤنة الرهن:

- ‌ الانتفاع بالمرهون:

- ‌ نماء الرهن:

- ‌ التصرف في الرهن قبل حلول أجل الدين:

- ‌ استيفاء المرتهن حقه من الرهن:

- ‌ ضمان الرهن إذا هلك بنفسه:

- ‌المذهب الأول: أن الرهن إذا هلك بنفسه فلا يضمنه المرتهن

- ‌المذهب الثاني: أن الرهن إذا هلك بنفسه فهو من ضمان المرتهن

- ‌المذهب الثالث: التفرقة بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه:

- ‌إيجاد مواقف للسياراتتحت المساجد

- ‌بحث في المعاملات المصرفية والتحويلات المصرفية

- ‌عمليات الإيداع

- ‌أولا: الودائع النقدية:

- ‌تعريف الوديعة النقدية:

- ‌مزايا الإيداع النقدي:

- ‌أنواع الودائع النقدية:

- ‌الحساب العادي أو البسيط أو حساب الودائع

- ‌حساب الادخار والتوفير:

- ‌الحساب الجاري

- ‌تعريفه ومزاياه:

- ‌أركان الحساب الجاري:

- ‌الفوائد المتعلقة بالحساب الجاري:

- ‌وقف الحساب الجاري:

- ‌تعليل قاعدة عدم التجزئة:

- ‌آثار قاعدة عدم التجزئة:

- ‌قفل الحساب الجاري:

- ‌ أهم خصائص الودائع والحساب الجاري

- ‌ثانيا: إيداع الوثائق والمستندات:

- ‌ثالثا: إيجار الخزائن الحديدية:

- ‌التكييف القانوني لعقد إيجار الخزانة:

- ‌التكييف الشرعي لعملية استئجار الخزانة:

- ‌خلاصة عمليات الإيداع

- ‌ عمليات الائتمان

- ‌ الاعتمادات المصرفية

- ‌الأول: الإقراض:

- ‌ ضرورة الاتفاق على القرض، تجاريته، إبرام العقد:

- ‌تكييف الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي:

- ‌حكم الإقراض المصرفي في الفقه الإسلامي:

- ‌الثاني: فتح الاعتماد البسيط:

- ‌ آثار عقد فتح الاعتماد:

- ‌انتهاء العقد:

- ‌ انتقال الاعتماد:

- ‌تكييف عقد فتح الاعتماد البسيط المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه:

- ‌الثالث: الضمان:

- ‌تكييف الضمان المصرفي في الفقه الإسلامي وبيان حكمه:

- ‌الرابع: الاعتمادات المستندية

- ‌ بيان واقعها

- ‌تحليل العلاقات القانونية المتفرعة عن الاعتمادات المستندية:

- ‌ موقف الفقه الإسلامي من هذه العملية:

- ‌الخلاصة:

- ‌الكمبيالة

- ‌خصائص الكمبيالة:

- ‌الوصف الشرعي للكمبيالة:

- ‌الشيك:

- ‌خصائص الشيك:

- ‌الفرق بين الشيك والكمبيالة:

- ‌الوصف الفقهي الإسلامي:

- ‌السند الإذني:

- ‌خصائص السند الإذني:

- ‌الوصف الإسلامي للسند الإذني:

- ‌التحويلات المصرفية والبريدية:

- ‌الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية:

- ‌النتيجة:

- ‌عمليات التظهير:

- ‌آثار التظهير التام:

- ‌آثار التظهير التوكيلي:

- ‌التظهير التأميني:

- ‌آثار التظهير التأميني:

- ‌الوصف الإسلامي للتظهير:

- ‌تحصيل الأوراق التجارية:

- ‌التكييف الفقهي الإسلامي لعمليات التحصيل:

- ‌عمليات الخصم:

- ‌الوصف الفقهي الإسلامي لعمليات الخصم:

- ‌الفوائد الربوية

- ‌أولا: من أقوال بعض المفسرين على قوله تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}

- ‌ثانيا: من أقوال بعض شراح الحديث:

- ‌ثالثا: النقول عن الفقهاء:

- ‌[فتاوى المنار] :

- ‌رابعا: أقوال الفقهاء في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي:

- ‌[فتاوى المنار] :

- ‌[فتاوى محمد رشيد رضا] :

