الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
59 -
حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ دَأْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَتْ: " كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ عَائِشَةَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَإِنِّي لَعِنْدَهَا إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مُعَتَّمٌ، عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، فَقَالَ:
قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام، فَقَالَتْ عَائِشَةُ:
فَإِنْ تَكُ نَاعِيًا فَلَقَدْ نَعَاهُ
…
نَعِيٌّ لَيْسَ فِي فِيهِ
التُّرَابُ
ثُمَّ قَالَتْ: مَنْ قَتَلَهُ؟ قَالُوا: رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ.
قَالَتْ: رُبَّ قَتِيلِ اللَّهِ بِيَدَيْ رَجُلٍ مِنْ مُرَادٍ.
قَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَقُولِينَ مِثْلَ هَذَا لَعَلِيٍّ فِي سَابِقَتِهِ وَفَضْلِهِ؟ فَضَحِكَتْ، وَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ إِذَا نَسَيْتُ فَذَكِّرِينِي "
حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: رَفَعْتُ رُقْعَةً إِلَى الْمَأْمُونِ أَشْكُو غَلَبَةَ الدَّيْنِ.
فَوَقَّعَ بِخَطِّهِ فِيهَا.
" فِيكَ خِلَّتَانِ: السَّخَاءُ وَالْحَيَاءُ، فَأَمَّا السَّخَاءُ، فَهُوَ الَّذِي أَطْلَقَ يَدَيْكَ بِمَا مَلَكْتَ، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ دَيْنِكَ، وَقَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِضِعْفِ مَا ذَكَرْتَ، فَإِنْ كُنَّا قَصَّرْنَا عَنْ بُلُوغِ حَاجَتِكَ فَجِنَايَتُكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَإِنْ كُنَّا بَلَغْنَا بُغْيَتَكَ، فَزِدْ فِي بَسْطِ يَدِكَ، فَإِنَّ خَزَائِنَ اللَّهِ مَفْتُوحَةٌ، وَيَدَهُ بِالْخَيْرِ مَبْسُوطَةٌ
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاؤُدَ، قَالَ: قَالَ لِي الْمَأْمُونُ: " لا يَسْتَطِيعُ النَّاسُ أَنْ يُنْصِفُوا الْملُوكَ مِنْ وُزَرَائِهِمْ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْظُرُوا بِالْعَدْلِ بَيْنَ مُلُوكِهِمْ وَحُمَاتِهِمْ وَكُفَاتِهِمْ، وَلا بَيْنَ صَنَائِعَهُمْ وَبِطَانَتِهِمْ، وَذَاكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ ظَاهَرَ حُرْمَةٍ وَخِدْمَةٍ وَاجْتِهَادٍ وَنَصِيحَةٍ، ثُمَّ يَرَوْنَ إِيقَاعَ الْمُلُوكِ بِهِمْ مَعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ ظَاهِرًا، لا يَزَالُ الرَّجُلُ، يَقُولُ: مَا أُوقِعَ بِهِمْ إِلا رَغْبَةً فِي أَمْوَالِهِمْ أَوْ رَغْبَةً فِي بَعْضِ مَا لا تَجُودُ النَّفْسُ بِهِ.
وَلَعَلَّ الْحَسَدَ وَالْمَلالَةَ وَشَهْوَةَ الِاسْتِبْدَالِ، اشْتَرَكَتْ فِي ذَاكَ مِنْهُ، وَهُنَاكَ جِنَايَاتٌ فِي صُلْبِ الْمُلْكِ، وَفِي بَعْضِ الْحُرَمِ فَلا يَسْتَطِيعُ الْمَلِكُ أَنْ يَكْشِفَ لِلْعَامَّةِ مَوْضِعَ الْعَوْرَةِ فِي الْمُلْكِ أنْ يَحْتَجَّ لِتِلْكَ الْعُقُوبَةِ بِمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الذَّنْبَ، وَلَمَا يَسْتَطِيعُ الْمَلِكُ تَرْكَ عُقُوبَةٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى عَمَلِهِ، بِأَنَّ عُذْرَهُ غَيْرُ مَبْسُوطٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَلا مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الْخَاصَّةِ
سَأَلْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ عَنِ الْمَأْمُونِ: أَكَانَ حَلِيمًا؟ فَقَالَ: " لا وَاللَّهِ مَا حدَثْتُ عَنْ أَحْلَمَ مِنْهُ، لا مَلِكٌ وَلا سُوقَةٌ، وَلا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ قَطُّ.
ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنِي، قَالَ: بِتُّ عِنْدَهُ لَيْلَةً فَعَطِشَ، فَظَنَّ أَنِّي نَائِمٌ، وَأَنَا مُنْتَبِهٌ أَرَى كَلَّ مَا يَصْنَعُ، فَكَرِهَ أَنْ يَدْعُوَ الْغُلامَ فَانْتَبَهَ، فَمَضَى إِلَى بَرَّادَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، فَأَخَذَ كُوزًا مِنْهَا فَشَرِبَ مَاءَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُسْرِعًا فَلَمَّا دَنَا مِنْ فِرَاشِي خَطَا خُطَى لِصٍّ خَائِفٍ لَكِي لا أَنْتَبِهَ، ثُمَّ رَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، وَبِتُّ عِنْدَهُ لَيْلَةً بَعْدَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ بِالشَّامِ، وَمَا مَعِي أَحَدٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أُبَائِقُهُ وَأَتَفَقَّدُ مَا يَصْنَعُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنِّي قَدْ نِمْتُ.
قَالَ: فَعَرَضَ لَهُ سُعَالٌ فَرَأَيْتُهُ وَقَدْ أَخَذَ كُمَّ قَمِيصِهِ فَجَمَّهُ، ثُمَّ حَشَا بِهِ فَمَهُ، فَرَدَّ فِيهِ سُعَالَهُ لِئَلا يُنَبِّهَنِي.
قَالَ: ثُمَّ جَعَلَ يَرْعَى حَرَكَتِي وَقَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَهُمَّ بِالنُّهُوضِ لِلْصَلاةِ، وَأَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ أَسْفَرَ شَدِيدًا، فَلَمَّا عَلِمْتُ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ ضَاقَ عَلَيْهِ، تَحَرَّكْتُ.
فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبرُ، يَا غُلامُ، نَبِّهْ أَبَا مُحَمَّدٍ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَ مَبِيتَكَ؟ قُلْتُ: بِخَيرٍ يَا سَيِّدِي.
قَالَ: إِنَّ الشِّيعَةَ أَشَدُّ رِعَايَةً لِأَوْقَاتِ الصَّلاةِ مِنَ الْمُرْجِئَةِ.
مُذْ كَمْ تَرَانِي أَتَقَلَّبُ وَأَتَحَرَّكُ لِلْصَلاةِ فَيَمْنَعُنِي مِنَ النُّهُوضِ نَحْوَهَا نَوْمُكَ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُوْقِظَكَ وَفِي عَيْنِكَ بَاقٍ مِنْ سِنَتِكَ فَأَقْطَعَهَا عَنْكَ.
فَقُلْتُ: لِذَلِكَ جَعَلَكُمُ اللَّهُ أَرْبَابًا وَجَعَلَنَا لَكُمْ عَبِيدًا، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ أَخْلاقُكُمْ.
ثُمَّ نَهَضَ لِلَصَّلاةِ.
وَقَالَ لِي أَيْضَا: وَمِنْ كَرِيمِ أَخْلاقِهِ، أَنِّي كُنْتُ أُمَاشِيهِ فِي بُسْتَانِ مُوسَى، وَالشَّمْسُ عَلَى يَسَارِي، وَالْمَأْمُونُ فِي الظِّلِّ، وَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَاتِقِي، وَنَحْنُ نَتَحَدَّثُ إِذْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَصَدَهُ، قَالَ لِي: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّكَ جِئْتَ وَعَلَى يَسَارِكَ الشَّمْسُ، وَقَدْ أَخَذَتْ مِنْكَ، فَكُنْ أَنْتَ فِي مُنْصَرَفِنَا حَيْثُ كُنْتُ، وَأَكُونُ حَيْثُ كُنْتَ.
قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ أَقِيَكَ بِنَفْسِي مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ لَفَعَلْتُ فِيكَ، لا أَصْبِرُ عَلَى أَذَى الشَّمْسِ لَحْظَةً.
قَالَ: وَاللَّهِ لا بُدَّ مِنْهَا، آخُذُ مِنْهَا كَمَا أَخَذتْ مِنْكَ.
قَالَ: فَصَارَ الْمَأْمُونُ فِي مَوْضِعِي، وَصِرْتُ فِي مَوْضِعِهِ، وَتَمَاشَيْنَا، وَأَخَذَ بِيَدِي فَوَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ الْعَدْلِ أَنْ يَعْدِلَ الرَّجُلُ عَلَى بِطَانَتِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ ذَاكَ إِلَى الطَّبَقَةِ السُّفْلَى
حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " قَالَ الْمَأْمُونُ يومَ خَمِيسٍ، وَنَحْنُ حُضُورٌ مَعَ النَّاسِ فِي الدَّارِ، لَعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ: عَلَيَّ بِإِسْمَاعِيلَ.
قَالَ: فَخَرَجَ، فَإِذَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَرَادَ الْمَأْمُونُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ مُوسَى، فَلَمَّا بَصُرَ بَهِ مِنْ بَعِيدٍ، وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ بِهِ بُغْضًا، رَفَعَ يَدَيْهِ مَادًّا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بَدِّلْنِي بِعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ مُطِيعًا نَاصِحًا، فَإِنَّهُ بِصَدَاقَتِهِ لِهَذَا آثَرَ هَوَاهُ عَلَى هَوَايَ، فَلَمَّا دَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، فَسَلَّمَ فَرَدَّ عليه السلام، ثُمَّ دَنَا فَقَبَّلَ يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَاتِ حَوائِجَكَ.
قَالَ: ضَيْعَتِي بِالْمُغِيثَةِ غُصِبْتُهَا وَقُهِرْتُ عَلَيْهَا.
قَالَ: نَأْمُرُ بِرَدِّهَا عَلَيْكَ، قَالَ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: دَينٌ كَثِيرٌ عَلَيَّ فِي جَفْوَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِي.
قَالَ: نَقْضِي دَيْنَكَ، ثُمَّ قَالَ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: تَأْذَنُ لِي فِي الْحَجِّ.
قَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ.
ثُمَّ قَالَ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: وَقْفُ أَبِي كُنْتُ إِلَيْهِ، فَأُخْرِجَ مِنْ يَدِي وَصَارَ إِلَى قَثَمٍ وَالْقَاسِمِ، ابْنَيْ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: فَتُرِيدُ مَاذَا؟ ، قَالَ: يُرَدُّ إِلَيَّ.
قَالَ: أَمَّا مَا كَانَ يُمْكِنُنَا فِي أَمْرِكَ فَقَدْ جُدْنَا لَكَ بِهِ.
وَأَمَّا وَقْفُ أَبِيكَ فَذَاكَ إِلَى وَرَثَتِهِ وَمَوَالِيهِ، فَإِنْ رَضُوا بِكَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ وَقَيَّمًا لَهُمْ رَدَدْنَاهُ، وِإِلا أَقْرَرْنَاهُ فِي يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ.
ثُمَّ خَرَجَ.
فَقَالَ الْمَأْمُونُ لِعَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ: مَا لِي وَلَكَ عَافَاكَ اللَّهُ، مَتَى رَأَيْتَنِي نَشَطْتُ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعُنِيتُ بِهِ، وَهُوَ صَاحِبِي بِالأَمْسِ بِالْبَصْرَةِ.
فَقَالَ: ذَهَبَ فِكْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى.
قَالَ: صَدَقْتَ، ذَهَبَ عَنْ فِكْرِكَ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ حِفْظُهُ، وَحَفِظَ فِكْرُكَ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ لا يَخْطُرَ بِهِ، أَمَا إِذَ أَخْطَأْتَ فَلا تُعْلِمْ إِسْمَاعِيلَ مَا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي أَمْرِهِ.
