الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا وَقَعَ حَرْبُ الْفَسَادِ، خَرَجَ حَاتِمُ حَتَّى نَزَلَ فِي بنِي بَدْرِ بْنِ عَمْرٍو زَمَنَ احْتَرَبَتْ جَدِيلَةُ وثُعَلٌ، وَكَانَ ذَلِكَ زَمَنَ الْفَسَادِ، وَكَانَ نُزُولُ حَاتِمٍ فِي بَنِي بَدْرِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حَصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، فَأَحْسَنُوا جِوارَ حَاتِمٍ، وَأَكْرَمُوهُ، فَقَالَ حَاتِمٌ فِي ذَلِكَ:
إِنْ كُنْتِ كَارِهَةً لِعِيشَتِنَا
…
هَاتِي فَحُلِّي فِي بَنِي بَدْرِ
جَاوَرْتُهُمْ زَمَنَ الْفَسَادِ فَنِعْمَ
…
الْحَيِّ فِي الْعَوْصَاءِ وَالْيُسْرِ
فَسُقِيتُ بِالْمَاءِ النَّمِيرِ وَلَمْ
…
أَتْرُكْ أَوَاطِسَ حَمْأةِ الْجَفْرِ
وَدُعِيتُ فِي أُولَى النَّدِيِّ وَلَمْ
…
يُنْظَرْ إِلَيَّ بِأَعْيُنٍ خُزْرِ
الضَّارِبُونَ لَدَى أَعَنَّتِهِمْ
…
وَالطَّاعِنُونَ وَخَيْلُهُمْ تَجْرِي
وَالْخَالِطُونَ نَحِيتَهُمْ بِنُضَارِهِمْ
…
وَذَوِي الْغِنَى مِنْهُمْ بِذِي الْفَقْرِ
297 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعِنْدَهَا بَعْضُ نِسَائِهِ، فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ،
أَنَا لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ» .
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَدِيثُ أَبِي زَرْعٍ وَأُمِّ زَرْعٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ قَرْيَةً مِنَ قُرَى الْيَمَنِ كَانَ بِهَا بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَكَانَ مِنْهُمْ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً، وَإِنَّهُنَّ خَرَجْنَ إِلَى مَجْلِسٍ لَهُنَّ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ لِبَعْضٍ: تَعَالَيْنَ فَلْنَذْكُرْ بُعُولَتَنَا بِمَا فِيهِمْ، وَلا نَكْذِبْ، فَتَبَايَعْنَ عَلَى ذَلِكَ، فَقِيلَ لِلأُولَى: تَكَلَّمِي بَنَعْتِ زَوْجِكِ.
فَقَالَتْ: اللَّيْلُ لَيْلُ تِهَامَةَ، وَالْغَيْثُ غَيْثُ عَمَامَةٍ، لا حَرٌّ وَلا وَخَّامَةٌ.
وَقِيلَ لِلثَّانِيَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ عَمْرَةُ ابْنَةُ عَمْرٍو، فَقَالَتْ: الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ، وَالرَّيُحُ رِيحُ زَرْنَبٍ، أَغْلِبُهُ وَالنَّاسُ يَغْلِبُ، وَقِيلَ لِلثَّالِثَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ حُيَيُّ بِنْتُ كَعْبٍ، فَقَالَتْ: مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ، ذُو إِبِلٍ كَثِيرَاتِ الْمَبَارِكِ، قَرِيبَاتِ المَسارِحِ، إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ، أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ، وَقِيلَ لِلرَّابِعَةِ: تَكَلَّمِي: وَهِيَ مَهْرَدُ ابْنَةُ أَبِي هَزُومَةَ، فَقَالَتْ: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى جَبَلٍ وَعْرٍ، لا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى، وَلا سَمِينٌ فَيُنْتَقَى، وَقِيلَ لِلْخَامِسَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ كَبْشَةُ، قَالَتْ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، عَظِيمُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِي، وَقِيلَ لِلسَّادِسَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ هِنْدٌ، فَقَالَتْ: زَوْجِي كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَوَاءٌ، إِنْ حَدَّثْتُهُ مَسَكَ، وَإِنْ مَازَحْتُهُ فَلَكَ، وَالأَجْمَعَ كُلا لَكِ، وَقِيلَ لِلسَّابِعَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ بِنْتُ أَوْسِ بْنِ عَبْدٍ، فَقَالَتْ: زَوْجِي إِذَا أَكَلَ لَفَّ، وَإِذَا شَرِبَ اشْتَفَّ، وَإِذَا رَقَدَ الْتَفَّ، وَلا يُدْخِلُ الْكَفَّ فَيْعَرِفُ الْبَثَّ، وَقِيلَ لِلثَّامِنَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ حُيَيُّ بِنْتُ عَلْقَمَةَ، فَقَالَتْ: زَوْجِي إِذَا خَرَجَ أَسِدَ وَإِذَا دَخَلَ فَهِدَ، وَلا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ، وَلا يَرْفَعُ الْيَوْمَ لِغَدٍ.