- ‌الخلاصة

- ‌المواشي السائبةعلى الطرق العامة

- ‌حوادث السيارات وبيان ما يترتبعليها بالنسبة لحق الله وحق عباده

- ‌الموضوع الثاني:حوادث دهس السيارات وانقلابها، أو سقوط شيء منها على أحدأو قفز أحد ركابها

- ‌الموضوع الثالث:بيان ما يترتب على حوادث السيارات من العقوبات لمخالفة نظام المرور ونحوه

- ‌الموضوع الرابع:توزيع الجزاء على من اشتركوافي وقوع حادث بنسبة اعتدائهم أو خطئهم:

الفصل: ‌ثالثا: النقول عن الفقهاء:

وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئا مغصوبا: يرده إليهم، فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كله ولا يأخذ رأس ماله، وكذا قال فيمن باع شيئا ممن تكره معاملته لشبهة ماله قال: يتصدق بالثمن، وخالفه ابن المبارك، وقال: يتصدق بالربح خاصة. وقال أحمد: يتصدق بالربح.

وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه، وكان أبوه يبيع ممن تكره معاملته: أنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي. وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه.

والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها.

وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به، وقال: لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب، والصحيح الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث، وإنما هي صدقة عن مالكه؟ ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا (1) .

(1)[جامع العلوم والحكم] ص (85، 86- 90) .

ص: 396

‌ثالثا: النقول عن الفقهاء:

1 -

قال محمد بن أحمد بن رشد:

(فصل) فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله، قبض الربا أو لم يقبضه،

ص: 396

فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس إلا رأس ماله وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه، فإن لم يعلمه تصدق به عنه، لقول الله عز وجل:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) الآية، وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له؛ لقول الله عز وجل:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم على شيء فهو له» .

وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه وهو موضوع عن الذي هو عليه، ولا خلاف في هذا أعلمه؟ لقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3)

نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعضه فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه، وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه.

وقيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان لهما من الربا.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب (4) » ، (5) .

(1) سورة البقرة الآية 279

(2)

سورة البقرة الآية 275

(3)

سورة البقرة الآية 278

(4)

صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) .

(5)

[المقدمات] ، لابن رشد (3\ 23) .

ص: 397

2 -

قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه - فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة؛ كالقناطر والربط والمساجد، ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فليتصدق به على فقير أو فقراء.

وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا، فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه، فإن سلمه إليه صار المسلم ضامنا، بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد دينا عالما، فإن التحكيم أولى من الانفراد، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير، بل يكون حلالا طيبا، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضا فقير.

وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف، عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي، وغيرهما من أهل الورع؛ لأنه لا جوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 398

3 -

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد كلام سبق في بيان حكم الربا: وهذا المربي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره، فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل فإنه يعفى عنه، وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط؛ لقوله تعالى:{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (1) .

وقال أيضا: قول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام. وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه، باتفاق المسلمين، وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية.

والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله، ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك، وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية وعقوبة من يفعلها، ورد الناس فيها إلى رءوس أموالهم دون الزيادات فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله.

وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2){فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3){وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) .

(1) سورة البقرة الآية 278

(2)

سورة البقرة الآية 278

(3)

سورة البقرة الآية 279

(4)

سورة البقرة الآية 280

ص: 399

وسئل رحمه الله: عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث. أم لا؟

فأجاب: أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين.

وسئل: عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟

فأجاب: يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال له، وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه.

وسئل رحمه الله: عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا، وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة الله، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره، إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟

فأجاب: المال المكسوب إن كانت عين، أو منفعة مباحة في نفسها وإنما حرمت بالقصد، مثل: من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر، أو حملها- فهذا يفعله بالعوض، لكن لا يطيب له أكله. وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي، وثمن الخمر، فهنا لا يقضى له به قبل القبض، ولو أعطاه إياه لم يحكم برده، فإن هذا معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض.

ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح

ص: 400

المسلمين، فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به، ولم يردوا (1) عوض القرض كان أحسن.

وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به، فهذا يثاب على ذاك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه، فهذا لا يقبله الله- إن الله لا يقبل إلا الطيب- فهذا خبيث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مهر البغي خبيث (2) » (3) .

