الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ قَامَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، مَا أَنَكْرَنْا إِمْرَةَ الأَنْصَارِ، وَلَكَانُوا لَهَا أَهْلا، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ لا شَكَّ فِيهِ وَلا خيَارَ
، وَقَدْ عَجَلَتِ الأَنْصَارُ عَلَيْنَا، وَاللَّهِ مَا قَبَضْنَا عَلَيْهِمُ الأَمْرَ وَلا أَخْرَجْنَاهُمْ مِنَ الشُّورَى، وَإِنَّ الَّذِي هُمْ فِيهِ مِنْ فَلَتَاتِ الأُمُورِ وَنَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ، وَمَا لا يَبْلُغُهُ الْمُنَى وَلا يَحْمِلُهُ الأَمَلُ، أَعْذِرُوا إِلَى الْقَوْمِ فَإِنْ أَبَوْا قَاتِلُوهُمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ قُرَيْشٍ كُلِّهَا إِلا رَجُلٌ وَاحِدٌ لَصَيَّرَ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ فِيهِ.
قَالَ: وَحَضَرَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ لَيْسَ لِلأَنْصَارِ أَنْ يَتَفَضَّلُوا عَلَى النَّاسِ حَتَّى يُقِرُّوا بِفَضْلِنَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ تَفَضَّلُوا، فَحَسْبُنَا حَيْثُ انْتَهَى بِهَا، وَإِلا فَحَسْبُهُمْ حَيْثُ انْتَهَى بِهِمْ، وايْمُ اللَّهِ لَئِنْ بَطِرُوا الْمَعِيشَةَ وَكَفَرُوا النِّعْمَةَ، لَنَضْرِبَنَّهُمْ عَلَى الإِسْلامِ كَمَا ضَرَبُوا عَلَيْهِ، فَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَهْلٌ وَاللَّهِ أَنْ يَسُودَ عَلَى قُرَيْشٍ وَتُطِيعَهُ الأَنْصَارُ.
فَلَمَّا بَلَغَ الأَنْصَارَ قَوْلُ هَؤُلاءِ الرَّهْطِ، قَامَ خَطِيبُهُمْ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّمَا يِكْبُرُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقَوْلُ لَوْ قَالَهُ أَهْلُ الدِّينِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لا سِيَّمَا مِنْ أَقْوَامٍ كُلُّهُمْ مَوْتُورٌ فَلا يَكْبُرَنَّ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا الرَّأْيُ وَالْقَوْلُ مَعَ الأَخْيَارِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ تَكَلَّمَتْ رِجَالُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الآخِرَةِ مِثْلَ كَلامِ هَؤُلاءِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قُولُوا مَا أَحْبَبْتُمْ وَإِلا فَأَمْسِكُوَا.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَذْكُرُ ذَلِكَ:
تَنَادَى سُهَيْلٌ وَابْنُ حَرْبٍ وَحَارثٌ
…
وَعِكْرِمَةُ الشَّانِي لَنَا ابْنُ أَبِي جَهْلِ
قَتَلَنْا أَبَاهُ وَانْتَزَعْنَا سِلاحَهُ
…
فَأَصْبَحَ بِالْبَطْحَاءِ أَذَلَّ مِنَ النَّعْلِ
فَأَمَّا سُهَيْلٌ فَاحْتَوَاهُ ابُنْ دَخْشَمٍ
…
أَسِيرًا ذَلِيلا لا يُمِرُّ وَلا يُحْلِي
وَصَخْرُ بْنُ حَرْبٍ قَدْ قَلَتْنَا رِجَالَهُ
…
غَدَاةَ لِوَا بَدْرٍ فَمِرْجَلُهُ يَغْلِي
وَرَاكَضَنَا تَحْتَ الْعَجَاجَةِ حَارِثٌ
…
عَلَى ظَهْرِ جَرْدَاءٍ كَبَاسِقَةِ النَّخْلِ
يُقَبِّلُهَا طَوْرًا وَطَوْرًا يَحُثُّهَا
…
وَيَعْدِلُهَا بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالأَهْلِ
أُولِئكَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ تَبَايَعُوا
…
عَلَى خِطَّةٍ لَيْسَتْ مِنَ الْخُطَطِ الفُضْلِ
وَأَعْجَبَ مِنْهُمْ قَابَلُوا ذَاكَ مِنْهُمُ
…
كَأَنَّا اشْتَمَلْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى ذَحْلِ
وَكُلُّهُمُ ثَانٍ عَنِ الْحَقِّ عِطْفَهُ
…
يَقُولُ اقْتُلُوا الأَنْصَارَ بِئْسَ مِنْ فِعْلِ
نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النَّبِيَّ وَلَمْ نَخَفْ
…
صُرُوفَ اللَّيَالِي وَالْبَلاءَ عَلَى رَجْلِ
بَذَلْنَا لَهُمْ أَنْصَافَ مَالِ أَكُفِّنَا
…
كَقِسْمَةِ أَيْسَارِ الْجَذُورِ مِنَ الْفَضْلِ
وَمِنْ بَعْدِ ذَاكَ الْمَالِ أَنْصَافَ دُورِنَا
…
وَكُنَّا أُنَاسًا لا نُعَيَّرُ بِالْبُخْلِ
وَنَحْمِي ذِمَارَ الْحَيِّ فَهْرِ بْنِ مَالِكٍ
…
وَنُوقِدُ نَارَ الْحَرْبِ بِالْحَطَبِ الْجَزْلِ
فَكَانَ جَزْاءُ الْفَضْلِ مِنَّا عَلَيْهِمُ
…
جَهَالَتَهُمْ حُمْقًا وَمَا ذَاكَ بِالْعَدْلِ
فَبَلَغَ شِعْرُ حَسَّانٍ قُرَيْشًا، وَأَمَرُوا ابْنَ أَبِي عَزَّةَ شَاعِرَهُمْ أَنْ يُجِيبَهُمْ، فَقَالَ:
مَعْشَرَ الأَنْصَارِ خَافُوا رَبَّكُمْ
…
وَاسْتَجِيرُوا اللَّهَ مِنْ شَرِّ الْفِتَنْ
إِنَّنِي أَرْهَبُ حَرْبًا لاقِحًا
…
يَشْرَقُ الْمُرْضَعُ فِيهَا بِاللَّبَنْ
جَرَّهَا سَعْدٌ وَسَعْدٌ فِتْنَةٌ
…
لَيْتَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَمْ يَكُنْ
خَلْفَ بُرْهُوتٍ خَفِيًّا شَخْصُهُ
…
بَيْنَ بُصْرَى ذِي رُعَيْنٍ وَجَدَنْ
لَيْسَ مَا قَدَّرَ سَعْدٌ كَائِنًا
…
مَا جَرَى الْبَحْرُ وَمَا دَامَ حَضَنْ
لَيْسَ بِالْقَاطِعِ مِنَّا شَعْرَةً
…
كَيْفَ يُرْجَى خَيْرُ أَمْرٍ لَمْ يَحِنْ
لَيْسَ بِالْمُدْرِكِ مِنْهَا أَبَدًا
…
غَيْرَ أَضْغَاثِ أَمَانِيِّ الْوَسَنْ
لَمَّا اجْتَمَعَ جُمْهُورُ النَّاسِ لأَبِي بَكْرٍ أَكْرَمَتْ قُرَيْشٌ مَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ، وَعُوَيْمَ بْنَ سَاعِدَةَ، وَكَانَ لَهُمَا فَضْلٌ قَدِيمٌ فِي الإِسْلامِ.
فَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ لَهُمَا فِي مَجْلِسٍ وَدَعَوْهُمَا، فَلَمَّا أَحْضَرَا أَقْبَلَتِ الأَنْصَارُ عَلَيْهِمَا، فَعَيَّرُوهُمَا بِانْطِلاقِهِمَا إِلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَأَكْبَرُوا فِعْلَهُمَا فِي ذَلِكَ.
فَتَكَلَّمَ مَعْنٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكُمْ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، وَقَدْ كَانَ مِنْكُمْ أَمْرٌ عَظِيمُ الْبَلاءِ، وَصغَّرَتْهُ الْعَاقِبَةُ، فَلَوْ كَانَ لَكُمْ عَلَى قُرَيْشٍ مَا لِقُرَيْشٍ عَلَيْكُمْ ثُمَّ أَرَدْتُمُوهُمْ لِمَا أَرَادُوكُمْ بِهِ، لَمْ آمَنْ عَلَيْهِمْ مِنْكُمْ مِثْلَ مَا آمَنُ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، فَإِنْ تَعْرِفُوا الْخَطَأَ فَقَدْ خَرَجْتُمْ مِنْهُ وَإِلا فَأَنْتُمْ فِيهِ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارَ، إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ مَا أَرَدْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، فَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى حُسْنِ الْبَلاءِ وَطُولِ الْعَافِيَةِ، وَصَرْفِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ عَنْكُمْ، وَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَوَّلِ فِتْنَتِكُمْ، وَآخِرِهَا فَوَجَدْتُهَا جَاءَتْ مِنَ الأَمَانِيِّ، وَالْحَسَدِ، وَاحْذَرُوا النِّعَمَ، فَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ صَيَّرَ إِلَيْكُمْ هَذَا الأَمْرَ بِحَقِّهِ فَكُنَّا نَعِيشُ فِيهِ.
فَوَثَبَتْ عَلَيْهِمَا الأَنْصَارُ، فَأَغْلَظُوا لَهُمَا وَفَحُشُوا عَلَيْهِمَا، وَانْبَرَى لَهُمْ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: أَنَسِيتُمَا قَوْلَكُمَا لِقُرَيْشٍ: إِنَّا قَدْ خَلَّفْنَا وَرَاءَنَا قَوْمًا قَدْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ بِفِتْنَتِهِمْ، هَذَا وَاللَّهِ مَا لا يُغْفَرُ وَلا يُنْسَى، وَقَدْ تُصْرَفُ الْحَيَّةُ عَلَى وَجْهِهَا وَسُمُّهَا فِي نَابِهَا.