وَقِيلَ لِلتَّاسِعَةِ: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: زَوْجِي لا أَذْكُرُهُ، وَلا أَبُثُّ خَبَرَهُ، أَخَافُ أنْ لا أَذَرَهُ.
إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ، وَبُجَرَهُ.
وَقِيلَ لِلْعَاشِرَةِ: تَكَلَّمِي، وَهِيَ كَبْشَةُ ابْنَةُ الأَرْقَمِ، فَقَالَتْ: نَكَحْتُ الْعَشَنَّقَ، إِنْ سَكَتُّ عَلَّقَ، وَإِنْ تَكَلَّمْتُ طَلَّقَ.
قِيلَ لِأُمِّ زَرْعٍ وَهِيَ أُمُّ زَرْعٍ بِنْتُ أُكَيْمِلِ بْنِ سَاعِدٍ: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: أَبُو زَرْعٍ وَمَا أَبُو زَرْعٍ، وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَنَقَلَنِي إِلَى أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ، مَلأَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيْهِ، وَأَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيْهِ، وَبَجَّحَ نَفْسِي فَتَبَجَّحْتُ إِلَيْهِ، وَأَنَا أَنَامُ وَأَتَصَبَّحُ، وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ، وَأَقُولُ وَلا أُقَبَّحُ، بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، وَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ، مِلْءُ إِزَارِهَا، وَصُفْرُ رِدَائِهَا، وَزَيْنُ أُمَّهَاتِهَا وَنِسَائِهَا، خَرَجَ مِنْ عِنْدِي أَبُو زَرْعٍ، وَالأَوْطَابُ تُمْخَضُ، فَإِذَا هُوَ بِأُمِّ غُلامَيْنِ كَالْفَهْدَيْنِ، تَرْمِي مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِالرُّمَّانَتَيْنِ، فَتَزَوَّجَهَا وَطَلَّقَنِي، فَاسْتَبْدَلْتُ بَعْدَهُ، وَكُلُّ بَدَلٍ أَعْوَرُ، فَتَزَوَّجْتُ شَابًّا سَرِيًّا، رَكِبَ أَعْوَجِيًّا، وَأَخَذَ خَطِّيًا، وَأَرَاحَ نَعِمًا ثَرِيًّا.
وَقَالَ: كُلِّي أُمَّ زَرْعٍ وَمِيرِي أَهْلَكِ، فَجَمَعَتُ أَوْعِيتَهُ، فَمَا تَعْدِلُ وِعَاءً وَاحِدًا مِنْ أَوْعِيَةِ أَبِي زَرْعٍ "
لَمَّا قَدِمَ مُصَعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْكُوفَةَ، دَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الأَسَدِيُّ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الأَسَدِيُّ؟ قَالَ: فَوَجِلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَأَنْتَ الَّذِي تَقُولُ:
إِلَى رَجَبٍ أَوْ غُرَّةِ الشَّهْرِ بَعْدَهُ
…
تُوَافِيكُمُ بِيضُ الْمَنَايَا وَسُودُهَا
ثَمَانُونَ أَلْفًا دِينُ عُثْمَانَ دِينُهَا
…
مُسَوَّمَةٌ جَبْرِيلُ فَيْهَا يَقُودُهَا
قَالَ: قَدْ كَانَ ذَاكَ.
