الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِلَى ابْنِ مَرْوَانَ الأَغَرِّ مُحَمَّدٍ
…
مَا بَيْنَ أَشْتَرِهِمْ وَبَيْنَ الْمُصْعَبِ
نَفْسِي فِدَاؤُكَ يَوْمَ ذَلِكَ مِنْ فَتًى
…
يَكْفِي بِمَشْهَدِهِ مَكَانَ الْغُيَّبِ
354 -
حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، وَالشَّرْقِيِّ بْنِ الْقَطَامِيِّ، عَنْ أَبِي جَيَّانَ الْكَلْبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: " لَمَّا أُتِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِقَتْلِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَضْرَبَ عَنْ ذِكْرِهِ أَيَّامًا، حَتَّى تَحَدَّثَ بِهِ إِمَاءُ مَكَّةَ فِي الطُّرُقِ، ثُمَّ صَعَدَ الْمِنْبَرَ، فَجَلَسَ مَلِيًّا لا يَتَكَلَّمُ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا بُدُوُّ الْكَآبَةِ عَلَى وَجْهِهِ، وَإِذَا جَبِينُهُ يَرْشَحُ عَرَقًا.
فَقُلْتُ لِآخَرَ إِلَى جَنْبِي: مَا لهُ، أَتُرَاهُ يَهَابُ الْمَنْطِقَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ خَطِيبٌ أَرِيبٌ، وَإِنُّهُ لتَهُونُ عَلَيْهِ دُهَاةُ الرِّجَالِ عِنْدَ الْجِدَالِ وَالنِّزَالِ فَمَا يَهَابُ؟ قَالَ: أَرَاهُ يُرِيدُ ذِكْرَ مَقْتِلِ سَيِّدِ الْعَربِ الْمُصْعَبِ، فَهُوَ يُقْطَعُ بِذِكْرِهِ، وَغَيْرُ مَلُومٍ.
فَقَامَ فَقَالَ: "
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وِالأَمْرُ، وَمُلْكُ الدُّنْيَا وَالَآخِرَةِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يُشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ.
أَلا وَإِنَّهُ يُذْلِلُ اللَّهُ عز وجل مَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرْدًا لا نَاصِرَ لَهُ، وَلَمْ يُعْزِزِ اللَّهُ مَنْ كَانَ أَوْلَيَاءُ الشَّيْطَانِ مَعَهُ، وإِنْ كَانَ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْكَثْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وَإِنْ كَانَ الأَنَامُ طُرًّا مَعَهُ.
إِنَّهُ أَتَانَا خَبَرٌ مِنَ الْعِرَاقِ، أَهْلِ الْغدرِ والشِّقاقِ، سَرَّنَا وَسَاءَنَا، أَتَانَا أَنَّ مُصْعَبًا قُتِلَ رَحَمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَغْفِرُتُهِ، فَأَمَّا الَّذِي أَحْزَنَنَا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لِفِرَاقِ الْحَمِيمِ لَذْعَةً، يَجِدُهَا حَمِيمُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، ثُمَّ يَرْعَوِي مِنْ بَعْدُ ذُو الرَّأْيِ وَالدِّينِ إِلَى جَمِيلِ الصَّبْرِ، وَأَمَّا الَّذِي سَرَّنَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ عِلِمْنَا أَنْ قَتْلَهُ شَهَادَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَاعِلٌ لَنَا وَلَهُ ذَلِكَ خَيْرَةً، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَسْلَمُوهُ وَبَاعُوهُ بِأَقَلِّ ثَمَنٍ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْهُ، وَأَخْبَثِهِ، أَسْلَمُوهُ إِسْلامَ النَّعَامِ الْمُخَطَّمِ فَقُتِلَ، وَلَئِنْ قُتِلَ لَقَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ وَأَخُوهُ، وَكَانُوا الْخِيَارَ الصَّالِحِينَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَمُوتُ حَبْجًا، وَمَا نَمُوتُ إِلا قَتْلا قَتْلا، قَعْصًا قَعْصًا بَيْنَ قَصْدِ الرِّمَاحِ، وَتَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ، لَيْسَ كَمَا يَمُوتُ بَنُو مَرْوَانَ، وَاللَّهِ مَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ قَطُّ.
إِنَّمَا الدُّنْيَا عَارِيَةٌ مِنَ الْمَلِكِ الْقَهَّارِ، الَّذِي لا يَزُولُ سُلْطَانُهُ وَلا يَبِيدُ مُلْكُهُ، فَإِنْ تُقْبِلِ الدُّنْيَا عَلَيَّ لا آخُذْهَا أَخْذَ الأَشِرِ الْبَطِرِ، وَإِنْ تُدْبِرْ عَنِّي لا أَبْكِ عَلَيْهَا بُكَاءَ الْخَرِفِ الْمُهْتِرِ ".