فَقَالَ مَعْنٌ فِي ذَلِكَ:
وَقَالَتِ ليَ الأَنْصَارُ إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ
…
فَقُلْتُ: أَمَا لِيَ فِي الْكَلامِ نَصِيبُ
فَقَالُوا: بَلَى قُلْ مَا بَدَا لَكَ رَاشِدًا
…
فَقُلْتُ: وَمِثْلِي بِالْجَوَابِ طَبِيبُ
تَرَكْتُكُمُ وَاللَّهِ لَمَّا رَأَيْتُكُمْ
…
تُيُوسًا لَهَا بِالْحَرَّتَيْنِ نَبِيبُ
تُنَادُونَ بِالأَمْرِ الَّذِي النَّجْمُ دُونَهُ
…
أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا سِوَاهُ قَرِيبُ
فَقُلْتُ لَكُمْ قَوْلَ الشَّفِيقِ عَلَيْكُمُ
…
وَلِلْقَلْبِ مِنْ خَوْفِ الْبَلاءِ وَجِيبُ
دَعُوا الرَّكْضَ وَاثْنُوا مِنْ أَعِنَّةِ بَغْيِكُمْ
…
وَدبُّوا فَسَيْرُ الْقَاصِدِينَ دَبِيبُ
وَخَلُّوا قُرَيْشًا وَالأُمُورُ وَبَايِعُوا
…
لِمَنْ بَايَعُوهُ تُرْشِدُوا وَتُصِيبُوا
أَرَاكُمْ أَخَذْتُمْ حَقَّكُمْ بِأَكُفِّكُمْ
…
وَمَا النَّاسُ إِلا مُخْطِئٌ وَمُصِيبُ
فَلَمَّا أَبَيْتُمْ زُلْتُ عَنْكُمْ إِلَيْهِمُ
…
فَلِي فِيكُمُ بَعْدَ الذُّنُوبِ ذُنُوبُ
فَلا تَبْعَثُوا مِنِّي الْكَلامَ فَإِنَّنِي
…
إِذَا شِئْتُ يَوْمًا شَاعِرٌ وَخَطِيبُ
وَإِنِّي لَحُلْوٌ تَعْتَرِينِي مَرَارَةٌ
…
وَمِلْحٌ أُجَاجٌ تَارَةً وَشَرُوبُ
لِكُلِّ امْرِئٍ عِنْدِي الَّذِي هُوَ أَهْلُهُ
…
أَفَانِينُ شَتَّى وَالرِّجَالُ ضُرُوبُ
وَقَالَ عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ فِي ذَلِكَ:
وَقَالَتْ لِيَ الأَنْصَارُ أَضْعَافَ قَوْلِهِمْ
…
لِمَعْنٍ وَذَاكَ الْقَوْلُ جَهْلٌ مِنَ الْجَهْلِ
فَقُلْتُ: دَعُونِي لا أَبًا لأَبِيكُمُ
…
فَإِنِّي أَخُوكُمْ صَاحِبُ الْخَطَرِ الْفَصْلِ
أَنَا صَاحِبُ الْقَوْلِ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ
…
أُقَطِّعُ أَنْفَاسَ الرِّجَالِ عَلَى مَهْلِ
فَإِنْ تَسْكُتُوا أَسْكُتْ وَفِي الصَّمْتِ رَاحَةٌ
…
وَإِنْ تَنْطِقُوا أَصْمُتْ مَقَالَتُكُمْ تُبْلِي
وَمَا لُمْتُ نَفْسِي فِي الْخِلافِ عَلَيْكُمُ
…
وَإِنْ كُنْتُمُ مُسْتَجْمِعِينَ عَلَى عَذْلِي
أُرِيدُ بِذَاكَ اللَّهَ لا شَيْءَ غَيْرُهُ
…
وَمَا عِنْدَ رَبِّ النَّاسِ مِنْ دَرَجِ الْفَضْلِ
وَمَا لِيَ رِحْمٌ فِي قُرَيْشٍ قَرِيبَةٌ
…
وَلا دَارُهَا دَارِي وَلا أَصْلُهَا أَصْلِي
وَلَكِنَّهَمْ قَوْمٌ عَلَيْنَا أَئِمَّةٌ
…
أَدِينُ لَهُمْ مَا أَنْفَذَتْ قَدَمِي نَعْلِي
وَكَانَ أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ تَقْنَعُوا بِهِ
…
وَيَحْتَمِلُوا مَنْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ مِثْلِي
لأَنِي أَخَفُّ النَّاسَ فِيمَا يَسُرُّكُمْ
…
وَفَيْمَا يَسُؤُكُمْ لا أُمِرُّ وَلا أُحْلِي
وَقَالَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَ مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ مِمَّنْ جَاهَدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَادَ فَرَسَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْ نَخْلِهِ بِأَلْفِ وَسْقٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَكَانَ سَيِّدًا، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَمِمَّنْ شَهِدَ مَعَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ، قَالَ: فَذَكَرَ مَعْنًا وَعُوَيْمًا وَعَاتَبَهُمَا عَلَى قَوْلِهِمَا:
أَلا قُلْ لِمَعْنٍ إِذَا جِئْتَهُ
…
وَذَاكَ الَّذِي شَيْخُهُ سَاعِدَة
بِأَنَّ الْمَقَالَ الَّذِي قُلْتُمَا
…
خَفِيفٌ عَلَيْنَا سِوَى وَاحِدَة
مَقَالَكُمُ إِنَّ مَنْ خَلْفَنَا
…
مِرَاضٌ قُلُوبُهُمُ فَاسِدَة
حَلالُ الدِّمَاءِ عَلَى فَتْنةٍ
…
فَيَا بِئْسَمَا رَبَّتِ الْوَالِدَة
فَلَمْ تَأْخُذَا قَدْرَ أَثْمَانِهَا
…
وَلَمْ تَسْتَفِيدَا بِهَا فَائِدَة
لَقَدْ كَذَّبَ اللَّهُ مَا قُلْتُمَا
…
وَقَدْ يَكْذِبُ الرَّائِدُ الْوَاعِدَة
ثُمَّ إِنَّ الأَنْصَارَ أَصْلَحُوا بَيْنَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِمَا، ثُمَّ اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَوْمًا وَفِيهِمْ نَاسٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَخْلاطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَلِكَ بَعَدَ انْصِرَافِ الأَنْصَارِ عَنْ رَأْيِهَا وَسُكُونِ الْفِتْنَةِ.
فَاتَّفَقَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ سَفَرٍ كَانَ فِيهِ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَأَفَاضُوا فِي ذِكْرَ يَوْمِ السَّقِيفَةِ وَسَعْدٍ وَدَعْوَاهُ الأَمْرَ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لَقَدْ دَفَعَ اللَّهُ عَنَّا مِنَ الأَنْصَارِ عَظَيِمَةً، وَلَمَّا دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَعْظَمَ، كَادُوا وَاللَّهِ أَنْ يَحِلُّوا حَبْلَ الإِسْلامِ كَمَا قَاتَلُوا عَلَيْهِ، وَيُخْرِجُوا مِنْهُ مَنْ أَدْخَلُوا فِيهِ.
وَاللَّهِ لَئِنْ كَانُوا سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» .
ثُمَّ ادَّعَوْهَا لَقَدْ هَلَكُوا وَأَهْلَكُوا، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَسْمَعُوهَا فَمَا هُمْ كَالْمُهَاجِرِينَ، وَلا سَعْدٌ كَأَبِي بَكْرٍ، وَلا الْمَدِينَةُ كَمَكَّةَ، وَلَقَدْ قَاتَلُونَا أَمْسِ فَغَلَبُونَا عَلَى الْبَدْءِ، وَلَوْ قَاتَلْنَاهُمُ الْيَوْمَ لَغَلَبْنَاهُمْ عَلَى الْعَاقِبَةِ.
فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ وَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقَدْ ظَفِرَ، فَقَالَ:
أَلا قُلْ لأَوْسٍ إِذَا جِئْتَهَا
…
وَقُلْ مَا إِذَا جِئْتَ للْخَزْرَجِ
تَمَنَّيْتُمُ الْمُلْكَ فِي يَثْرِبٍ
…
فَأُنْزِلَتِ الْقِدْرُ لَمْ تُنْضَجِ
وَأَخْدَجْتُمُ الأَمْرَ قَبْلَ التَّمَامْ
…
وَأَعْجِبْ بِذَا الْمُعْجَلِ الْمُخْدَجِ
تُرِيدُونَ نَتْجَ الْحِيَالِ الْعِشَارْ
…
وَلَمْ تُلْقِحُوهُ فَلَمْ يُنْتِجِ
عَجِبْتُ لِسَعْدٍ وَأَصْحَابِهِ
…
وَلَوْ لَمْ يُهِيجُوهُ لَمْ يَهْتَجِ
رَجَا الْخَزْرَجِيُّ رَجَاءَ السَّرَابْ
…
وَقَدْ يَخْلِفُ الْمَرْءَ مَا يَرْتَجِي
فَكَانَ كَمُنْحٍ عَلَى كَفِّهِ
…
بِكَفٍّ يُقَطِّعُهَا أَهْوَجِ
فَلَمَّا بَلَغَ الأَنْصَارَ مَقَالَتُهُ وَشِعْرُهُ بَعَثُوا إِلَيْهِ لِسَانَهُمْ وَشَاعِرَهُمُ النُّعْمَانَ بْنَ الْعَجْلانِ، وَكَانَ رَجُلا أَحْمَرَ قَصِيرًا تَزْدَرِيهِ الْعُيُونُ، وَكَانَ سَيِّدًا فَخْمًا، فَأَتَى عَمْرًا وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا عَمْرُو مَا كَرِهْتُمْ مِنْ حَرْبِنَا إِلا مَا كَرِهْنَا مِنْ حَرْبِكُمْ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الإِسْلامِ بِمَنْ أَدْخَلَكُمْ فِيهِ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، قَالَ:«الأَئِمَّةُ مِنْ قُرِيشٍ» ، فَقَدْ قَالَ:«لَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ» ، وَاللَّهِ مَا أَخْرَجْنَاكُمْ مِنَ الأَمْرِ إِذْ قُلْنَا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ.
وَأَمَّا مَنْ ذَكَرْتَ، فَأَبُو بَكْرٍ لَعَمْرِيَ خَيْرٌ مِنْ سَعْدٍ، لَكِنَّ سَعْدًا فِي الأَنْصَارِ أَطْوَعُ مِنَ أَبِي بَكْرٍ فِي قُرَيْشٍ.
فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فَلا فَرْقَ بَيْنَهُمْ أَبَدًا، وَلَكِنَّكَ يَا ابْنَ الْعَاصِ، وَتَرْتَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ بِمَسِيرِكَ إِلَى الْحَبَشَةِ لِقَتْلِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَوَتَرْتَ بَنِي مَخْزُومٍ بِإِهْلاكِ عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ:
فَقُلْ لِقُرَيْشٍ: نَحْنُ أَصْحَابُ مَكَّةٍ
…
وَيَوْمِ حُنَيْنٍ وَالْفَوَارِسُ فِي بَدْرِ
وَأَصْحَابُ أُحْدٍ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرٍ
…
وَنَحْنُ رَجَعْنَا مِنْ قُرَيْظَةَ بِالذِّكْرِ
وَيَوْمٍ بِأَرْضِ الشَّامِ أُدْخِلَ جَعْفَرٌ
…
وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي عَلَقٍ يَجْرِي
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يُنْكِرُ الْكَلْبُ أَهْلَهُ
…
نُطَاعِنُ فِيهِ بِالْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ
وَنَضْرِبُ فِي نَقْعِ الْعَجَاجَةِ أَرْؤُسًا
…
بِبِيضٍ كَأَمْثَالِ الْبُرُوقِ إِذَا تَسْرِي
نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النَّبِيَّ وَلَمْ نَخَفْ
…
صُرُوفَ اللَّيَالِي وَالْعَظِيمَ مِنَ الأَمْرِ
وَقُلْنَا لِقْومٍ هَاجَرُوا قَبْلُ: مَرْحَبًا
…
وَأَهْلا وَسَهْلا قَدْ أَمِنْتُمْ مِنَ الْفَقْرِ
نُقَاسِمُكُمْ أَمْوَالَنَا وَبُيُوتَنَا
…
كَقِسْمَةِ أَيْسَارِ الْجَزُورِ عَلَى الشَّطْرِ
وَنَكْفِيكُمُ الأَمْرَ الَّذِي تَكْرَهُونَهُ
…
وَكُنَّا أُنَاسًا نُذْهِبُ الْعُسْرَ بَالْيُسْرِ
وَقُلْتُمْ: حَرَامٌ نَصْبُ سَعْدٍ وَنَصْبُكمْ
…
عَتِيقُ بْنُ عُثْمَانٍ حَلالٌ أَبَا بَكْرِ
وَأَهْلٌ أَبُو بَكْرٍ لَهَا خَيْرُ قَائِمٍ
…
وَإِنَّ عَلِيًّا كَانَ أَخْلَقَ بِالأَمْرِ
وَكَانَ هَوَانًا فِي عَلِيٍّ وَإِنَّهُ
…
لَأَهْلٌ لَهَا يَا عَمْرُو مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِي
فَذَاكَ بِعَوْنِ اللَّهِ يَدْعُو إِلَى الْهُدَى
…
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْبَغْي وَالنُّكْرِ
وَصِيُّ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى وَابْنُ عَمِّهِ
…
وَقَاتِلُ فُرْسَانِ الضَّلالَةِ وَالْكُفْرِ
وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ يَهْدِي مِنَ الْعَمَى
…
وَيَفْتَحُ آذَانًا ثُقِلْنَ مِنَ الْوَقْرِ
نَجِيُّ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْغَارِ وَحْدَهُ
…
وَصَاحِبُهُ الصدِّيقُ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ
فَلَوْلا اتِّقَاءُ اللَّهُ لَمْ تَذْهَبُوا بِهَا
…
وَلَكِنَّ هَذَا الْخَيْرَ أَجْمعُ لِلصَّبْرِ
وَلَمْ نَرْضَ إِلا بِالرِّضَا وَلَرُبَّمَا
…
ضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا إِلَى أَسْفَلِ الْقِدْرِ
فَلَمَّا انْتَهَى شِعْرُ النُّعْمَانِ وَكَلامُهُ إِلَى قُرَيْشٍ غَضِبَ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَأَلْفَى ذَلِكَ قُدُومَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْهَا، وَكَانَ لَهُ وَلأَخِيهِ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي الإِسْلامِ، وَهُمَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَهُمَا عِبَادَةٌ وَفَضْلٌ.