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله: عن الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما:

فإن هذه عامة النفع، لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير؛ إما لكونها قبضت ظلما، كالغصب وأنواعه من الجنايات، والسرقة، والغلول. وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا، أو ميسر، ولا يعلم عين المستحق لها، وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون المطلقة، والعين التي يتداعاها اثنان فيقر بها ذو اليد لأحدهما.

فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف: إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها.

(1) قوله: (ولم يردوا) كذا في الأصل، ولعل (لم) زائدة.

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1568) ، سنن الترمذي البيوع (1275) ، سنن النسائي الصيد والذبائح (4294) ، سنن أبو داود البيوع (3421) ، مسند أحمد بن حنبل (3/464) ، سنن الدارمي البيوع (2621) .

(3)

[مجموع الفتاوى](29\307- 309) .

ص: 401

ومذهب الشافعي: أنها تحفظ مطلقا، ولا تنفق بحال، فيقول فيما جهل مالكه من المغصوب، والعواري، والودائع: أنها تحفظ حتى يظهر أصحابها، كسائر الأموال الضائعة.

ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين: يوقف الأمر حتى يصطلحا.

ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه: أنه يصرف عن أصحابه في المصالح، كالصدقة على الفقراء، وفيما استبهم مالكه القرعة عند أحمد، والقسمة عند أبي حنيفة، ويتفرع على هذه القاعدة ألف من المسائل النافعة الواقعة.

وبهذا يحصل الجواب عما فرضه أبو المعالي في كتابه [الغياثي] ، وتبعه من تبعه إذا طبق الحرام الأرض ولم يبق سبيل إلى الحلال، فإنه يباح للناس قدر الحاجة من المطاعم، والملابس، والمساكن، والحاجة أوسع من الضرورة، وذكر أن ذلك يتصور إذا استولت الظلمة من الملوك على الأموال بغير حق، وبثتها في الناس وإن زمانه قريب من هذا التقدير، فكيف بما بعده من الأزمان؟ !

وهذا الذي قاله فرض محال، لا يتصور لما ذكرته من هذه (القاعدة الشرعية) فإن المحرمات قسمان:

محرم لعينه، كالنجاسات: من الدم والميتة.

ومحرم لحق الغير، وهو ما جنسه مباح من المطاعم، والمساكن، والملابس، والمراكب، والنقود، وغير ذلك.

وتحريم هذه جميعها يعود إلى الظلم، فإنها إنما تحرم لسببين:

ص: 402

(أحدهما) : قبضها بغير طيب نفس صاحبها، ولا إذن الشارع. وهذا هو الظلم المحض، كالسرقة والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم.

(الثاني) : قبضها بغير إذن الشارع، وإن أذن صاحبها، وهي العقود والقبوض المحرمة، كالربا، والميسر ونحو ذلك.

والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها، فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم، وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة:«فإن وجدت صاحبها فارددها إليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (1) » .

فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللقطة التي عرف أنها ملك لمعصوم، وقد خرجت عنه بلا رضاه، إذا لم يوجد فقد آتاها الله لمن سلطه عليها بالالتقاط الشرعي.

وكذلك اتفق المسلمون على أنه من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين، مع أنه لا بد في غالب الخلق أن يكون له عصبة بعيد، لكن جهلت عينه، ولم ترج معرفته.

فجعل كالمعدوم وهذا ظاهر.

وله دليلان قياسيان قطعيان، كما ذكرنا من السنة والإجماع، فإن ما لا يعلم بحال، أو لا يقدر عليه بحال، هو في حقنا بمنزلة المعدوم، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه.

وكما أنه لا فرق في حقنا بين فعل لم نؤمر به، وبين فعل أمرنا به جملة عند فوت العلم أو القدرة- كما في حق المجنون والعاجز- كذلك لا فرق في حقنا بين مال لا مالك له، أمرنا بإيصاله إليه، وبين ما أمرنا بإيصاله إلى

(1) سنن أبو داود اللقطة (1709) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .

ص: 403

مالكه جملة إذا فات العلم به أو القدرة عليه. والأموال كالأعمال سواء. وهذا النوع إنما حرم، لتعلق حق الغير به، فإذا كان الغير معدوما أو مجهولا بالكلية أو معجوزا عنه بالكلية سقط حق تعلقه به مطلقا، كما يسقط تعلق حقه به إذا رجي العلم به، أو القدرة عليه، إلى حين العلم والقدرة كما في اللقطة سواء، كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:«فإن جاء صاحبها وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (1) » .

فإنه لو عدم المالك انتقل الملك عنه بالاتفاق، فكذلك إذا عدم العلم به إعداما مستقرا، وإذا عجز عن الإيصال إليه إعجازا مستقرا.

فالإعدام ظاهر، والإعجاز مثل الأموال التي قبضها الملوك- كالمكوس وغيرها- من أصحابها، وقد تيقن أنه لا يمكننا إعادتها إلى أصحابها، فإنفاقها في مصالح أصحابها من الجهاد عنهم أولى من بقائها بأيدي الظلمة يأكلونها، وإذا أنفقت كانت لمن يأخذها بالحق مباحة، كما أنها على من يأكلها بالباطل محرمة.

والدليل الثاني: (القياس) - مع ما ذكرناه من السنة والإجماع- أن هذه الأموال لا تخلو؛ إما أن تحبس، وإما أن تتلف، وإما أن تنفق.

فأما إتلافها فإفساد لها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) وهو إضاعة لها والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال، وإن كان في مذهب أحمد ومالك تجويز العقوبات المالية: تارة بالأخذ، وتارة بالإتلاف، كما يقوله أحمد في متاع الغال، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر، ومحل الخمار، وغير ذلك.

فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا، كالعقوبة بإتلاف بعض

(1) سنن أبو داود اللقطة (1709) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/267) .

(2)

سورة البقرة الآية 205

ص: 404

النفوس أحيانا. وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك، كما في إتلاف النفس والطرف، وكما أن قتل النفس يحرم إلا بنفس أو فساد، كما قال تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} (1)

وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (2) فكذلك إتلاف المال، إنما يباح قصاصا، أو لإفساد مالكه، كما أبحنا من إتلاف البناء والغراس لأهل الحرب مثل ما يفعلون بنا بغير خلاف، وجوزنا لإفساد مالكه ما جوزنا.

ولهذا لم أعلم أحدا من الناس قال: إن الأموال المحترمة المجهولة المالك تتلف، وإنما يحكى ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة: أنه ألقى شيئا من ماله في البحر، أو أنه تركه في البر ونحو ذلك. فهؤلاء تجد منهم حسن القصد وصدق الورع، لا صواب العمل.

وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة، بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها، ولا القدرة على إيصالها إليه، فهذا مثل إتلافها، فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها عن انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا، بل هو أشد منه من وجهين:

(أحدهما) : أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به.

(الثاني) : أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا بد أن يستولي عليها

(1) سورة المائدة الآية 32

(2)

سورة البقرة الآية 30

ص: 405

أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق، فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة، فيكون منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا، فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما، وحبسها أشد من إتلافها- تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فتصرف في سبيل الله. والله أعلم.

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله: عن رجل له حق في بيت المال، إما لمنفعة في الجهاد أو لولايته، فأحيل ببعض حقه على بعض المظالم؟

فأجاب: لا تستخرج أنت هذا، ولا تعن على استخراجه، فإن ذلك ظلم، لكن اطلب حقك من المال المحصل عندهم، وإن كان مجموعا من هذه الجهة وغيرها؛ لأن ما اجتمع في بيت المال ولم يرد إلى أصحابه فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين أولى من صرفه فيما لا ينفع أصحابه أو فيما يضره- وقد كتبت نظير هذه المسألة في غير هذا الموضع- وأيضا فإنه يصير مختلطا، فلا يبقى محكوما بتحريمه بعينه مع كون الصرف إلى مثل هذا واجبا على المسلمين.

فإن الولاة يظلمون تارة في استخراج الأموال، وتارة في صرفها، فلا تحل إعانتهم على الظلم في الاستخراج، ولا أخذ الإنسان ما لا يستحقه.

وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد من الاستخراج والصرف فلمسائل

ص: 406

الاجتهاد، وأما ما لا يسوغ فيه اجتهاد من الأخذ والإعطاء فلا يعاونون.