فَظَنَّ عَلِيٌّ أَنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ مُوسَى، فَأَخْبَرَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ بِالْقِصَّةِ حَرْفًا حَرْفًا، فَأَذَاعَهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَبَلَغَ الْخَبَرَ الْمَأْمُونُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي هَذِهِ الأَخْلاقَ الَّتِي أَصْبَحْتُ أَحْتَمِلُ بِهَا عَلِيَّ بْنَ صَالِحٍ، وَابْنَ عِمْرَانَ، وَابْنَ الطُّوسِيِّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمَنْصُورَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَزَعَامِشَ
سَمِعْتُ أَبَا عَبَّادٍ، ذُكِرَ الْمَأْمُونُ، فَقَالَ: " وَاللَّهِ أَحَدُ مُلُوكِ الأَرْضِ، الَّذِي يَجِبُ لَهُ هَذَا الِاسْمُ بِالْحَقِيقَةِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ، قَالَ: كَانَ يَلْزَمُ بِابِي رَجُلٌ لا أَعْرِفُهُ، فَلَمَّا طَالَتْ مُلازَمَتُهُ قُلْتُ لَهُ بِسُوءِ لِقَائِي: يَا هَذَا مَا لُزُومُكَ بَابِي؟ ، قَالَ: طَالِبُ حَاجَةٍ.
قُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تُوصِلْنِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ تُوصِلْ لِي رُقْعَةً.
قُلْتُ: مَا يُمْكِنُنِي فِي أَمْرِكَ مَا تُرِيدُ.
فَانْصَرَفَ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيئًا، وَجَعَلَ يَلْزَمُ الْبَابَ، فَمَا يُفَارِقُهُ، فَإِذَا انْصَرَفْتُ فَرَآنِي نَشِيطًا تَصَدَّى لِي فَأَرَانِي وَجْهَهُ فَقَطْ.
وَإِنْ رَآنِي بِغَيْرِ تِلْكَ الْحالِ، كَرَّ نَاحِيَةً.
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ حَالَهُ، صَابِرًا عَلَيْهَا حَتَّى رَفَقْتُ عَلَيْهِ.
فَقُلْتُ لَهُ يومًا وَقَدِ انْصَرَفْتُ مِنَ الدَّارِ: مَكَانَكَ.
فَأَقَامَ.
فَقُلْتُ لِلْغُلامِ: أَدْخِلْ هَذَا الرَّجُلَ.
فَأَدْخَلَهُ.
فَقُلْتُ: يَا هَذَا إِنِّي أَرَى لَكَ مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، وَأَظُنُّكَ تَرْجِعُ إِلَى مَحْتِدٍ كَرِيمٍ، وَأَدَبٍ بَارِعٍ.
فَقَالَ: أَمَّا الْمَحْتِدُّ فَرَجُلٌ مِنَ الأَعَاجِمِ، وَأَمَّا الأَدَبُ فَأَرْجُو أَنْ تَجِدَهُ إِنْ طَلَبْتَهُ.
قُلْتُ: أَمَا إِنَّ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: وَمَا هُوَ أَدَامَ اللَّهُ بَقَاءَكَ؟ قُلْتُ: صَبْرُكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ الْجَمِيلةِ، قَالَ: ذَاكَ أَقَلُّ أَحْوَالِي أَعَزَّكَ اللَّهُ، قَالَ: فَدَخَلَتْنِي لَهُ جَلالَةٌ.
فَقُلْتُ: حَاجَتُكَ؟ قَالَ: ضَيْعَةٌ صَارَتْ لَأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَّدَهُ اللَّهُ كَانَتْ لِسَعْدِ بْنِ جَابِرٍ وَكُنَّا شُرَكَاءَ فِيهَا، فَجَاءَ وَكِيلُهُ فَضَرَبَ مَنَارَةً عَلَى حُدُودِنَا وَحُدُودِهِ، وَهَذِهِ ضَيْعَةٌ، كُنَّا نَعُودُ بِفَضْلَهَا عَلَى الْغَرِيبِ، الصَّدِيقِ وَالْجَارِ وَالأَخِ، فَقُلْتُ: فَمَعَكَ رُقْعَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَأَخْرَجَ رُقْعَةً مِنْ خُفِّهِ فِيهَا مَظْلَمَتُهُ، فَلَمَّا قَرَأْتُهَا وَوَضَعْتُهَا قَامَ فَانْصَرَفَ، فَخَفَّ عَلَى قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ نَفْعَهُ، فَأَدْخَلْتُهُ عَلَى الْمَأْمُونِ مَعَ جُمَيْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَوَائِجِ.
فَاتَّفَقَ أَنْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ.
فَاسْتَنْطَقَ رَجُلا فَصِيحًا حَسَنَ الْعِبَارَةِ لَسِنًا.
فَقَالَ: تَكَلَّمْ بِحَاجَتِكَ، فَتَكَلَّمَ، فَقَالَ: يَا ثَابِتُ، وَقِّعْ بِقَضَائِهَا.
ثُمَّ قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْضِي غَلَبَنِي عَلَيْهَا ابْنُ الْبَخْتَكَانِ بِالأَهْوازِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، فَأَخْرَجَهَا مِنْ يَدِي وَدَعَانِي إِلَى أَخْذِ بَعْضِ ثَمَنِهَا.
فَقَالَ: يَا ثَابِتُ، وَقِّعْ لَهُ بِالْكِتَابِ إِلَى ابْنِ الْبَخْتَكَانِ وَإِلَى الْقَاضِي هُنَاكَ بِأَمْرِهِ بِإِنْصَافِهِ، وَإِخَرِاجِ ابْنِ الْبَخْتَكَانِ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ أَخْذِهَا مِنَ الرَّجُلِ بِالْحِكْمَةِ، قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَطِيعَةٌ كَانَ الْمَنْصُورُ أَقْطَعَهَا أَبِي، فَأُخِذَتْ مِنْ أَيْدِينَا بِسَبِبِ البَّرَامِكَةِ.