فَغَضِبَ لِلأَنْصَارِ، وَشَتَمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ عَمْرًا دَخَلَ فِي الإِسْلامِ حِينَ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَكِيدَهُ بِيَدِهِ كَادَهُ بِلِسَانِهِ، وَإِنَّ مِنْ كَيْدِهِ الإِسْلامَ تَفْرِيقَهُ وَقَطْعَهُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
وَاللَّهِ مَا حَارَبْنَاهُمْ لِلدِّينِ وَلا لِلدُّنْيَا، لَقَدْ بَذَلُوا دِمَاءَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِينَا وَمَا بَذَلْنَا دِمَاءَنَا لِلَّهِ فِيهِمْ، وَقَاسَمُونَا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَمَا فَعَلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ بِهِمْ، وَآثَرُونَا عَلَى الْفَقْرِ، وَحَرَمْنَاهُمْ عَلَى الْغِنَى، وَلَقَدْ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ، وَعَزَّاهُمْ عَنْ جَفْوَةِ السُّلْطَانِ، فَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ وَإِيَّاكُمُ الْخَلَفَ الْمُضَيِّعَ، وَالسُّلْطَانَ الْجَانِيَ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي ذَلِكَ:
تَفَوَّهَ عَمْرٌو بِالَّذِي لا نُرِيدُهُ
…
وَصَرَّحَ لِلأَنْصَارِ عَنْ شَنْأَةِ الْبُغْضِ
فَإِنْ تَكُنِ الأَنْصَارُ زَلَّتْ فَإِنَّنَا
…
نُقِيلُ وَلا نَجْزِيهِمُ الْقَرْضَ بِالْقَرْضِ
فَلا تَقْطِعَنْ يَا عَمْرُو مَا كَانَ بَيْنَنَا
…
وَلا تَحْمِلَنْ يَا عَمْرُو بَعْضًا عَلَى بَعْضِ
أَتَنْسَى لَهُمْ يَا عَمْرُو مَا كَانَ مِنْهُمُ
…
لَيَالِيَ جِئْنَاهُمْ مِنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ
وَقِسْمَتَنَا الأَمْوَالَ كَاللَّحْمِ بِالْمِدَى
…
وَقِسْمَتَنَا الأَوْطَانَ كُلٌّ بِهِ يَقْضِي
لَيَالِيَ كُلُّ النَّاسِ بِالْكُفْرِ جَهْرَةٌ
…
ثِقَالٌ عَلَيْنَا مُجْمِعُونَ عَلَى الْبُغْضِ
فَسَاوَوْا وَآوَوْا وَانْتَهَيْنَا إِلَى الْمُنَى
…
وَقَرَّ قَرَارُنَا مِنَ الأَمْنِ وَالْخَفْضِ
ثُمَّ إِنَّ رِجَالا مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ وَمُثِيرِي الْفِتَنَ مِنْهُمُ اجْتَمَعُوا إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لِسَانُ قُرَيْشٍ وَرَجُلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلامِ، فَلا تَدَعِ الأَنْصَارَ وَمَا قَالَتْ، وَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَرَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، فَتَكَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّ الأَنْصَارَ تَرَى لِنَفْسِهَا مَا لَيْسَ لَهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ خَلَّى عَنَّا وَعَنْهُمْ، وَقَضَى فِيهِمْ وَفِينَا بِمَا أَحَبَّ، وَلَنَحْنُ الَّذِينَ أَفْسَدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا، أَحْرَزْنَاهُمْ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، وَقَدَّمْنَاهُمْ إِلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ، حَتَّى أَمِنُوا الْمَخُوفَ، فَلمَا جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ صَغَّرُوا حَقَّنَا، وَلَمْ يُرَاعُوا مَا أَعْظَمْنَا مِنْ حُقُوقِهِمْ.
ثُمَّ الْتَفَتَ فَرَأَى الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَدِمَ عَلَى قَوْلِهِ، لِلْخُئُولَةِ الَّتِي بَيْنَ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَيْنَ الأَنْصَارِ، وَلأَنَّ الأَنْصَارَ كَانَتْ تُعَظِّمُ عَلِيًّا، وَتَهْتِفُ بَاسْمِهِ حِينَئِذٍ، فَقَالَ الْفَضْلُ: يَا عَمْرُو، إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَكْتُمَ مَا سَمِعْنَا مِنْكَ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُجِيبَكَ وَأَبُو الْحَسَنِ شَاهِدٌ بِالْمَدِينَةِ إِلا أَنْ يَأْمُرْنَا فَنَفْعَلَ.