قَالَ: فَإِنَّا قَدْ غَفَرْنَا لَكَ ذَنْبَكَ، وَأَمَرْنَا لَكَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
قَالَ: فَخَرَجَ، وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مُصْعَبًا إِنَّ خَيْرَهُ
…
يُنَالُ بِهِ الْجَانِي وَمَنْ لَيْسَ جَانِيًا
وَيَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي يَعْلَمُونَهُ
…
وَيُعْطِي مِنَ الْمَعْرُوفِ مَا لَيْسَ فَانِيَا
قَالَ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، اجْتَازَ بِابْنِ ظَبْيَانَ عُبْيَدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ عَمِيَ، فَقَالَ لِقَائِدِهِ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ ظَبْيَانَ، قَالَ: بَلِّغْنِيهِ.
فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ، قَالَ:
أَبَا مَطَرٍ شُلَّتْ يَمِينٌ تَقَرَّعَتْ
…
بِسَيْفِكَ رَأْسَ ابْنَ الْحَوَارِيِّ مُصْعَبِ
وَلا ظَفِرَتْ كَفَّاكَ بِالْخَيْرِ بَعْدَهُ
…
وَلا زِلْتَ تَسْعَى فِي تبَابٍ مُتَبَّبِ
قَتَلْتَ امْرَأً كَانَتْ نَوَافِلُ فَضْلِهِ
…
تَجُودُ عَلَى مَنْ بَيْنَ شَرْقٍ وَمَغْرِبِ
أَغَرٌّ كَأَنَ الْبَدْرَ سُنَّةُ وَجْهِهِ
…
إِذَا مَا بَدَا فِي الْجَحْفَلِ الْمُتَكَتِّبِ
قَالَ: قَدْ كَانَ ذَاكَ فَمَا أَفْلَحَنَا، وَلا أَنْجَحَنَا، فَهَلْ مِنْ مَخْرَجٍ؟ قَالَ: سَبَقَ السَّيْفُ الْعَذْلَ.
حَدَّثَنِي الْعُتْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " وَقَعَ مِيَرَاثٌ بَيْنَ نَاسٍ مِنَ آلِ أَبِي سُفْيَانَ وَبَنِي مَرْوَانَ، فَتَشَاحُّوا فِيهِ، وَتَضَايَقُوا فَلَمَّا قَامُوا، أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ عَلَى وَلَدِهِ، فَقَالَ: إِنَّ لِقُرَيْشٍ دَرَجًا تَزُّلُ عَنْهَا أَقْدَامُ الرِّجَالِ، وَأَفْعَالا تَخْشَعُ لَهَا رِقَابُ الأَمْوَالِ، وَأَلْسُنًا تَكَلُّ مَعَهَا الشِّفَارُ الْمَشْحُوذَةُ، وَغَايَاتٍ تَقْصُرُ عَنْهَا الْجِيَادُ الْمَنْسُوبَةُ، فَلَوْ كَانْتِ الدُّنْيَا لَهُمْ، لَضَاقَتْ عَنْ سَعَةِ أَخْلاقِهِمْ، وَلَوِ احْتَفْلَتِ الدُّنْيَا مَا تَزَيَّنَتْ إِلا بِهِمْ، ثُمَّ إِنَّ أُنَاسًا مِنْهُمْ تَخَلَّقُوا بِأَخْلاقِ الْعَوَامِّ، فَصَارَ لَهُمْ رِفْقٌ باللُّؤْمِ، وَخُرْقٌ بِالْحِرْصِ، فَلَوْ أَمَكَنَهُمْ قَاسَمُوا الطَّيْرَ أَرْزَاقَهَا، إِنْ خَافُوا مَكْرُوهًا تَعَجَّلُوا لَهُ الْغَمَّ، وَإِنْ عُجِّلَتْ لَهُمْ نِعْمَةٌ أَخَّرُوا عَلَيْهَا الشُّكْرَ، أَنْضَاءُ ذِكْرِ الْعَجْزِ، وَعَجَزَةُ حَمَلَةِ الشُّكْرِ
وحدثني أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " قَطَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ آلِ أَبِي سُفْيَانَ أَشْيَاءَ كَانَ يُجْرِيهَا عَلَيْهِمْ، لِتَبَاعُدٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْنَى حَقِّكَ مُتْعبٌ، وَتَقَصِّيِهِ فَادِحٌ، وَلَنَا مَعَ حَقِّكَ عَلَيْنَا حَقٌّ عَلَيْكَ، لِقَرَابَتِنَا مِنْكَ، وَإِكْرَامِ سَلَفِنَا لَكَ، فَانْظُرْ إِلَيْنَا بِالْعَيْنِ الَّتِي نَظَرُوا بِهَا إِلَيْكَ، وَضَعْنَا بِحَيْثُ وَضَعَتْنَا الرَّحِمُ مِنْكَ، وَزِدْنَا بِقَدْرِ مَا زَادَكَ اللَّهُ.