قَالَ: وَقِّعْ، تُرَدُّ عَلَيْهِ هَذِهِ مَوْفُورَةً، وَيُنْظَرُ مَا أَخْرَجَتْ مُنْذُ قُبِضَتْ عَنْهُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، فَلْيُدْفَعْ إِلَيهمِ حَاصِلُ غَلاتِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَيَّ دَيْنٌ، قَدْ أَبْهَظَنِي وَأَذَلَّنِي ذِكْرُهُ، وَقَوِيَ عَلَيَّ أَرْبَابُهُ.
قَالَ: وَكَمْ دَيْنُكَ؟ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلافِ دِينَارٍ.
قَالَ: وَقِّعْ يَا ثَابِتُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ.
قَالَ: فَسَألَ سَبْعَ حَوَائِجَ، قِيمَتُهَا أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَوَاللَّهِ إِنْ زَالتَ قَدَمُهُ عَنْ مَقَرِّهَا حَتَّى قُضِيَتْ، فَامْتَلَأْتُ غَيْظًا، وَفُرْتُ فَوْرَ الْمِرْجَلِ.
حَتَّى لَوْ أُمْكِنْتُ مِنْ لَحْمِهِ لَأَكَلْتُهُ.
ثُمَّ دَعَا لِلْمَأْمُونِ وَخَرَجَ.
فَقَالَ: يَا ثَابِتُ، تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ.
قُلْتُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ.
مَا رَأَيْتُ وَاللَّهِ رَجُلا أَجْهَلَ مِنْهُ، وَلا أَوْقَحَ وَجْهًا مِنْهُ.
قَالَ: لا تَقُلْ ذَاكَ فَتَظْلِمَهُ، فَمَا أَدْرِي مَتَى خَاطَبْتُ رَجُلا هُوَ أَعْقَلُ مِنْهُ، وَلا أَعْرَفُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ، قَالَ: فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قَصَّتَهُ، أَوْلَهَا وَآخِرَهَا.
فَقَالَ: هَذَا مِنَ الَّذِي قُلْتُ لَكَ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَزِيدُكَ أُخْرَى، لا أَحْسَبُكَ فَهِمْتَهَا.
قُلْتُ: وَمَا هِيَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: أَوَ مَا رَأْيتَ خَاتَمَهُ فِي أُصْبُعِهِ الْيُمْنَى؟ قُلْتُ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]
حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا عُبَيْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: " خَلا أَبُو جَعْفَرٍ يَوْمًا مَعَ يَزِيدَ بْنِ أُسَيْدٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا يَزِيدُ مَا تَرَى فِي قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ فَقَالَ: أَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَتَقَرَّبَ إِلَى اللَّهِ بِدَمِهِ، فَوَاللَّهِ لا يَصْفُو مُلْكُكَ وَلا تَهْنَأُ بِعَيْشٍ مَا بَقِيَ.
قَالَ يَزِيدُ: فَنَفَرَ مِنِّي نَفْرَةً ظَنَنْتُهُ سَيَأْتِي عَلَيَّ.
ثُمَّ قَالَ: قَطَعَ اللَّهُ لِسَانَكَ، وَأَشْمَتَ بِكَ عَدُوُّكَ، أَتُشِيرُ عَلَيَّ بِقَتْلِ أَنْصَحِ النَّاسِ لَنَا، وَأَثْقَلِهِ عَلَى عَدُوِّنَا.
أَمَّا وَاللَّهِ لَوْلا حِفْظِي مَا سَلَفَ مِنْكَ، وَإِنِّي أَعُدُّهَا هَفْوَةً مِنْ رَأْيِكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ، قُمْ لا أَقَامَ اللَّهُ رِجْلَيْكَ، قَالَ يَزِيدُ: فَقُمْتُ وَقَدْ أَظْلَمَ بَصَرِي، وَتَمَنَّيْتُ أَنْ تَسِيخَ الأَرضُ بِي.
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ قَتْلِهِ إِيَّاهُ بِدَهْرٍ.
قَالَ لِي: يَا يَزِيدُ تَذْكُرُ يَوْمَ شَاوَرْتُكَ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمَا رَأْيتُنِي قَطُّ أَقْرَبَ إِلَى الْمَوْتِ مِنِّي يَوْمَئِذٍ.
قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَانَ ذَلِكَ رَأْيِي، وَمَا لا أَشُكُّ فِيهِ، وَلَكِنَّنِي خَشِيتُ أَنْ يَظْهَرَ مِنْكَ فَتُفْسِدَ عَلَيَّ مَكِيدَتِي
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ الْمَخْلُوعُ جِيءَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ بَعْدَ وُرُودِ الْكِتَابِ بِسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَقَامَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ بِالْجُونَةِ، وَأَنَا مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَالَ: فُضَّ الْخَاتَمَ.
فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَفْضَيْتُ إِلَى الْخَاتَمِ عَلَى مِنْدِيلٍ مُخَمَّلٍ فِيهِ الرَّأْسُ، فَفَضَضْتُ الْخَاتَمَ، وَإِذَا عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ، فَلَمَّا رَآهُ الْمَأْمُونُ نَظَرَ إِلَيْهِ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ، وَكَلَّحَ وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا مَوْضِعُ شُكْرٍ، فَاحْمَدِ اللَّهَ الَّذِي أَرَاكَ بِهِ مَا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي سَعِيدٍ: فَأَمَرَنِي فَكَشَفْتُ عَنِ الرَّأْسِ، فَتَأَمَّلَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَنُصِبَ عَلَى قَنَاةٍ، وَوُضِعَ الْعَطَاءُ لِلْنَاسِ، فَكُلَّمَا أُعْطِيَ رَجُلٌ أُمِرَ أَنْ يَلْعَنَ الْمَخْلُوعَ، فَفَعَلَ، حَتَّى قِيلَ لِرَجُلٍ مِنَ الْعَجَمِ، وَقَدْ أَخَذَ عَطَاءَهُ: الْعَنِ الْمَخْلُوعَ.
قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمَخْلُوعَ وَلُعِنْتَ، وَلُعِنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ وَلَدَهُ.