لكن إذا كان المصروف إليه مستحقا بمقدار المأخوذ، جاز أخذه من كل مال يجوز صرفه كالمال المجهول مالكه إذا وجب صرفه، فإن امتنعوا من إعادته إلى مستحقه فهل الأولى إقراره بأيدي الظلمة، أو السعي في صرفه في مصالح أصحابه والمسلمين، إذا كان الساعي في ذلك ممن يكره أصل أخذه، ولم يعن على أخذه، بل سعى في منع أخذه؟ فهذه مسألة حسنة ينبغي التفطن لها، وإلا دخل الإنسان في فعل المحرمات، أو في ترك الواجبات، فإن الإعانة على الظلم من فعل المحرمات.

وإذا لم تمكن الواجبات إلا بالصرف المذكور، كان تركه من ترك الواجبات، وإذا لم يمكن إلا إقراره بيد الظالم أو صرفه في المصالح، كان النهي عن صرفه في المصالح إعانة على زيادة الظلم التي هي إقراره بيد الظالم، فكما يجب إزالة الظلم يجب تقليله عند العجز عن إزالته بالكلية، فهذا أصل عظيم، والله أعلم. وأصل آخر وهو أن الشبهات ينبغي صرفها في الأبعد عن المنفعة فالأبعد، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في كسب الحجام بأن يطعمه الرقيق، والناضح، فالأقرب ما دخل في الطعام والشراب ونحوه، ثم ما ولي الظاهر من اللباس، ثم ما ستر مع الانفصال من البناء ثم ما عرض من الركوب ونحوه. فهكذا ترتيب الانتفاع بالرزق، وكذلك أصحابنا يفعلون (1)

(1) [مجموع الفتاوى (28\ 592- 599) .

ص: 407

4 -

قال ابن القيم:

فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت: هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تتصدق به؟

قلنا: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي: أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضا صاحبه، ولا استوفى عوضه: رد عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به دينا يعلمه عليه. فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته. فإن تعذر ذلك تصدق به عنه.

فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له، وإن أبى إلا أن يأخذه من حسنات القابض استوفي منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها. كما ثبت عن الصحابة. وإن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر، أو خنزير، أو على زنى، أو فاحشة: فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم.

فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض عنه: فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسيرا لأصحاب المعاصي، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله؟ فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم، والفاحشة، والغدر، ومن أقبح القبح: أن يستوفي عوضه من المزني بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهرا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث،

ص: 408

كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة: بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه، عينا كان أو منفعة، ولا يلزم الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه.

فإن قيل: فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه، بل حجر عليه فيه الشارع، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء، أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك، ونحو ذلك. وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده.

قيل: هذا قياس فاسد؛ لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه؛ لتعلق حق غيره به، أو حق نفسه المقدمة على غيره، وأما فيما نحن فيه: فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة، فقد قبض عوضا محرما، وأقبض مالا محرما، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله، فالقابض قبض مالا محرما والدافع استوفى عوضا محرما، وقضية العدل تراد العوضين لكن قد تعذر رد أحدهما، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه، نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها: وجب رد المال في الصورتين قطعا، كما في سائر العقود

ص: 409

الباطلة، إذا لم يتصل بها القبض.

فإن قيل: وأي تأثير لهذا القبض المحرم، حتى جعل له حرمة، ومعلوم أن قبض مالا يجوز قبضه بمنزلة عدمه، إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا، فقابض المال قبضه بغير حق، فعليه أن يرده إلى دافعه؟

قيل: والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاص لله، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، ويفوت على الآخر العوض والمعوض؟

فإن قيل: هو فوت المنفعة على نفسه باختياره.

قيل: والآخر فوت العوض على نفسه باختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضح بحمد الله.

وقد توقف شيخنا في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله والصدقة به، في كتاب [اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم]، وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعا منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث

ص: 410

يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني: من صرف القوة التي عمل بها.

ثم أورد شيخنا على نفسه سؤالا، فقال: فيقال على هذا: فينبغي أن يقضى لهم بها إذا طالبوا بقبضها.