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَفْعَلُ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَطِيَّتِي مَنِ اسْتَعْطَاهَا، فَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ فَسَنَكِلُهُ إِلَى ذَلِكَ.
يُعَرِّضُ بِخَالِدٍ، ثُمَّ أَقْطَعَ عَمْرًا هِزَارَدرّ.
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، فَقَالَ: أَبَالْحِرْمَانِ يُهَدِّدُنِي؟ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ يَدِهِ مَانِعَةٌ، وَعَطَاؤُهُ دُوْنَهُ مَبْذُولٌ، فَأَمَّا عَمْرٌو فَقَدْ أَعْطَى مِنْ نَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ مِنَ الْحَبْسِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، صَاحِبِ الدَّوْلَةِ: مِنَ الأَسْيرِ فِي يَدَيْهِ بِلا ذَنْبٍ إِلَيْهِ، وَلا خِلافٍ عَلَيْهِ، أَمَّا بَعْدُ، فَآتَاكَ اللَّهُ حِفْظَ الْوَصِيَّةِ، وَمَنَحَكَ نَصِيحَةَ الرَّعِيَّةِ، وَأَلْهَمَكَ عَدْلَ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّكَ مُسْتَوْدَعٌ وَدَائِعَ، ومَوْلَى صَنَائِعَ، فَاحْفَظْ وَدَائِعَكَ، وَأَصْلِحْ صَنَائِعَكَ، فَإِنَّ الْوَدَائِعَ عَارِيَةٌ، وَالصَّنَائِعَ رَعِيَّةٌ، فَلا النِّعَمُ عَلَيْنَا وَعَلَيْكَ بِمْنَذْورٍ نَدَاهَا، وَلا مَبْلُوغٍ مَدَاهَا، فَنَبِّهْ لِلْتَفَكُّرِ قَلْبَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ رَبَّكَ، وَأَعْطِ مِنْ نَفْسِكَ مَنْ هُوَ تَحْتَكَ مِنَ الْعَفْوُ مَا تُحِبُّ أنْ يُعْطِيَكَ مَنْ هُوَ فَوْقَكَ مِنَ الْعَدْلِ وِالرَّأْفَةِ وَالأَمْنِ مِنَ الْمَخَافَةِ، فَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِأَنْ فَوَّضَ أَمُورَنَا إِلَيْكَ، فَاعْرِفْ لَنَا حَقَّنَا، فَإِنَّ عَلَيْنَا مِنْ نَقْلِ الْحَدِيدِ وَثِقَلِهِ أَذًى شَدِيدًا، مَعَ مُعَالَجَةِ الأَغْلالِ، وَقِلَّةِ رَحْمَةِ الْعُمَّالِ، الَّذِينَ تَسْهِيلُهُمُ الْغِلْظَةُ، وَتَيْسِيرُهُمُ الْفَظَاظَةُ، وَإِيرَادُهُمْ عَلَيْنَا الْغُمُومُ، وَتَوْجِيهُهِمْ إِلَيْنَا الْهُمُومُ، وَزِيَادَتُهُمُ الْحِرَاسَةُ، وِبَشارَتُهُمُ الْإِيَاسَةُ، فَإِلَيْكَ نُرْفَعُ كُرْبَةَ الشَّكْوَى، وَنَشْكُو شِدَّةَ الْبَلْوَى، وَمَتَى تَمِلْ إِلَيْنَا طَرْفًا، وَتَرِدْنَا مِنْكَ عَطْفًا، تَجِدْ عِنْدَنَا نُصْحًا، وَوُدًّا صَرِيحًا، لا يُضَيْعُ مِثْلُكَ مِثْلَهُ، وَلا يَنْفِي مِثْلُكَ أَهْلَهُ، فَارْعَ حُرْمَةَ مَنْ بِحُرْمَتِهِ أَدْرَكْتَ، وَاعْرِفْ حُجَّةَ مَنِ بِحُجَّتِهِ فَلَجْتَ، فَإِنَّ النَّاسَ مَنِ حَوَضِكِ رِوَاءٌ، وَنَحْنُ مِنْهُ ظِمَاءٌ، يَمْشُونَ فِي الأَبْرَادِ وَنَحْجِلُ فِي الأَقْيَادِ، بَعْدَ الْخَيْرِ وَالسَّعَةِ وَالْخَفْضِ وَالدَّعَةِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلانُ، صَرِيخُ الأَخْيَارِ، وَمُنْجِي الأَبْرَارِ، النَّاسُ فِي دَوْلَتِنَا فِي رَخَاءٍ، وَنْحَنُ مِنْهَا فِي بَلاءٍ، حَيْثُ أَمِنَ الْخَائِفُونَ، وَرَجَعَ الْهَارِبُونَ، رَزَقَنَا اللَّهُ مِنْكَ التَّحَنُّنَ، وَظَاهَرَ عَلَيْنَا مِنْكَ التَّمَنُّنَ، فَإِنَّكَ أَمِينٌ مُسْتَوْدَعٌ، وَرَائِدٌ مُصْطَنَعٌ.
فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ خَافَهُ فَقَتَلَهُ.
حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي، مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفَسَهِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا ظَهَرَتِ الْمُسَوِّدَةُ، فَقَالَ لِي: يَا عَمْرُو أقُتِلَ مَرْوَانُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: يَا عَمْرُو إِنَّكَ خَلَفٌ فَلا تَخْلِفْ، إِنَّهُ قَدْ أَتَانِي مَا لا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أُخِرْتُ عَنْهُ، وَأُخِرْتَ أَنْتَ لَمَا أَرَاكَ سَتَتَمَنَّى الْمَوْتَ مَعَهُ، وَتَخَافُ الْهَلاكَ مِنْهُ، وَقَدْ وَقَعَتَ فِي بَحْرٍ عَمِيقٍ، شَدِيدِ الْوُصُولِ إِلَى السَّاحِلِ، وَالسَاحِلُ وَعْرٌ مَهُولٌ، وَمَنْ وَقَعَ بَيْنَ الْبَحْرِ وَالْوَعْرِ كَانَتْ رَاحَتُهُ أَنْ يَمُوتَ، وَهَذِهْ أَيَّامُ حَاجَتِكَ إِلَى نَفْسِكَ، وَحَاجَةُ حُرَمِكَ إِلَيْكَ، فَافْدِ حُرَمَكَ بِنَفْسِكَ، وَافْدِ نَفْسَكَ بِمَالِكَ، وَعِشْ حُرًّا عَنْ مِلْكِ الطَّمَعِ، وَإِنْ رَدَدْتَ الْجُوعَ بِالْمَاءِ.
قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا هَلَكَ أَبِي، وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ مُنْتَشِرُ الضِّيَاعِ، فَكُنْتُ لا أَنْزِلُ فِي قَبِيلَةٍ مِنَ الْقَبَائِلِ إِلا شُهِرَ أَمْرِي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ عَزَمْتُ عَلَى لِقَاءِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ طَارِقٌ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ: فَوافَيْتُ عَمْرًا عَلَى بَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ يُرِيدُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ سَرَاوِيَلُ يُمْنَةٍ، وَطَيْلَسَانُ أَبْيَضُ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ مُتَنَكِّرًا، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ، قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ مَا تَصَنْعُ الْحَدَاثةُ بِصَاحِبِهَا! أَهَذِهِ الثِّيَابُ مِنْ لِبَاسِ هَذَا الْيَوْمِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا طَارُقُ مَا تَرَكْتُ فِي مَنْزِلِي شَيْئًا إِلا وَهُوَ أَشْهَرُ مِمَا تَرَى.
قَالَ طَارِقٌ: فَأَخَذْتُ طَيْلَسَانِهِ وَأَعْطَيِتُهُ طَيْلَسَانِي وَشَمَّرْتُ سَرَاوِيلَهُ حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ كَعْبَهُ، ثُمَّ دَخَلَ وَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَنِي بِمَا جَرَى بَيْنَكُمَا.
قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ لا يَعْرِفُنِي وَلا أَعْرِفُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْبَلاءَ لَفَظَنِي إِلَيْكَ وَفَضْلُكَ دَلَّنِي عَلَيْكَ، وَأَقَامَنِي رَجَاؤُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِمَّا أَنْ قَبِلْتَنِي غَانِمًا، وَإِمَّا رَدَدْتَنِي سَالِمًا.
قَالَ: ومَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ.
قَالَ: اجْلِسْ، فَتَكَلَّمْ آمِنًا غَانِمًا، مَرْحَبًا بِكَ، فَمَا حَاجَتُكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ الْحُرَمَ اللاتِي أَنْتَ أَحَقُّ بِهِنَّ مِنَّا، وَأَوْلَى النَّاسِ بِهِنِّ، بَعْدَنا قَدْ خِفْنَ لِخَوْفِنَا، ومَنْ خَافَ خِيفَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَوَضَعَ وِسَادَتَهُ، وَمَا أَجَابَنِي إِلا بِدُمُوعِهِ عَلَى خَدَّيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: تُصَانُ وَاللَّهِ حُرَمُكَ، ويُحْقَنُ دَمُكَ، فَكُنْ آمِنًا كَمُسْتَخْفٍ، وَمُسْتَخْفِيًا كَآمِنٍ، فَلَوْ أَمْكَنَنِي ذَلِكَ فِي سَائِرِ قَوْمِكَ فَعَلْتُ.
قَالَ طَارِقٌ: فَذَهَبْتُ لِأُلْقِيَ عَلَيْهِ طَيْلَسَانَهُ، وَآخُذَ طَيْلَسَانِي، فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ ثِيَابَنَا إِذَا زَايَلَتْنَا لَمْ تَعُدْ إِلَيْنَا.
ثُمَّ كَتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ قَدْ وَفَدَ إِلَيَّ وَافِدٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنَّا إِنَّمَا قَاتَلْنَاهُمْ عَلَى عُقُوقِهِمْ لا عَلَى أَرْحَامِهِمْ، ثُمَّ يَجْمَعُنَا وَإِيَّاهُمْ عَبْدُ مَنَافٍ، فَحَقُّ الرَّحِمِ أَنْ تُبَلَّ وَلا تُوبَسَ، وَتُوصَلَ وَلا تُقْطَعَ، فَإِنْ رأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ يَهَبَهُمْ لِي مُمْتَنًّا، وَيَجْعَلَ ذَلِكَ كِتَابًا عَامًّا فِي بُلْدَانِ خِلافَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ، عِنْدَنَا فَعَلَ.
قَالَ: فَأَجَابَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى مَا سَأَلَ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ أَمَانِ بَنِي أُمَيَّةَ.