ثُمَّ أُمِرَ بِتَرْكِ لَعْنِ الْمَخْلُوعِ بَعْدَ ذَلِكَ
حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي وَهُوَ يُوصِينِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَتْرُكُكَ مَعَ مَنْ لا يَتْرُكُكَ، فَأَكْحِلْ عُيُونَهُمْ بِحُسْنٍ مِنْكَ تَقْطَعْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنْكَ، وَكُنْ لِنَفْسِكَ تَكُنْ لَكَ، وَخُذْ مِنْ كُلِّ زَمَانٍ مَحَاسِنَ مَا فِيهِ.
وَأَنْتَ قَلِيلٌ فَاتَّقِ تَكُنْ بِهِ كَثِيرًا، وَاعْلَمْ بَأَنَّكَ تَخْرُجُ بِمَوتِي مِنْ سَعَةِ عُذْرٍ إِلَى ضِيقِ مُدَارَاةٍ، فَضَعِ الأُمُورَ مَوَاضِعَهَا تَضَعْكَ مَوْضِعَكَ.
وَاجْعَلْ دُنْيَاكَ صِلَةً لِآخِرَتَكَ، وَلا تَرْضَ لَهَا بِهَا عِوَضًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَضَهَا عِقَابًا لِمَنْ سَخِطَ عَلَيْهِ، وَلا ثَوَابًا لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ، وَانْظُرْ بَنَاتِي، فَوَصِيَّتِي فِيهِنَّ مَا أَوْصَى بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ فِي بَنَاتِهِ، حِينَ قَالَ: يَا عَمْرُو، انْظُرْ بَنَاتِي، فَاجْعَلِ الْبُيُوتَ لَهُنَّ قُبُورًا حَتَّى يَأْتِيَهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَأْتِيَكَ الأَكْفَاءُ.
وَانْظُرْ غِلْمَانِي، فَلا تَحْبِسْ مِنْهُمْ مَنْ رَآكَ مِنْهُمْ صَغِيرًا، فَإِنَّهُ لا يُسِرُّ لَكَ هَيْبَةً، وَانْظُرْ إِلَى مَالِي فَإِنْ كَرِهْتَ مِنْهُ شَيئًا وَرَأَيْتَ الِاسْتِبْدَالَ بِهِ خَيرًا مِنْ حَبْسِهِ فَلا تَحْبِسْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ وَانْظُرْ أَهْلَكَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَصْلُحُوا وَأَنْتَ فَاسِدٌ، وَلْيَكُنْ لَكَ فِي مِنْزِلِكَ طَعَامٌ، وَإِنْ قَلَّ يُأْتِكَ مَنْ فِي مَنْزِلِهِ أَطْيبَ مِنْهُ وَأَكْثَرَ، انْظُرْ بَنِي زَيَادٍ أَخْوَالَكَ، فَكُنْ لَهُمُ ابْنَ أُخْتٍ مَا كَانُوا لَكَ أَخْوَالا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى غَيْرِهَا فَأَوْسِعْهُمُ الْجَفَاءَ، وَإِنْ حَمَلُوكَ عَلَى الَّذِي حَمَلُونِي عَلَيْهَا، فَارْكَبْ غَيْرَ هَائِبٍ لَهُمْ، فَإِنَّ الَّذِي قَدَّمْتُهُ لَكَ مُعِينٌ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَلَنْ يَدَعُوكَ حَتَّى يُخْبِرُوكَ، فَلا تَدَعْهُمْ حَتَّى يُعَرِّفُوكَ
حَدَّثَنِي مُبَارَكٌ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: " دَخَلَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: يَا عَمْرُو عِظْنِي وَأَوْجِزْ.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الدُّنْيَا بَحَذَافِيرِهَا فِي يَدَيْكَ، فَاشْتَرِ نَفْسَكَ مِنْ رَبِّكَ بِبَعْضِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْ مَثَاقِيلِ الذَّرِّ مِنَ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى مِنْكَ إِلا بِالْعُذْرِ مِمَّنِ اسْتَرْعَاكَ وَفَوَّضَ أُمُورَهُمْ إِلَيْكَ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: " كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَكِّرْ فِي نَفْسِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ مِنْ آدَمَ خُلِقْتَ، وَآدَمُ قَبْلَكَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مِنْ وَرَاءِ بَابِكَ نَارًا مِنَ الْجُوْرِ وَالظُّلْمِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، وَاشْتَرِ نَفْسَكَ مِنْ هَوْلِ الْمَطْلَعِ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ مِنْ عِظَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيْهِ.
فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: مَنْ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ: هَذَا أَخُوكَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَمُوتُ غَدًا، وَإِنَّ كُلَّ مَا تَرَى يَنْقَطِعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنْتَ غَدًا جِيفَةٌ مُلْقًى قَدِ اسْتَحْضَرَ فِي بَدَنِكَ الدُّودُ.
يُقَذِّرُكَ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، لا يَنْفَعُكَ إِلا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَلَهَذَا الْجِدَارُ خَيرٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكَ إِذَا طَوَيْتَ النَّصِيحَةَ عَنْهُ، وَأَقْبَلْتَ تَزْجُرُ مَنْ يَنْصَحُهُ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَؤُلاءِ اتَّخَذُوكَ سُلَّمًا لِشَهَوَاتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَعْمِلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ عَامِلٍ، فَإِنْ رَابَكَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَيْبٌ عَزَلْتَهُ وَاسْتَعْمَلْتَ غَيْرَهُ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَرْضَ مِنْهُمْ إِلا بِالْعَدْلِ، لَيَتَقَرَّبَنَّ إِلَيْكَ بِالْهَدْيِ وَالأَعْمَالِ الزَّاكِيَّةِ مَنْ وِلايَتُهُ لَهُ فِيهِ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14} } [الفجر: 6-14] ، لِمَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِمْ، إِنَّ الدُّنْيَا لَولا أَنَّهَا مَضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لَمْ يَصِلْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَأَنْتَ وَارِثٌ مَنْ مَضَى، وَمَوْرُوثٌ غَدًا، وَقَادِمٌ عَلَى رَبِّكَ، وَمَجْزِيٌّ بِعَمَلِكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْلَةً تَمَخَّضُ عَنْ يَوْمٍ لا لَيْلَ فِيهِ وَلَيلٍ لا يَوْمَ لَهُ، والسَّلامُ.