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ عَدْوَانَ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، يِأْمُرهُ بِالصَّبْرِ وَالْجِدِّ فِي مُنَاهَضَةِ عَدُوِّهِ:
لَئِنْ مُصْعَبٌ خَلَّى عَلَيْكَ مَكَانَهُ
…
لَقَدْ عَاشَ عِنْدَ النَّاسِ غَيْرَ مُلِيمِ
وَإِنْ مُصْعبٌ خَلاكَ وَالْحَرْبَ بَعْدَهُ
…
فَأَنْتَ لَدَى الْهَيْجَاءِ غَيْرُ سَئُومِ
فَشَمِّرْ إِلَى الأَعْدَاءِ وَانْهَضْ بِقُوَّةٍ
…
فَإِنَّكَ عِنْدَ الْبَأْسِ غَيْرُ ذَمِيمُ
وَثِقْ بِوَلِيِّ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا
…
يُحَامِي عَلَى الأَحْسَابِ كُلُّ كَرِيمِ
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الأَعْمَى فِي قَتْلِ مُصْعَبٍ لَمَّا بَلَغَهُ:
رَحِمَ اللَّهُ مُصْعَبًا إِنَّهُ مَاتَ
…
كَرِيمًا وَعَاشَ فِينَا كَرِيمَا
طَلَبَ الْمُلْكَ ثُمَّ مَاتَ حِفَاظًا
…
لَمْ يَعِشْ بَاخِلا وَلا مَذْمُومَا
لَيْتَ مَنْ عَاشَ بَعْدَهُ مِنْ بَنِي
…
الْعَوَّامِ مَاتُوا وَعَاشَ فَيْنَا سَلِيمَا
لَنْ تَرَى مِثْلَهُ لَدَى الدَّهْرِ نِدًّا
…
أَوْ تُزِيلُ الرِّيَاحُ ذَرْوًا يَسُومَا
كَمْ لَهُ مِنْ يَدٍ عَلَى النَّاسِ بَيْضَاءَ
…
قَدْ أَحْيَا بِهَا عِظَامًا رَمِيمَا
وَيَدٍ غَادَرَتْ حَرِيبًا سَلِيبًا
…
ذَا غِنَاءٍ فَعَادَ وَغْدًا لَئِيمَا
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ يَهْجُو آلَ الزُّبَيْرِ غَيْرَ مُصْعَبٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَمْدَحُهُ، وَيَمْدَحُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدَ قَتْلِ مُصْعَبٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ فِيهِ.
فَقَالَ: اعْفِنِي.
قَالَ: هَاتِ فَلَسْنَا نَتَّهِمُكَ، فَأَنْشَدَهُ هَذِهِ الأَبْيَاتَ، فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ، هُوَ كَمَا وَصَفْتَ:
وَلَكِنَّهُ رَامَ الَّتِي لا يَنَالُهَا
…
مِنَ النَّاسِ إِلا كُلُّ خِرْقٍ مُعَمَّمِ
أَرَادَ أُمُورًا لَمْ يُرِدْهَا إِلَهُهُ
…
فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى يَرْثِي مُصْعَبًا:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مِنَّا لَمُولَعٌ
…
بِكُلِّ فَتًى رَحْبِ الذِّرَاعِ أَرِيبِ
فَإِنْ يَكُ أَمْسَى مُصْعَبٌ نَالَ حَتْفَه
…
لَقَدْ كَانَ صُلْبَ الْعُودِ غَيْرَ هَيُوبِ
جَمِيلَ الْمُحَيا يَرْهَبُ الْقِرْنُ دَرْأَهُ
…
وَإِنْ عَضَّهُ دَهْرٌ فَغَيْرُ قَطُوبِ
أَتَاهُ حِمَامُ الْمَوْتِ وَسْطَ جُنُودِهِ
…
فَطَارُوا سَلالا وَاسْتَقَى بِذَنُوبِ
وَلَوْ صَبَرُوا نَالُوا الْحَيَاةَ وَسُؤْدُدًا
…
وَلَكِنَّهُمْ طَارُوا بِغَيْرِ قُلُوبِ
وَقَالَ الْبَعِيثُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ وُدِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُرَّةِ بْنِ سَعْدِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ كَعْبِ بْنِ يَشْكُرَ:
نَحْنُ قَتَلْنَا ابْنَ الْحَوارِيِّ مُصْعَبًا
…
أَخَا أَسَدٍ وَالْمَذْحِجِيَّ الْيَمَانِيَا
وَأَلْوَتْ عُقَابُ الْمَوْتِ مِنَّا بِمُسْلِمٍ
…
فَأَهْوَتْ لَهُ ظُفْرًا فَأَصْبَحَ ثَاوِيَا
سَقَيْنَا ابْنَ سَيْدَانٍ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ
…
كَفَتْنَا وَخَيْرُ الأَمْرِ مَا كَانَ كَافِيَا