لَمَّا نَزَلَ بِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَوْتُ نَظَرَ إِلَى وَلَدِهِ يَبْكُونَ حَوْلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: جَادَ لَكَمْ هِشَامٌ بِالدُّنْيَا، وَجُدْتُمْ لَهُ بِالْبُكَاءِ، وَتَرَكَ لَكُمْ مَا جَمَعَ، وَتَرَكْتُمْ عَلَيْهِ مَا اكْتَسَبَ، مَا أَعْظَمَ مُنْقَلَبَ هِشَامٍ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ.
وَقَفَتْ عَائِشَةُ عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَتَمَثَّلَتْ:
«وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً
…
مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا
…
لِطُولِ اجْتَمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا»
وَمَرَّ عَلَيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَبْرِ طَلْحَةَ، فَتَمَثَّلَ:
وَمَا تَدْرِي وَإِنْ أَزْمَعْتَ أَمْرًا
…
بِأَيِّ الأَرْضِ يُدْرِكُكُ الْمَقِيلُ
وَتَمَثَّلَ:
فَتًى كَانَ يُدْنِيهِ الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ
…
إِذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ "
وَقَفَتِ امْرَأَةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى قَبْرِهِ وَهِيَ أُمُّ كَثِيرٍ الْحَارِثِيَّةُ، فَقَالَتْ:
الْجَلُّ يَحْمِلُهُ النَّفَرْ
…
قَرْمٌ كَرِيمُ الْمُعْتَصَرْ
أَبْكِي وَأَنْدُبُ صَاحِبًا
…
لا عَيْنَ مِنْهُ وَلا أَثَرْ
قَدْ خِفْتُ بَعْدَكَ أَنْ أُضَامَ
…
وَأَنْ أُسَاءَ وَلا أَسَرْ
أَوْ أَنْ أُسَامَ بِخِطَّتِي
…
ضَيْمًا فَآخُذُ أَوْ أَذَرْ
لِلَّهِ دَرُّكَ قَدْ غَنِيتَ
…
وَأَنْتَ بَاقِعَةُ الْبَشَرْ
وَوَقَفَ عَلَيْهِ مَصْقَلَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيُّ، فَقَالَ:
إِنَّ تَحْتَ الأَحْجَارِ حَزْمًا وَعَزْمًا
…
وَخَصِيمًا أَلَدَّ ذَا مِغْلاقِ
حَيَّةٌ فِي الْوَجَارِ أَرْبَدُ لا يَنْفَعُ
…
مِنْهُ السَّلِيمَ نَفْثُ الرَّاقِي
ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ شَدِيدَ الْعَدَاوةِ لِمَنْ عَادَيْتَ، كَرِيمَ الأُخُوَّةِ لِمَنْ آخَيْتَ.
وَوَقَفَ الْحَجَّاجُ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ أَبَانٍ فَتَمَثَّلَ قَوْلَ زِيَادٍ الأَعْجَمِ:
الْآنَ لَمَّا كُنْتَ أَكْمَلَ مَنْ مَشَى
…
وَافْتَرَّ نَابُكَ عَنْ شَبَاةِ الْقَارِحِ
وَتَكَامَلَتْ فِيكَ الْمُرُوءَةُ كُلُّهَا
…
وَأَعَنْتَ ذَلِكَ بِالْفِعَالِ الصَّالِحِ
وَوَقَفَتْ جَارِيَةٌ لِلْحَجَّاجِ عَلَى قَبْرِهِ، فَقَالَتْ:
الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَغْبِطُنَا
…
وَالْيَوْمَ نَتَّبِعُ مَنْ كَانُوا لَنَا تَبَعَا
حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ: " ثَلاثَةٌ لَوْ أَدْرَكْتُهُمْ لَقَتَلْتُهُمْ: مُقَاتِلُ بْنُ مَسْمَعٍ، فَإِنَّهُ أُعْطِيَ مَالا كَثِيرًا بِفَارِسَ، فَأَجْفَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] .
تَأَوَّلَ الْفَاسِقُ كِتَابَ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وُعَبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ التَّيْمِيُّ، فَإِنَّهُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ أَعْجَبَ قَوْمَهُ، فَقَالُوا: أَكْثَرَ اللَّهُ فَيْنَا مِثْلَكَ.
قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتُمْ رَبَّكُمْ شَطَطًا.
وَأَبُو سَمَّالٍ الأَسْدِيِّ، فَإِنَّ نَاقَتَهُ شَرَدَتْ، فَقَالَ: لَئِنْ لَمْ يَرْدُدْهَا رَبُّكُمْ لا أُصَلِّي صَلاةً، فَتَعَلَّقَ خِطَامُهَا بِعَرْفَجَةٍ، فَجَاءَ حَتَّى أَخَذَهَا، فَقَالَ: عَلِمَ رَبُّكُمْ أَنَّهَا مِنِّي صِرِّي
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَسَنٍ مَوْلَى الرَّبِيعِ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: " قَدِمَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَصَلَّى عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ وَثَبَ وَرَكِبَ الْوَلِيدُ، فَمَشَى الْحَجَّاجُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ وَتِرْسٌ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: ارْكَبْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي أَسْتَكْثِرُ مِنَ الْجِهَادِ، فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ الأَشْعَثِ شَغَلانِي عَنِ الْجِهَادِ، زَمَنًا طَوِيلا، فَعَزَمَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ فَرَكِبَ، وَدَخَلَ مَعَ الْوَلِيدِ فَبَيْنَا هُوَ يَتَحَدَّثُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَعَلْتُ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَفَعَلْتُ، أَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ فَسَارَّتِ الْوَلِيدَ، ثُمَّ انْصَرَفَتْ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَتَدْرِي مَا قَالَتِ الْجَارِيَةُ؟ قَالَ: لا.
قَالَ: أَرْسَلَتْ إِلَيَّ أُمُّ الْبَنِينِ بِنْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ: إِنَّ مُجَالَسَتَكَ هَذَا الأَعْرَابِيَّ، وَهُوَ فِي سِلاحِهَ، وَأَنْتَ فِي غِلالَةٍ غَرَرٌ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهَا: إِنَّهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، فَرَاعَهَا ذَلِكَ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لأَنْ يَخْلُوَ بِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ بِكَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَقَدْ قَتَلَ أَحِبَّاءَ اللَّهِ، وَأَهْلَ طَاعَتِهِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمَرْأةُ رَيْحَانَةٌ، وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ، لا تُطْلِعْهُنَّ عَلَى أَمْرِكَ، وَلا تُطْمِعْهُنَّ فِي سِرِّكَ، وَلا تَسْتَعْمِلْهُنَّ بِأَكْثَرَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، وَلا تَكُونَنَّ لِمُجَالَسَتِهِنَّ بِلَزُومٍ، فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُنَّ صَغَارٌ وَذِلَّةٌ.
ثُمَّ نَهَضَ وَخَرَجَ، فَدَخَلَ الْوَلِيدُ عَلَى أُمِّ الْبَنِينَ، فَأَخْبَرَهَا بِمَقَالَتِهِ.
فَقَالَتْ: فِإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَأْمُرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيَّ، فَسَيَبْلُغُكَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَغَدَا الْحَجَّاجُ عَلَى الْوَلِيدِ، فَقَالَ: ائْتِ أُمَّ الْبَنِينِ.
قَالَ: اعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: لَتَفْعَلَنَّ.
فَأَتَاهَا فَحَجَبَتْهُ طَوِيلا.
ثُمَّ قَالَتْ: يَا حَجَّاجُ، أَأَنْتَ الْمُمْتَنُّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ الأَشْعَثِ؟ وَكُنْتَ الْمَوْلَى غَيْرَ الْمُسْتَعْلَى، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّكَ أَهْوَنُ خَلْقِهِ عَلَيْهِ، مَا ابْتَلاكَ بِرَمْي الْكَعْبَةِ، وَبِقَتْلِ ابْنِ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، ابْنِ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا ابْنُ الأَشْعَثِ فَلَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَعْلَى عَلَيْكَ حَتَّى عَجْعَجْتَ، وَوَالَى عَلَيْكَ الْهَزَائِمَ، حَتَّى غَوَّثْتَ.