قَالَ: فَبَكَى أَبُو جَعْفَرٍ حَتَّى مَسَحَ عَيْنَيْهِ مِنْ دُمُوعِهِ بِكُمِّهِ.
قَالَ: وَأَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا، وَالدَّوَاةُ عَلَى جَنْبِ عَمْرٍو، فَقَالَ لَهُ: يَا عَمْرُو نَاوِلْنِي الدَّوَاةَ، فَلَمْ يُنَاوِلْهُ.
فَقَالَ لَهُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِلا نَاوَلْتَنِي.
فَقَالَ عَمْرُو: أَقْسَمْتُ، لا أُنَاوِلْكَ.
فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُقْسِمُ عَلَيْكَ يَا عَمْرُو أَنْ تُنَاوِلَهُ الدَّوَاةَ، وَتُقْسِمُ أَنْتَ أَلا تُنَاوِلَهُ! ! ، فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوَى عَلَى كَفَّارَةِ يَمِينِهِ مِنِّي.
فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُنَاوِلَهُ الدَّوَاةَ؟ قَالَ: لَمْ آمَنْ أَنْ يَكْتُبَ فِي عَطَبِ مُسْلِمٍ، فَأَكُونُ قَدْ شَارَكْتُهُ فِي قَتْلِهِ بِمُنَاوَلَتِهِ الدَّوَاةَ.
فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ؟ فَأَكُونُ مِمَّنْ أَعَانَهُ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَخْزُومِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: " قَدِمَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَدِينَةَ، فَأُخْلِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاعْتَنَقَ أُسْطُوَانَةَ التَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: قِفُوا بِي عَلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ.
فَلَمَّا أَتَاهُمْ كَانَ أَبُو نَصْرٍ نَائِمًا، فَأَيْقَظُوهُ، وَقِيلَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ عِبادِ اللَّهِ، وَأُمَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلْقٌ غَيْرُكَ، وَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْهُمْ، فَأَعِدَّ لِلْمَسَأَلَةِ جَوَابًا.
فَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: «لَوْ ضَاعَتْ سَخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ لَخَافَ عُمَرُ أَنْ يَسْأَلَهُ اللَّهُ عَنْهَا» .
قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ الرَّشِيدُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا نَصْرٍ، إِنَّ رَعِيَّتِي وَدَهْرِي غَيْرُ رَعِيَّةِ عُمَرَ وَدَهْرِهِ، قَالَ: يَقُولُ لَهُ أَبُو نَصْرٍ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُغْنٍ عَنْكَ، فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَعُمَرَ تُسْأَلانِ عَمَّا خَوَّلَكُمَا اللَّهُ.
قَالَ: فَدَعَا هَارُونُ بِصُرَّةِ مِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: ادْفَعُوهَا إِلَى أَبِي نَصْرٍ، فَقَالَ أَبُو نَصْرٍ: مَا أَنَا إِلا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، ادْفَعُوهَا إِلَى فُلانٍ يُفَرِّقُهَا بَيْنَهُمْ، وَاجْعَلْنِي رَجُلا مِنْهُمْ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: " أَجَدَبَتِ الْمَدِينَةُ، وَاخْتَلَّ أَهْلُهَا، وَسَاءَتْ حَالُهُمْ، وَتَكَشَّفَ قَوْمٌ مَسْتُورُونَ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، فَمَرَرْتُ بِسُوقِ الطَّعَامِ، وَمَا فِيهَا حَبَّةُ حِنْطَةٍ، وَلا شَعِيرٌ، وَإِذَا أَبُو نَصْرٍ جَالِسٌ مُنَكَّسَ الرَّأْسِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ، مَا تَرَى فِي أَهْلِ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: بَلَى.
قُلْتُ: أَفَلا تَدْعُو اللَّهَ لَعَلَّهُ يُفَرِّجُ مَا هُمْ فِيهِ؟ قَالَ: بَلَى. . . وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقَالَ لِي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، فَجَلَسْتُ.
قَالَ: فَانْكَبَّ فَعَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَارِجَ الْهَمِّ وَكَاشِفَ الْغَمِّ، مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، رَحْمَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحِيمَهُمَا، صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَفَرِّجْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ حَرَمِ نَبِيِّكَ، صلى الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ غُلِبَ فَذَهَبَ، وَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ.
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنَ السُّوقِ حَتَّى رَأَيْتُ الشَّمْسَ قَدْ تَغَطَّتْ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا رِجْلُ جَرَادٍ أَرَى سَوَادَهَا فِي الْهَوَى، فَمَا زِلْنَ يُسْفِلْنَ، وَأَنَا وَاقِفٌ أَنْظُرُ حَتَّى امْتَلَأَتِ الْمَدِينَةُ، فَاسْتَغْنَى كُلُّ قَوْمٍ بِمَا فِي دَارِهِمْ مِنْ جَرَادٍ فَحَشَوا الأَجْوَافَ.
قَالَ: فَطَبَخَ النَّاسُ، وَمَلَّحُوا وَقَلا مَنْ قَدَرَ عَلَى الزَّيْتِ، وَمَلَأَ النَّاسُ الْحِبَابَ وَالْجِرَارَ وَالْقَوَاسِرَ وَأَلْقَوْهُ فِي جَانِبِ بُيُوتِهِمْ.
ثُمَّ نَهَضَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فَانْتَشَرَ فِي أَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، ثُمَّ مَا مَرَّتْ بِنَا ثَلاثٌ حَتَّى جَاءَنَا عَشْرُ سَفَائِنَ دَخَلَتِ الْجَارَ، فَإِذَا هِيَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْوقْتِ الَّذِي دَعَا فِيهِ أَبُو نَصْرٍ، فَرَجَعَ السِّعْرُ إِلَى أَرْخَصِ مَا كَانَ، وَرَجَعَتْ حَالُ النَّاسِ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ.
قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا نَصْرٍ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ يَا أَبَا نَصْرٍ: أَمَّا تَرَى إِلَى بَرَكَةِ دُعَائِكَ؟ فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمَّلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: " أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى عَهْدِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَذِنَ هِشَامٌ لِلنَّاسِ، فَدَخَلَ فِي غِمَارِهِمْ دِرْوَاسُ بْنُ دِرْوَاسَ الْعِجْلِيُّ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، مُتَفَضَّلٌ عَلَيْهَا بِشَمْلَةٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ هِشَامٌ أَنْكَرَ دُخُولَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى حَاجِبِهِ، فَقَالَ: أَتُدْخِلُ عَليَّ مَنْ شَاءَ بِغَيْرِ إِذْنٍ؟ فَعَرَفَ دِرْوَاسٌ أَنَّهُ إِنَّمَا عَنَاهُ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَخَلَّ بِكَ دُخُولِي عَلَيْكَ، وَلا وَضَعَ مِنْ قَدْرِكَ وَلَكِنَّهُ شَرَّفَنِي، وَرَفَعَ قَدْرِي، وَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ دَخَلُوا لِأَمْرٍ، وَأَحْجَمُوا عَنْهُ، فَإِنْ أَذِنْتَ لِي تَكَلَّمْتُ، فَقَالَ هِشَامٌ: تَكَلَّمْ، فَإِنِّي أَظُنُّكَ صَاحِبَهُمْ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَوَالَتْ عَلَيْنَا سِنُونَ ثَلاثٌ، فَأَمَّا أُوَلاهُنَّ فَأَذَابَتِ الشَّحْمَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةَ فَأَكَلَتِ اللَّحْمَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهَاضَتِ الْعَظْمَ وَنَقَّتِ الْمُخَّ، وَعِنْدَكَ أَمْوَالٌ، فَإِنْ تَكُنْ لِلَّهِ فَعُدْ بِهَا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَإِنْ تَكُنْ لِعِبَادِ اللَّهِ فَعَلامَ تَحْبِسُونَهَا عَنْهُمْ؟ وَإِنْ تَكُنْ لَكَ فَتَصَدَّقْ إِنَّ اللَّهَ يُجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.
قَالَ هِشَامٌ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتَ لَنَا وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ، وَأَمَرَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقُسِّمَتْ فِي النَّاسِ، وَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دَرِهَمٍ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا مِثْلُهَا؟ قَالَ: لا.
فَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِيمَا تَبْعَثُ عَلَيَّ مَذَمَّةً.
فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ بُعِثَ إِلَيْهِ بِالْمِائَةِ الأَلْفِ الدِّرْهَمِ فَفَرَّقَ دِرْوَاسٌ فِي تِسْعَةِ أَبْطُنٍ مِنْ بُطُونِ الْعَرَبِ عَشَرَةَ آلافٍ عَشَرَةَ آلافٍ.
وَأَخَذَ لِنَفْسِهِ حَوْلَ عَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ.
فَقَالَ هِشَامٌ: إِنَّ الصَّنِيعَةَ عِنْدَ دِرْوَاسٍ لَتُضَاعَفُ عَلَى الصَّنَائِعِ
حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " سُئِلَ أَبُو حَازِمٍ الْمَدِينِيُّ، فَقِيلَ لَهُ: مَا مَالُكَ؟ قَالَ: الْكَثِيرُ الطَّيِّبُ.
قِيلَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: الثِّقَةُ بِاللَّهِ وَالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنْ أَعْطَانِي رَضَيْتُ، وَإِنْ مَنَعَنِي قَنَعْتُ.
قَالَ: فَمَا تَرَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتَ أَخَذْتَهُ مِنْ حِلِّهِ، فَوَضَعْتَهُ فِي حَقِّهِ فَأَنْتَ أَنْتَ، وَإِلا فَإِنَّمَا تَجْمَعُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: لِرَجُلٍ سَعِيدٍ بِمَا شَقِيتَ بِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ شَقِيٍّ مِثَلِ مَا شَقِيتَ بِهِ، أَمَّا مَنْ مَضَى مَنْ وَلَدِكَ فَارْجُ لَهُمْ رَحْمَةَ اللَّهِ، وَأَمَّا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَقَدْ تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِهِ.
فَعَلامَ تُهْلِكُ نَفْسَكَ "؟ ! حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ الرَّبِيعِ، قَالَ: " قَدِمَ الْمَنْصُورُ الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ قَوْمٌ، فَوَشَوْا بِجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَقَالَوا: إِنَّهُ لا يَرَى الصَّلاةَ خَلْفَكَ، وَيَنْتَقِصُكَ، وَلا يَرَى التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ.
فَقَالَ لَهُمْ: وَكَيْفَ أَقِفُ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: تَمْضِي ثَلاثُ لَيالٍ فَلا يَصِيرُ إِلَيْكَ مُسَلِّمًا.
قَالَ: إِنْ فِي ذَلِكَ لَدَلِيلا.
فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، قَالَ: يَا رَبِيعُ ايتِنِي بِجِعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْهُ.
قَالَ الرَّبِيعُ: فَأَخَذَنِي مَا قَدُمَ وَمَا حَدَثَ، فَدَافَعْتُ بِإِحْضَارِهِ يَوْمِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ غَدٍ، قَالَ: يَا رَبِيعُ أَمَرْتُكَ بِإِحْضَارِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَوَرَّيْتَ عَنْ ذَلِكَ، آتِنِي بِهِ، فَقَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْهُ، وَقَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَبْدَأْ بِكَ إِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِنِي بِهِ.
قَالَ الرَّبِيعُ: فَمَضَيْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَوَافَيْتُهُ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ أُسْطُوَانَةِ التَّوْبَةِ.
فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّتِي لا شَوَى لَهَا، فَأَوْجَزَ فِي صَلاتِهِ وَتَشَّهَدَ وَسَلَّمَ.