وَمَرَّتْ عَلَى الْجَبَّارِ مِنَّا سَحَابَةٌ
…
سَقَتْهُ ذُعَافِيًّا مِنَ الْمَوْتِ قَاضِيَا
طَوَاغِيتُ هُمْ كَانُوا الصَّنَادِيدَ إِذَا بدَتْ
…
نَوَاجِدُ حَرْبٍ تُمْطِرُ الْمَوْتَ صَافِيَا
وَقَالَ أَيْضًا:
سَقَيْنَا بَنِي الْعَوَّامِ كَأْسًا مَرِيرَةً
…
مُسَكِّرَةً أَمْسَتْ عَلَيْهِمْ أَمَرَّتِ
لِمَا اكْتَسَبَتْ أَيْدِيهُمُ وَصُدُورُهُمْ
…
مَرَيْنا لَهُمْ حَرْبًا عَوَانَا فَدَرَّتِ
إِذَا مَا رَجَوْا أَنْ تَخْمَدَ الْحَرْبُ عَنْهُمْ
…
شَبَبْنَا لَهُمْ نِيرَانَهَا فَاسْتَعَرَّتِ
بِفِتْيَانِ حَرْبٍ لَقَّحُوهَا فَأَصْبَحَتْ
…
أَصَابَتْ بَنِي الْعَوَّامِ حَتَّى أَضَرَّتِ
أَقَمْنَا لَهُمْ سُوقًا بِهَا قَدْ تَسُوءُهُمْ
…
وَقَدْ نَبَحَتْ مِنَهَا قُرَيْشٌ وَهَرَّتِ
وَقَدْ كَانَ الْمُصَعَبُ لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلَيٍّ رضي الله عنهما وَقتْلِهِ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ عَنْ ذَلِكَ.
فَقَالَ مُصْعَبٌ مُتَمَثِّلا بِبَيْتٍ قَالَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتَّهْ:
إِنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
…
تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّأَسِّيَا
قَالَ عُرْوَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّ مُصْعَبًا لا يَفِرُّ أَبَدًا، فَكَانَ كَذَلِكَ.
وَلَمَّا أَجْمَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ السَّيْرَ إِلَى مُصْعَبٍ نَهَتْهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزَيْدَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَتْ جِدَّهِ فِي الْخُرُوجِ بَكَتْ، فَتَمَثَّلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِشِعْرِ كُثَيِّرٍ:
إِذَا مَا أَرَادَ الْغَزْوَ لَنْ تُثْنِ هَمَّهُ
…
حَصَانٌ عَلَيْهَا نَظْمُ دُرٍّ يَزِينُهَا
نَهَتْهُ فَلَمَّا لَمْ تَرَ النَّهْيَ عَاقَهُ
…
بَكَتْ فَبَكَى مِمَّا عَرَاهَا قَطِينُهَا
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ: أَنَّ زِيَادَ بْنَ عَمْرٍو الْعَتَكِيِّ غَدَرَ بِمُصْعَبٍ، وَلَحِقَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَقْطَعَهُ، وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ السَّلَمِيَّ قَتْلُ مُصْعَبٍ.
قَالَ: أَشَهِدَهُ الْمُهلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: أَفَشَهِدَهُ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ؟ قَالُوا: لا.
فَقَالَ:
خُذِيِهِ فَجُرِّيهِ سِبَاعُ وَأَبْشِرِي
…
بِلَحْمِ امْرِئٍ لَمْ يَشْهَدِ الْيَوْمَ إِصْرُهُ
ثُمَّ قَالَ:
هُمَامَانِ لَوْ دَارَتْ رَحَا الْحَرْبِ بَرْكَهَا
…
لَقَامَا وَلَوْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَى الْجَمْرِ
قَالَ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ خَلادِ بْنِ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْخَةِ حِينَ عَسْكَرَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ يُرِيدُ شَبيْبًا الْحَرُورِيَّ، قَالَ لَهُ النَّاسُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، لَوْ تَنَحَّيْتَ عَنْ هَذِهِ الْعَذِرَةِ.
فَقَالَ لَهُمُ الْحَجَّاجُ: مَا تُنَحُّونَنِي إِلَيْهِ أَنْتَنُ.
وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مُصْعَبٌ لِكَرِيمٍ مَفَرًّا ثُمَّ تَمَثَّلَ بَيْتًا قَالَهُ كَلْحَبَةُ الْعَرْنِيُّ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْشَ الْمَكَارِهَ أَوْشَكَتْ
…
حِبَالُ الْهُوَيْنَى بِالْفَتَى أَنْ تقَطَّعَا
وَقَالَ أَعْشَى هَمْدَانَ فِي قَتْلِ مُصْعَبٍ، وذِكْرِ قِصَّتِهِ، وَغَدْرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِهِ، وَاسْمُ الأَعْشَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ:
أَلا مَنْ لِهَمٍّ آخِرَ اللَّيْلِ مُنْصِبٍ
…
وَأَمْرٍ جَلِيلٍ فَادِحٍ لِي مُشَيِّبِ
أَرِقْتُ لِمَا قَدْ غَالَنِي وَتَبَادَرَتْ
…
سَوَاكِبُ دَمْعِ الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ مَسْكَبِ
فَقُلْتُ وَقَدْ بَلَّتْ سَوَابِقُ عَبْرَتِي
…
رِدَائِي مَقَالَ الْمُوجَعِ الْمُتَحَوِّبِ
أَلا بَهْلَةُ اللَّهِ الَّذِي عَزَّ جَارُهُ
…
عَلَى النَّاكِثِينَ الْغَادِرِينَ بِمُصْعَبِ
جَزَى اللَّهُ عَنْهُ جَمْعَ قَحْطَانَ كُلِّهَا
…
جَزَاءَ مُسِيءٍ قَاسِطِ الْفِعْلِ مُذْنِبِ
وَجَمْعَ مَعَدٍّ قَوْمِهِ غَابَ نَصْرُهُمْ
…
غَدَاةَ إِذٍ عَنْهُ وَرَبِّ الْمُحَصَّبِ
جَزَاهُمْ إِلَهُ النَّاسِ شَرَّ جَزَائِهِ
…
بِخُذْلانِ ذِي الْقُرْبَى الأَرِيبِ الْمُدَرِّبِ
إِمَامِ الْهُدَى وَالْحِلْمِ وَالسِّلْمِ وَالتُّقَى
…
وَذِي الْحَسَبِ الزَّاكِي الرَّفِيعِ الْمُهَذَّبِ
لَحَى اللَّهُ أَشْرَافَ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ
…
هُمُ شَرُّ قَوْمٍ بَيْنَ شَرْقٍ وَمَغْرِبِ
هُمُ مَكَرُوا بِابْنِ الْحَوَارِيِّ مُصْعَبٍ
…
وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلصَّرِيخِ الْمُثَوَّبِ
دَعَاهُمْ بِأَنْ ذُودُوا الْعِدَى عَنْ بِلادِكُمْ
…
وَأَمْوَالِكُمْ فِي كُلِّ أَبْيِضَ مِقْضَبِ
فَوَلَّوْا يُنَادِي الْمَرْءُ مِنْهُمْ عَشِيرَهُ
…
أَلا خَلِّ عَنْهُمْ لا أَبَا لَكَ وَاذْهَبِ
جَزَى اللَّهُ حَجَّارًا هُنَاكَ مَلامَةً
…
وَفَرْخَ عُمَيْرٍ مِنْ مُنَاجٍ مُؤَلِّبِ
حَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ الْعَجْلِيُّ كُوفِيٌّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عُطَارِدٍ الدَّارِمِيُّ كُوفِيٌّ.
وَمَا كَانَ عَتَّابٌ لَهُ بِمُنَاصِحٍ
…
وَلا كَانَ عَنْ سَعْيٍ عَلَيْهِ بِمُغْرِبِ
عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيُّ كُوفِيٌّ.
وَلا قَطَنٌ وَلا ابْنُهُ لَمْ يُنَاصِحَا
…
فَتَبًّا لِسَعْيِ الْحَارِثِيِّ الْمُتَبِّبِ
وَلا الْعَتَكِيُّ إِذْ أَمَالَ لِوَاءَهُ
…
فَوَلَّى بِهِ عَنْهُ إِلَى شَرِّ مَوْكِبِ
زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ.
وَلا ابْنُ رُوَيْمٍ لا سَقَى اللَّهُ قَبْرَهُ
…
فَبَاءَ بِجَدْعٍ آخِرَ الدَّهْرِ مُوعَبِ
يَزِيدُ بْنُ أَبِي رُوَيْمٍ شَيْبَانِيٌّ كُوفِيٌّ.
وَمَا سَرَّنِي مِنْ هَيْثَمٍ فَعْلُ هَيْثَمٍ
…
وَإِنْ كَانَ فِينَا ذَا غَنَاءٍ وَمَنْصِبِ
الْهَيْثَمُ بْنُ الأَسْوَدِ النَّخَعِيُّ.