وأجاب عنه بأن قال: قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقدا لتحريمها، بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم، فلا يقضى لك بالأجرة، فإذا قبضها وقال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده، فإنه اقتضاه عن منفعة محرمة، قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت، إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا محتمل، قال: وإن كان ظاهر القياس ردها؛ لأنها مقبوضة بعقد فاسد، انتهى.

وقد نص أحمد في رواية أبي النضر فيمن حمل خمرا أو خنزيرا، أو ميتة لنصراني: أكره أكل كرائه، ولكن يقضي للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة.

فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق:

إحداها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة، قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤاجر المسلم نفسه لحمل ميتة، أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضى له بالكراء، وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين: أوجههما: أنه لا يطيب له ويتصدق به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي،

ص: 411

قال: إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره، نص عليه، وهذه كراهة تحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حاملها. إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يقضي له بالكراء، وإن كان محرما، كإجارة الحجام. انتهى. فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح.

الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة؛ وهي: أن هذه الإجارة لا تصح. وهذه طريقة القاضي في المجرد، وهي طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة، فإنه صنف المجرد قديما.

الطريقة الثالثة: تخرج هذه المسألة على روايتين:

إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة، يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة.

والثانية: لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرة، وإن عمل. وهذا على قياس قوله في الخمر:(لا يجوز إمساكها، وتجب إراقتها) قال في رواية أبي طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير: تصب الخمر، وتسرح الخنازير قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس، فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها؛ لأنه قد نص في رواية ابن منصور: أنه يكره أن يؤجر نفسه لنظارة كرم لنصراني؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضي في تعليقه، وعليها أكثر أصحابه، والمنصور عندهم الرواية المخرجة، وهي عدم الصحة، وأنه لا يستحق له أجرة، ولا يقضى له بها، وهي

ص: 412

مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، وهذا إذا استأجره لحملها إلى بيته للشرب، أو لأكل الخنزير، أو مطلقا، فأما إذا استأجره لحملها ليريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء، لئلا يتأذى بها: فإن الإجارة تجوز حينئذ، لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة: لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه: رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك. والظاهر: أنه مذهب الشافعي.

وأما أبو حنيفة فمذهبه كالرواية الأولى: أنه تصح الإجارة، ويقضى له بالأجرة، ومأخذه في ذلك: أن الحمل إن كان مطلقا لم يكن المستحق نفس حمل الخمر، فذكره وعدم ذكره سواء.

وله أن يحمل شيئا آخر غيره. كخل وزيت، وهكذا قال فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة، أو ليبيع فيها الخمر.

قال أبو بكر الرازي: لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط، وهو يحلم أنه يبيع فيه الخمر: أن الإجارة تصح؛ لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ذلك، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواء. كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك، وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا: أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل بدله عصيرا استحق الأجرة.

فهذا التقييد عندهم لغو، بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده

ص: 413

جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة، قال: لأن السلاح معمول للقتال، لا يصلح لغيره.

وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها، وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا: فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة، بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة، ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم، حرمت الإجارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن عاصر الخمر ومعتصرها (1) » والعاصر إنما يعصر عصيرا، لكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا فيعصره له: استحق اللعنة، قالوا: وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخط الله ويغضبه، ويلعن فاعله، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه، وبطلان العقد عليه، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم بتحريم الفتنة وما يترتب من العقوبة.

قال شيخنا: والأشبه طريقة ابن أبي موسى، يعني: أنه يقضى له بالأجرة، وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس، وذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن عاصر الخمر ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه (2) » فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما

(1) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .

(2)

سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .

ص: 414

حرمت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنبا عصيرا لمن يتخذه خمرا، وفات العصير والخمر في يدي المشتري: فإن مال الباع لا يذهب مجانا، بل يقضى له بعوضه.

كذلك هاهنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها - جاز.

ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه، لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة فإن نفس هذا العمل محرم، لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمرا فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.

قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة: الجعالة، يعني: الإجارة على حمل الخمر، والميتة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا، بل يقال: صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة؛ ولهذا في الشريعة نظائر، قال: ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضي له بكرائه، قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه، فإذا لم يعطوه شيئا، ووجب أن يرد عليهم ما أخذه منهم: كان ذلك أعظم

ص: 415