ثُمَّ رَجَعَ الْفَضْلُ إِلَى عَلِيٍّ فَحَدَّثَهُ، فَغَضِبَ وَشَتَمَ عَمْرًا، وَقَالَ: آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَتَكَلَّمَ مُغْضِبًا، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ حُبَّ الأَنْصَارِ إِيمَانٌ وَبُغْضَهُمْ نِفَاقٌ، وَقَدْ قَضَوْا مَا عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ مَا عَلَيْكُمْ.
وَاذْكُرُوا أَنَّ اللَّهَ رَغَّبَ لِنَبِيِّكُمْ عَنْ مَكَّةَ فَنَقَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَرَّهَ لَهُ قُرَيْشًا فَنَقَلَهُ إِلَى الأَنْصَارِ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ دَارَهُمْ، فَقَاسَمُونَا الأَمْوَالَ وَكَفُوْنَا الْعَمَلَ، فَصِرْنَا مِنْهُمْ بَيْنَ بَذْلِ الْغَنِيِّ وَإِيثَارِ الْفَقِيرِ، ثُمَّ حَارَبْنَا النَّاسَ فَوَقَوْنَا بِأَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، جَمَعَ لَهُمْ فِيهَا بَيْنَ خَمْسَةِ نِعَمٍ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [الحشر: 9] .
أَلا وَإِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدْ َقَامَ مَقَامًا آذَى فِيهِ الْمَيِّتَ وَالْحَيَّ، سَاءَ بِهِ الْوَاتِرَ، وَسَرَّ بِهِ الْمَوْتُورَ، فَاسْتَحَقَّ مِنَ الْمُسْتَمِعِ الْجَوَابَ، وَمِنَ الْغَائِبِ الْمَقْتَ، وَإِنَّهُ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَبَّ الأَنْصَارَ، فَلَيَكْفُفْ عَمْرٌو عَنَّا نَفْسَهُ ".
فَمَشَتْ قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالُوا: أَيُّهَا الرَّجُلُ، أَمَا إِذْ غَضِبَ عَلِيٌّ فَاكْفُفْ.
وَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ يُخَاطِبُ قُرَيْشًا
أَيَالَ قُرَيْشٍ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِنَا
…
وَبَيْنِكُمُ قَدْ طَالَ حَبْلُ التَّمَاحُكِ
فَلا خَيْرَ فِيكُمْ بَعْدَنَا فَارْفُقُوا بِنَا
…
وَلا خَيْرَ فِينَا بَعْدَ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ
كِلانَا عَلَى الأَعْدَاءِ كَفٌّ طَوِيلَةٌ
…
إِذَا كَانَ يَوْمٌ فِيهِ جَبُّ الْحَوَارِكِ
فَلا تَذْكُرُوا مَا كَانَ مِنَّا وَمِنْكُمُ
…
فَفِي ذِكْرِ مَا كَانَ مَشْيُ التَّسَاوُكِ
وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْفَضْلِ: «يَا فَضْلُ، انْصُرِ الأَنْصَارَ بِلِسَانِكَ وَيَدِكَ، فَإِنَّهُمْ مِنْكَ وَإِنَّكَ مِنْهُمْ» ، فَقَالَ الْفَضْلُ:
قُلْتَ يَا عَمْرُو مَقَالا فَاحِشًا
…
إِنْ تَعُدْ يَا عَمْرُو وَاللَّهِ فَلَكْ
إِنَّمَا الأَنْصَارُ سَيْفٌ قَاطِعٌ
…
مَنْ تُصِبْهُ ظُبَةُ السَّيْفِ هَلَكْ
وَسُيُوفٌ قَاطِعٌ مَضْرِبُهَا
…
وَسِهَامُ اللَّهِ فِي يَوْمِ الْحَلَكْ
نَصَرُوا الدِّينَ وَآوَوْا أَهْلَهُ
…
مَنْزِلٌ رَحْبٌ وَرِزْقٌ مُشْتَرَكْ
وَإِذَا الْحَرْبُ تَلَظَّتْ نَارُهَا
…
بَرَكُوا فِيهَا إِذَا الْمَوْتُ بَرَكْ
وَدَخَلَ الْفَضْلُ عَلَى عَلِيٍّ فَأَسْمَعَهُ شِعْرَهُ، فَفَرِحَ بِهِ وَقَالَ: وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي يَا فَضْلُ، أَنْتَ شَاعِرُ قُرَيْشٍ وَفَتَاهَا، فَأَظْهِرْ شِعْرَكَ، وَابْعَثْ بِهِ إِلَى الأَنْصَارِ.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الأَنْصَارَ، قَالَتْ: لا أَحَدَ يُجِيبُ إِلا حَسَّانٌ الْحُسَامُ.
فَبَعَثُوا إِلَى حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ شِعْرَ الْفَضْلِ، فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِجَوَابِهِ! إِنْ لَمْ أَتَحَرَّ قَوَافِيَهُ فَضَحَنِي، فَرُوَيْدًا حَتَّى أَقْفُوا أَثَرَهُ فِي الْقَوَافِي.
فَقَالَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: اذْكُرْ عَلِيًّا وَيَكْفِكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا وَالْجَزَاءُ بِكَفِّهِ
…
أَبَا حَسَنٍ عَنَّا وَمَنْ كَأَبِي حَسَنْ
سَبَقْتَ قُرْيشًا بِالَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ
…
فَصَدْرُكَ مَشْرُوحٌ وَقَلْبُكَ مُمْتَحَنْ
تَمَنَّتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَعِزَّةٌ
…
مَكَانَكَ، هَيْهَاتَ الْهُزَالُ مِنَ السِّمَنْ
وَأَنْتَ مِنَ الإِسْلامِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ
…
بِمَنْزِلَةِ الدَّلْوِ الْبَطِينِ مِنَ الرَّسَنْ
غَضِبْتَ لَنَا إِذْ قَامَ عَمْروٌ بِخُطْبَةٍ
…
أَمَاتَ بِهَا التَّقْوَى وَأَحْيَا بِهَا الإِحَنْ
فَكُنْتَ الْمُرَجَّى مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
…
لِمَا كَانَ مِنْهُمْ وَالَّذِي كَانَ لَمْ يَكُنْ
حَفِظْتَ رَسُولَ اللَّهِ فِينَا وَعْهَدَهُ
…
إِلَيْكَ وَمَنْ أَوْلَى بِهِ مِنْكَ مَنْ وَمَنْ
أَلَسْتَ أَخَاهُ فِي الْهُدَى وَوَصِيَّهُ
…
وَأَعْلَمَ مِنْهُمْ بِالْكِتَابِ وَبِالسُّنَنْ
فَحَقُّكَ مَا دَامَتْ بِنَجْدٍ وَشِيجَةٌ
…
عَظِيمٌ عَلَيْنَا ثُمَّ بَعْدُ عَلَى الْيَمَنْ
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَبَعَثَتِ الأَنْصَارُ بِهَذَا الشِّعْرِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقَالَ لِمَنْ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الأَنْصَارَ أَنْصَارًا، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ، فَلا خَيْرَ فِيكُمْ بَعْدَهُمْ، إِنَّهُ لا يَزَالُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ وَتَرَهُ الإِسْلامُ، وَدَفَعَهُ عَنِ الْحَقِّ، وَأَطْفَأَ شَرَفَهُ، وَفَضَّلَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، يَقُومُ مَقَامًا فَاحِشًا فَيَذْكُرُ الأَنْصَارَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَارْعَوْا حَقَّهَمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ زَالُوا لَزُلْتُ مَعَهُمْ لأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَهُمْ:«أَزُولُ مَعَكُمْ حَيْثُمَا زُلْتُمْ» ، فقَالَ: الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا: رَحِمَكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْحَسَنِ، قُلْتَ قَوْلا صَادِقًا.
وَتَرَكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ وَخَرَجَ مِنْهَا حَتَّى رَضِيَ عَنْهُ عَلِيٌّ وَالْمُهَاجِرُونَ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ يُبْغِضُ الأَنْصَارَ، لأَنَّهُمْ أَسَرُوا أَبَاهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَضَرَبُوا عُنُقَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَامَ يَشْتُمُ الأَنْصَارَ وَذَكَّرَهُمْ بالْهُجْرِ، فَقَالَ: إِنَّ الأَنْصَارَ لَتَرَى لَهَا مِنْ الحَقٍّ عَلَيْنَا مَا لا نَرَاهُ، وَاللَّهِ لِئِنْ كَانُوا آوَوْا لَقَدْ عَزَّوا بِنَا، وَلَئِنْ كَانُوا آسَوْا لَقَدْ مَنُّوا عَلَيْنَا، وَاللَّهِ مَا نَسْتَطِيعُ مَوَدَّتَهُمْ لأَنَّهُمْ لا يَزَالُ قَائِلٌ مِنْهُمْ يَذْكُرُ ذُلَّنَا بِمَكَّةَ وَعِزَّنَا بِالْمَدِينَةِ، وَلا يَنْفَكُّونَ يُعَيِّرُونَ مَوْتَانَا وَيَغِيظُونَ أَحْيَاءَنَا، فَإِنْ أَجَبْنَاهُمْ قَالُوا: غَضِبَتْ قُرَيْشٌ عَلَى غَارِبِهَا، وَلَكِنْ قَدْ هَوَّنَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ حِرْصُهُمْ عَلَى الدِّينِ أَمْسِ، وَاعْتِذَارُهُمْ مِنَ الذَّنْبِ الْيَوْمَ، ثُمَّ قَالَ:
تَبَاذَخَتِ الأَنْصَارُ فِي النَّاسِ بَاسْمِهَا
…
وَنِسْبَتُهَا فِي الأَزْدِ عَمْرُو بْنُ عَامِرِ
وَقَالُوا: لَنَا حَقُّ عَظِيمٌ وَمِنَّةٌ
…
عَلَى كُلِّ بَادٍ مِنْ مَعَدٍّ وَحَاضِرِ
فَإِنْ يَكُ لِلأَنْصَارِ فَضْلٌ فَلَمْ تَنَلْ
…
بِحُرْمَتِهِ الأَنْصَارُ فَضْلَ الْمُهَاجِرِ
وَإِنْ تَكُنِ الأَنْصَارُ آوَتْ وَقَاسَمَتْ
…
مَعَايِشِهَا مَنْ جَاءَ قِسْمَةَ جَازِرِ
فَقَدْ أَفْسَدَتْ مَا كَانَ مِنْهَا بِمَنِّهَا
…
وَمَا ذَاكَ فِعْلُ الأَكْرَمِينَ الأَكَابِرِ
إِذَا قَالَ حَسَّانٌ وَكَعْبٌ قَصِيدَةً
…
بِشَتْمِ قُرَيْشٍ غُنِّيتَ فِي الْمَعَاشِرِ
وَسَارَ بِهَا الرُّكْبَانُ فِي كُلِّ وِجْهَةٍ
…
وَأَعْمَلَ فِيهَا كُلُّ خُفٍّ وَحَافِرِ
فَهَذَا لَنَا مِنْ كُلِّ صَاحِبِ خُطْبَةٍ
…
يَقُومُ بِهَا مِنْكُمْ وَمَنْ كُلِّ شَاعِرِ
وَأَهْلٌ بِأَنْ يُهْجَوْا بِكُلِّ قَصِيدَةٍ
…
وَأَهْلٌ بْأَنْ يُرْمَوْا بِنَبْلٍ فَوَاقِرِ
قَالَ: فَفَشَا شِعْرُهُ فِي النَّاسِ، فَغَضِبَتِ الأَنْصَارُ وَغَضِبَ لَهَا مِنْ قُرَيْشٍ قَوْمٌ، مِنْهُمْ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ الْفِهْرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَبَعَثُوا إِلَى الْوَلِيدَ فَجَاءَ.
فَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، لأَحْبَبْتَ الأَنْصَارَ، وَلَكِنَّكَ مِنَ الْجُفَاةِ فِي الإِسْلامِ، الْبُطَاءِ عَنْهُ، الَّذِينَ دَخَلُوا فِيهِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ.
إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّا أَتَيْنَاهُمْ وَنَحْنُ فُقَرَاءُ فَأَغْنَوْنَا، ثُمَّ أَصَبْنَا الْغِنَى فَكَفُّوا عَنَّا.
وَلَمْ يَرْزُءُونَا شَيْئًا.
فَأَمَّا ذِكْرُهُمْ ذِلَّةَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ وَعِزِّهَا بِالْمَدِينَةِ فَكَذَلِكَ كُنَّا.
وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى} وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال: 26] ، فَنَصَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ، وَآوَانَا إِلَى مَدِينَتِهِمْ.
وَأَمَّا غَضَبُكَ لِقُرَيْشٍ فَإِنَّا لا نَنْصُرُ كَافِرًا، وَلا نُوَادُّ مُلْحِدًا، وَلا فَاسِقًا.
وَلَقْدَ قُلْتَ وَقَالُوا فَقَطَعَكَ الْخَطِيبُ، وَأَلْجَمَكَ الشَّاعِرُ.
وَأَمَّا ذِكْرُكَ الَّذِي كَانَ بِالأَمْسِ، فَدَعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ، فَإِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ فِي الرِّضَا، وَلا نَحْنُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي الْغَضْبِ.
وَتَكَلَّمَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عُقْبَةَ، الأَنْصَارُ أَحَقُّ بِالْغَضَبِ لِقْتَلَى أُحُدٍ، فَاكْفُفْ لِسَانَكَ، فَإِنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْحَقُّ لا يُغْضَبْ لَهُ.
وَتَكَلَّمَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، لَوْلا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، لَقُلْنَا: الأَئِمَّةُ مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَكِنْ جَاءَ أَمْرٌ غَلَبَ الرَّأْيَ، فَأَقْمِعْ شِرَّتَكَ أَيُّهَا الرَّجُلُ وَلا تَكُنِ امْرَأَ سَوْءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ اللَّهُ لا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ فِي الآخِرَةِ.
وَأَقْبَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مُغْضَبًا مِنْ كَلامِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَشِعْرِهِ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَفِيهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ أَعْظَمَ ذَنْبِنَا إِلَيْكُمْ قَتْلُنَا كُفَّارَكُمْ، وَحِمَايَتُنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كُنْتُمْ تَنْقِمُونَ مِنَّا مِنَّةً كَانَتْ بِالأَمْسِ فَقَدْ كَفَى اللَّهُ شَرَّهَا، فَمَالَنَا وَمَالَكُمْ، وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُنَا مِنْ قِتَالِكُمُ الْجُبْنُ، وَلا مِنْ جَوَابِكُمُ الْعِيُّ.
إِنَّا لَحَيُّ فِعَالٍ وَمَقَالٍ وَلَكِنَّا قُلْنَا: إِنَّهَا حَرْبٌ، أَوَّلُهَا عَارٌ وَآخِرُهَا ذُلٌّ، فَأَغْضَيْنَا عَلَيْهَا عُيُونَنَا، وَسَحَبْنَا ذُيُولَنَا حَتَّى نَرَى وَتَرَوْا، فَإِنْ قُلْتُمْ قُلْنَا، وَإِنْ سَكَتُّمْ سَكَتْنَا.
فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ سَكَتَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَرَضِيَ الْقَوْمُ أَجْمَعُونَ، وَقَطَعُوا الْخِلافَ وَالْعَصَبِيَّةَ.
إَنَّ سَرِيَّةً كَانَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَوْ لُعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، جَاءَتْ إِلَيْهِ تَشْكُوهُ، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا تَعْذُرُنِي مِنْ أَبِي عِيسَى؟ قَالَ: «وَمَنْ أَبُو عِيسَى» ؟ قَالَتْ: ابْنُكَ عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ:" وَيْحَكِ! وَقَدْ تَكَنَّى بِأَبِي عِيسَى! ، ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: إِيهًا، أَكْتَنَيْتَ بِأَبِي عِيسَى! ، فَحَذِرَ وَفَزِعَ، وَأَخَذَ يَدَهُ فَعَضَّهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ وَقَالَ: وَيْلَكَ! وَهَلْ لِعِيسَى أَبٌ؟ أَتَدْرِي مَا كُنَى الْعَرَبِ؟ أَبُو سَلَمَةَ، أَبُو حَنْظَلَةَ، أَبُو عُرْفُطَةَ، أَبُو مُرَّةَ ".
وَكَانَ عُمَرُ إِذَا غَضِبَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ لَمْ يَسْكُنْ غَضَبُهُ حَتَّى يَعَضَّ يَدَهُ عَضًّا شَدِيدًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ كَذَلِكَ.
وَلِقُوَّةِ هَذَا الْخُلُقِ عِنْدَهُ أَضْمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي خِلافَتِهِ إِبْطَالَ الْقَوْلِ بِالْعَوْلِ، وَأَظْهَرَهُ بَعْدَهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَلا قُلْتَ هَذَا فِي أَيَّامِ عُمَرَ فَقَالَ: هِبْتُهُ، وَكَانَ أَمِيرًا مَهِيبًا.