وَلَكِنْ عَلَى فَيَّاضِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ
…
سَأُثْنِي وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا لَمْ يُكَذَّبِ
دَعَا ابْنُ الْحَوَارِيِّ الْهُمَامُ إِمَامَهُ
…
لِيَمْنَعَهُ مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُجْلِبِ
فَأَضْحَى ابْنُ تَيْمِ اللاتِ أَمْنَعَ مَانِعٍ
…
لِجَارٍ بِلا شَكٍّ وَمَأْوَى الْمُعَصَّبِ
فَيَا سَائِرًا نَحْوَ الْمَشَاعِرِ لا يَنِي
…
أَلا ارْفَعْ بِهَدْلاءِ الْمَشَافِرِ تَنْعَبِ
أَلا وَانْعَ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَمَيِّتًا
…
إِلَى أَهْلِ بِطْحَاءٍ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبِ
فِدًا لَكَ فَاذْكُرْ زَحْفَهُ وَمَسِيرَهُ
…
يُزَجِّي الْخُيُولَ مِقْنَبًا بَعْدَ مِقْنَبِ
سَمَا مُصْعِدًا بِالْجَيْشِ يَسْرِي أَمَامَهُ
…
إِلَى بَطَلٍ مِنْ آلِ مَرْوَانَ مُحْلِبِ
غَزَا بِجُنُودِ الشَّامِ يُكِبْدُ كَبْدَهَا
…
يُجِيزُ إِلَيْهِمْ سَبْسَبًا بَعْدَ سَبْسَبِ
فَلَمَّا تَوَافَيْنَا جَمِيعًا بِمَسْكِنٍ
…
صِينَا بِنَوْعٍ مِنْ غَرَامٍ مُعَذِّبِ
بِمَقْتَلِ سَادَاتٍ وَمَهْلَكِ مَاجِدٍ
…
رَفِيعِ الرَّوَابِي مِحْرَبٍ وَابْنِ مِحْرَبِ
هُوَ الضَّيْغَمُ النَّهْدُ الرَّئِيسُ ابْنُ مَالِكٍ
…
إِذَا شَدَّ يَوْمًا شَدَّةً لَمْ يُكَذِّبِ
أَتَى مُصْعَبًا فَقَالَ مَنْ كَانَ مِنْهُمُ
…
فَعَاقِبْ بِوَقْعٍ مَنْ بَدَا لَكَ مُرْهِبِ
وَشُدَّ عَلَى الأَشْرَافِ شدَّةَ مَاجِدٍ
…
وَأَعْنَاقَهُمْ قَبْلَ الصَّبَاحِ فَضَرِّبِ
وَإِلا فَكَبْكِبْ فِي السُّجُونِ سَرَاتَهُمْ
…
إِلَى أَنْ يُفَيِقَ النَّاسُ تُصْحِبْ وَتُرْقِبِ
وَدَعْنِي وَأَهْلَ الْقَرْيَتَيْنِ أَسِرْ بِهِمْ
…
وَغَادِرْهُمُ فِي مَحْبَسٍ كَالْمُؤدِّبِ
مَلامَ مُلِحٍّ قَدْ أَمِنْتَ اغْتِيَالَهُ
…
وَمَا جَاهِلٌ بِالأمْرِ مِثْلُ الْمُجَرِّبِ
فَقَالَ لَهُ سِرْ بِالْجُيُوشِ إِلَى الْعِدَى
…
وَنَاجِزْ وَقَارِعْ وَاصْدُقِ الْقَوْمَ تَغْلِبِ
فَإِنِّي بِحَقٍّ لَسْتُ أَبَدأُ مُسْلِمًا
…
بِغَدْرٍ فَفِي التَّقْوَى وَفِي الدِّينِ فَارْغَبِ
فَسَارَ إِلَى جَمْعِ ابْنِ مَرْوَانَ مُعْلَمًا
…
فَنَاهَضَهُمْ وَالْحَرْبُ ذَاتُ تَلَهُّبِ
وَجَاهَدَ فِي فِرْسَانِهِ وَرِجَالِهِ
…
وَأَقْدَمَ لَمْ يَنْكُلْ وَلَمْ يَتَهَيَّبِ
فَلاقَى أُسَيْدٌ يَوْمَ ذَلِكَ حَتْفَهُ
…
وَقَطَّرَهُ مِنَّا فَتًى غَيْرُ جَأْنَبِ
أَشَمُّ نَرَاهُ عَالِيَ الْجِسْمِ صَقْعَبًا
…
وَبالسَّيْفِ مِقْدَامًا نَجِيبًا لِمُنْجِبِ
وَكَادَتْ جُمُوعُ الشَّامِ يَشْمُلُهَا الرَّدَى
…
غَدَاةَ إِذٍ فَاسْمَعْ أُحَدِّثْكَ تَعْجَبِ
فَلَمَّا رَأَى أَبْنَاءُ مَرْوَانَ وَقْعَهُ
…
بِجِمْعِهِمُ ظَلُّوا بِيَوْمٍ عَصَبْصَبِ
وَأَدْبَرَ عَنْهُ الْغَادِرُ ابْنُ الْقَبَعْثَرَى
…
وَمَا كَانَ بِالْحَامِي وَلا بِالْمُذَبِّبِ
غَضْبَانُ بْنُ الْقَبَعْثَرَى شَيْبَانِيٌّ كُوفِيٌّ.