وَأَخَذَ نَعْلَهُ وَمَضَى مَعِي، وَجَعَلَ يَهْمِسُ بِشَيْءٍ أَفْهَمُ بَعْضَهُ، وَبَعْضًا لَمْ أَفْهَمْ، فَلَمَّا أَدْخَلْتُهُ عَلَى أَبِي جَعْفَرَ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، فَلَمْ يَرُدَّ عليه السلام.
وَقَالَ: يَا مُرَائِي، يَا مَارِقُ، مَنَّتْكَ نَفْسُكَ مَكَانِي فَوَرَيْتَ عَلَيَّ، وَلَمْ تَرَ الصَّلاةَ خَلْفِي، وَالتَّسْلِيمَ عَلَيَّ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كَلامِهِ، رَفَعَ جَعْفَرٌ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ دَاودَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَإِنَّ أَيُّوبَ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَإِنَّ يُوسُفَ ظُلِمَ فَغَفَرَ، وَهَؤُلاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْبِيَاؤُهُ، وَصَفْوتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَإِلَيْهِمْ يَئُولُ نَسَبُهُ، وَأَحَقُّ مَنْ أَخَذَ بَآدَابِ الأَنْبِيَاءِ، مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ حَظِّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ { [الحجرات: 6] ، فَتَثَبَّتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَصِحَّ لَكَ الْيَقِينُ.
قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَزَالَ الْغَضَبُ عَنْهُ.
وَقَالَ: أَنَا أُشْهِدُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنَّكَ صَادِقٌ.
وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَرَفَعَهُ، وَقَالَ: أَنْتَ أَخِي وَابْنُ عَمِّي، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَالَ: سَلْنِي حَاجَتَكَ، صَغِيرَهَا وَكَبِيرَهَا.
قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ أَذْهَلَنِي مَا كَانَ مِنْ لِقَائِكَ وَكَلامِكَ عَنْ حَاجَاتِي، وَلَكِنِّي أُفَكِّرُ وَأَجْمَعُ حَوَائِجِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الرَّبِيعُ: فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، سَمِعْتُكَ هَمَسْتَ بِكَلامٍ أُحِبُّ أَنْ أَعْرِفَهُ، قَالَ: نَعَمْ إِنْ جَدِّي عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليهم السلام أَجْمَعِينَ، يَقُولُ: مَنْ خَافَ مِنْ سُلْطَانٍ ظَلامَةً أَوْ تَغَطْرُسًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ احْرُسْنِي بِعَيْنِكَ الَّتِي لا تَنَامُ، وَاكْنُفْنِي بِرُكْنِكَ الَّذِي لا يُرَامُ، وَاغْفِرْ بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ، فَلا أَهْلَكَنَّ وَأَنْتَ رَجَائِي، فَكَمْ مِنْ نَعْمَةٍ قَدْ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ قَلَّ عِنْدَهَا شُكْرِي، وَكَمْ مِنْ بَلِيَّةٍ ابْتَلَيْتَنِي بِهَا قَلَّ لَكَ عِنْدَهَا صَبْرِي.
فَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ نِعَمَتِهِ شُكْرِي، فَلَمْ يَحْرِمْنِي، وَيَا مَنْ قَلَّ عِنْدَ نِقْمَتِهِ صَبْرِي فَلَمْ يَخْذُلْنِي، وَيَا مَنْ رَآنِي عَلَى الْخَطَايَا فَلَمْ يَفْضَحْنِي، وَيَا ذَا النَّعْمَاءِ الَّتِي لا تُحْصَى، وَيَا ذَا الأَيَادِي الَّتِي لا تَنْقَضِي، بَكَ أَسْتَدْفِعُ مَكْرُوهَ مَا أَنَا فِيهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
قَالَ الرَّبِيعُ: فَكَتَبتُ بِالدُّعَاءِ، وَلَمْ يَلْتَقِ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورِ وَلا سَأَلَهُ حَاجَةً حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ: " قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَبُوكَ كَانَ أَعْلَمَ بِكَ حَيْثُ كَانَ يَشْتُمُكَ، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَدْرِي لِمَ كَانَ يَشْتُمُنِي؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ.
قَالَ: إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُهُ أَنْ يُقَاتِلَ بِأَهْلِ مَكَّةَ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَنْصُرُ بِهِمَا، أَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ، فَأَخْرَجُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَخَافُوهُ، ثُمَّ جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَسيَّرَهُمْ، يُعَرِّضُ فِي قَوْلِهِ هَذَا بِالْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ حَيْثُ نَفَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَخَذَلُوا عُثْمَانَ، حَتَّى قُتِلَ بَيْنَهُمْ، لَمْ يَرَوا أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ.
قَالَ: يَسْتَحِقُّهَا الظَّالِمُونَ.
كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل:} أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18] .
فَأَمْسَكَ عَنْهُ
حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: " اسْتَعْمَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَسَاءَ السِّيرَةِ فِيهِمْ، فَشَكَوْهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنِ الْمَدِينَةِ فَرَقَى الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَهُمْ وَمَنَّاهُمْ وَوَعَدَهُمُ الْإِحْسَانَ، وَنَالَ مِنْ عَمْرٍو، وَذِمَّهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَ قُرَشِيٌّ يَفْعَلُ هَذَا بِقُرَشِيٍّ، فَقَالَ عَمْرٌو مِنْ تَحْتِ الْمِنْبَرِ، مَهْلا يَا عُثْمَانُ، فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِحُلْوِ الْمَذَاقِ، وَإِنِّي لَقَمِنُ الْمَضَرَّةِ، وَقَدْ ضَرَّسَتْنِي الأُمُورُ، وَجَرَّسَتْنِي الدُّهُورُ، فَزَعًا مَرَةً، وَأَمْنًا أُخْرَى، وَإِنَّ قُرَيشًا تَعْلَمُ أَنِّي سَاكِنُ اللَّيْلِ، دَاهِيَةُ النَّهَارِ، لا أَتَتَبْعُ الضَّلالَ، وَلا أُنَمِّصُ حَاجِبِي، وَلا يُسْتَنْكَرُ شَبهِي وَلا أُدْعَا لِغَيْرِ أَبِي