وَقَدْ نَقَضَ الصَّفَّ ابْنُ وَرْقَاءَ ثَانِيًا
…
وَغَادَرَهُ يَدْعُو إِلَى جَانِبِ النَّبِيِّ
فَثَابِ إِلَيْهِ كُلُّ أَرْوعَ مَاجِدٍ
…
صَبُورٍ عَلَى مَا نَابَهُ مُتَلَبِّبِ
فَضَارَبَ حَتَّى خَرَّ غَيْرَ مُوَائِلٍ
…
إِلَى جَانِبٍ مِنْهُ عَزِيزٍ وَمَنْكِبِ
وَصُرِّعَ أَهْلُ الصَّبْرِ فِي الصَّفَّ كُلُّهُمْ
…
وَأَجْفَلَ عَنْهُ كُلُّ وَانٍ مُحَوِّبِ
وَلَمَّا أَتَى قَتْلُ ابْنِ الأَشْتَرِ مُصْعَبًا
…
دَعَا عِنْدَهَا عِيسَى فَقَالَ لَهُ اهْرُبِ
فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ لَسْتُ بِهَارِبٍ
…
أَأَهْرَبُ إِنْ دَهْرٌ بِنَا حَانَ عَنْ أَبِي
فَقَالَ: تَقَدَّمْ أَحْتَسِبْكَ فَأَقْبَلَتْ
…
إِلَيْهِ جُمُوعٌ مِنْ كِلابٍ وَأَذْؤُبِ
فَقَالَ لِفُجَّارِ الْعِرَاقِيِّينَ أَقْدِمُوا
…
فَوَلَّوْا شِلالا كَالنَّعَامِ الْمُخَضَّبِ
وَشَدُّوا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ فَلَمْ يَرُمْ
…
كَلَيْثِ الْعَرِينِ الْخَادِرِ الْمُتَحَرِّبِ
فَضَارَبَهُ يَحْيَى وَعِيسَى أَمَامَهُ
…
وَضَارَبَ تَحْتَ السَّاطِعِ الْمُتَنَصِّبِ
فَمَا بَرِحُوا حَتَّى أَزَارَهُمُ الْقَنَا
…
شَعُوبٌ وَمَنْ يَسْلُبْ وَجَدِّكَ يُسْلَبِ
فَبَكِّ فَتَى دُنْيَا وَذَا الدِّينِ مُصْعَبًا
…
وَأَعْوِلْ عَلَيْهِ وَاسْفَحِ الدَّمْعَ وَانْحَبِ
لَقَدْ رَحَلَ الأقْوَامُ غَدْرًا وَغَادَرُوا
…
بِمَسْكِنَ أَشْلاءَ الْهُمَامِ الْمحَجَّبِ
صَرِيعَ فَتًى تَسْفِي عَلَى وَجْهِهِ الصَّبَا
…
وَرِيحُ شَمَالٍ بَعْدَهَا رِيحُ أَجْنَبِ
وَأَضْحَى بِدَيْرَ الْجَاثَلِيقِ مُلَحَّبًا
…
فَلا يَبْعِدَنَّ مِنْ قَتِيلٍ مُلَحَّبِ
سَقَى السَّارِيَاتُ الْجُونُ جُثْمَانَ مُصْعَبٍ
…
وَأَجْلادَ عِيسَى الْمُرْتَجَى صَوْبَ صَيِّبِ
وَفِتْيَانَ صِدْقٍ صُرِّعُوا ثَمَّ حَوْلَهُ
…
عَلَى الْحَقِّ مَنْ لا يَعْرِفُ الْحَقَّ يَرْتَبِ
أَمُصْعَبُ مَنْ يَحْرِبُ وَيُذْمَمْ فِعَالُهُ
…
فَمَا كُنْتُ بِالْوَانِي وَلا الْمُتَحَرِّبِ
لَقَدْ عِشْتُ ذَا حَزْمٍ وَجُودٍ وَنَائِلٍ
…
فَيَا عَجَبًا لِدَهْرِكَ الْمُتَقَلِّبِ
أَلَمْ تَكُ مِعْطَاءَ الْجَزِيلِ وَنَاعِشَ
…
الْفَقِيرِ وَمَأْوَى كُلِّ عَافٍ وَمُجْدِبِ
وَكُنَّا مَتَى نَعْتِبْ عَلَيْكَ وَنَلْتَمِسْ
…
جَدَاكَ يَنَلْنَا مِنْ جَدَاكَ وَتُعْتِبِ
فَقَدْ جَاءَنَا مِنْ بَعْدِكَ الْمَعْشَرُ الْعِدَى
…
وَوَالٍ مَتَى يُنْطَقْ حَوَالِيهِ يَغْضَبِ
وَإِنْ تُلْتَمَسْ مِنْهُ الزَّبَادَةُ وَالْجَدَا
…
وَيُسْتَمْطَرِ الْمَعْرُوفَ يَغْضَبْ وَيَحْرِبِ
وَتَسْمَرْ بِلا ذَنْبٍ أَكُفُّ غُزَاتِنَا
…
وتُقْطَعُ أَيْدِيهِمْ وَشِيكًا وَيُصْلَبِ
فَيَا دَهْرَنَا مِنْ قَبْلِ مَقْتِلِ مُصْعَبٍ
…
أَلا ارْجِعْ بِدُنْيَانَا الرَّفِيعَةِ تَحْصِبِ
وَبِالأمْنِ وَالْعَيْشِ الَّذِي حَلَّ دُونَهُ
…
فَهَذَا زَمَانُ الْخَائِفِ الْمُتَرَقِّبِ
فَبُعْدًا لِقَوْمٍ أَسْلَمُوا أَمْسِ مُصْعَبًا
…
بِحَدِّ سِنَانٍ سَمْهَرِيٍّ مُذَرَّبِ
وَلِلسَّيْفِ نَغْشَاهُ وَيَفْرِي شُئُونَهُ
…
وَكَانَ الْحَيَا لِلْمُفْلِحِ الْمُتَشَعِّبِ
وَدَانُوا لِطَاغٍ قَدْ أَرَاقَ دِمَاءَهُمْ
…
عَسُوفٍ صَدُوقٍ قَاسِطِ الْفِعْلِ مُشْغِبِ
وَقَالَ لَهُمْ ذُوقُوا جَنَى مَا غَرَسْتُمُ
…
أَلا رُبَّ بَانٍ لِلْعِمَارَةِ مُخْرِبِ
كَانَ دَاوُدُ بْنُ قَحْذَمٍ، أَحَدُ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَوَّلَ مَنْ غَدَرَ بِمُصْعَبٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَقَالَ ابْنُ ظَبْيَانَ:
يَرَى مُصْعَبٌ أَنِّي تَنَاسَيْتُ نَابِئًا
…
لَبِئْسَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا ظَنَّ مُصْعَبُ
فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَاهُ مَا ذَرَّ شَارِقٌ
…
وَمَا لاحَ فِي شَرْقٍ مِنَ الأَرْضِ كَوْكَبُ
سَطَوْتَ عَلَيْهِ ظَالِمًا فَقَتَلْتَهُ
…
فَقَصْرُكَ مِنِّي. . . . . . .
حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الأشْتَرِ وَهُوَ مَعَ مُصْعَبٍ كِتَابًا، فَأَتَى بَهَ مُصْعَبًا قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَهُ، فَفَضَّهُ مُصْعَبٌ فَقَرَأَهُ.
فَقَالَ: يَا أَبَا النُّعْمَانِ، أَوَ مَا تَدْرِي مَا فِيهِ؟ قَالَ: لا، وَمَا فِيهِ؟ قَالَ: يَعْرِضُ عَلَيْكَ دِجْلَةَ وَمَا سَقَتْ، أَوِ الْفُرَاتَ وَمَا سَقَى، فَإِنْ أَبَيْتَ جَمَعَهُمَا لَكَ جَمِيعًا.
قَالَ: أَلَقَى اللَّهَ تَعَالَى وَأَنَا أَجْذَمُ! لاهَا اللَّهُ إِذًا.
فَقَالَ مُصْعَبٌ: إِنَّ هَذَا لَمَا يُرْغَبُ فِيهِ.
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَحَدٍ أَيْأَسَ مِنْهُ مِنِّي.
وَمَا تَرَكَ أَحَدًا مِمَّنْ مَعَكَ إِلا وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ، فَضَرِّبْ أَعْنَاقَهُمْ.
قَالَ: كَيْفَ، وَلَمَ أَسْتَيْقِنْ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَمَا إِذَا أَبَيْتَ ذَلِكَ فَابْعَثْ فَأَوْقِرْهُمْ حَدِيدًا، وَاطْرَحْهُمْ فِي أَبْيَضَ كِسْرَى، وَوَكِّلْ بِهِمْ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ، فَإِنْ ظَفِرْتَ عَفَوْتَ، أَوْ عَاقَبْتَ، وَإِنْ كَانَتِ الأَخُرْى ضَرِّبْ أَعْنَاقَهُمُ.
قَالَ: أَخَافَ أَنْ يَحْتَجُّوا عَلَيَّ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُونَ: حَبَسَنَا وَفَعَلَ بِنَا.
دَعْ هَذَا عَنْكَ يَا أَبَا النُّعْمَانِ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هُوَ غَيْرِي أَوْ غَيْرُكَ، إِمَّا أَنْ تَسِيرُوا، وَإِمَّا أَنْ أَسِيرَ.
قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِصَاحِبِ خَيْلٍ، إِنَّمَا صَاحِبُ الْخَيْلِ مَنْ كَرَّ وَفَرَّ، وَإِنَّمَا أَنَا صَاحِبُ مُزَاحَفَةٍ.
قَالَ: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ إِذَا لَقِيَ الْحَرْبَ كَانَ مَعَهُ كُرْسِيَّانِ، يَحْمِلُ أَحَدَهُمَا فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، وَيُقَدِّمُ الآخَرَ، فَإِذَا زَحَفَ الْقَوْمُ جَلَسَ عَلَى ذَا وَقَدَّمَ الآخَرَ.
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَنْتَ غَدًا مَقْتُولٌ بِمَضْيَعَةٍ.
فَقَالَ مُصْعَبٌ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا أَقْذِفَ بِنَفْسِي فِي الْبَحْرِ بُغْضًا لأَهْلِ الشَّامِ لَفَعَلْتُ، وَلَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا النَّمْلَ، لَقَاتَلْتُ بِهِمْ أَهْلَ الشَّامِ.
فَتَقَدَّمَ، فَلَمَّا اصْطَفَ النَّاسُ مَالَ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ بِالْخَيْلِ فَذَهَبَ بِهِمْ إِلَى الْكُوفَةِ، فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لِرَجُلٍ رَجُلٍ: تَقَدَّمْ.
فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِ، فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفَّ مُصْعَبٌ فَخَذَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لِحَجَّارِ بْنِ أَبْجَرَ الْعِجْلَيِّ: تَقَدَّمْ يَا أَبَا أُسَيْدٍ، قَالَ: إِلَى هَذِهِ الْعَذْرَةِ؟ قَالَ: مَا تَتَأَخَّرُ إِلَيْهِ أَنْتِنُ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْغَضْبَانِ بْنِ الْقَبَعْثَرَى، فَقَالَ: تَقَدَّمْ يَا أَبَا الشَّمْطِ.
فَقَالَ: مَا أَرَى ذَاكَ.
فَالْتَفَتَ إِلَى قَطْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيِّ، وَهُوَ عَلَى مَذْحِجٍ وَأَسَدٍ.
فَقَالَ: تَقَدَّمْ.
قَالَ: أُسْفِكُ دِمَاءَ مَذْحِجٍ فِي غَيْرِ شَيْءٍ.
فَقَالَ مُصْعَبٌ: أُفٍّ لَكُمْ.
ثُمَّ أَقْبَلَ فِي عِدَّةٍ.
فَلَمَّا بَرَزَ قَالَ زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعَتَكِيُّ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ صَدِيقًا لِي، وَقَدْ خِفْتُ أَنْ يُقْتَلَ، فَآمِنْهُ.
قَالَ: هُوَ آمِنٌ.
فَأَقْبَلَ زِيَادٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ.
فَقَالَ: يَا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ إِلَيِّ أُكَلِّمْكَ وَأَسْائَلْكَ عَنْ شَيْءٍ، فَأَقْبَلَ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ رَأْسَا فَرَسَيْهِمَا وَضَعَ يَدَهُ فِي مَنْطِقَتِهِ ثُمَّ جَذَبَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ: يَا أَبَا الْمُغِيرَةِ، أُنَشِدُكَ اللَّهَ أَنْ تُلِيمَ الْيَوْمَ.
فَقَالَ: يَا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، إِنِّي أَضِنُّ بِكَ مِنْ ذَاكَ.
ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأمَّنَهُ، وَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ لِمُصْعَبٍ: يَا ابْنَ عَمِّي، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَمِّنُكَ عَلَى كُلِّ مَالٍ وَدَمٍ أَصَبْتَهُ.
قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَازِ.
وَرُمِيَ مُصْعَبٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
فَأُثْخِنَ.
فَقَالَ لابْنِهِ عِيسَى: انْصَرِفْ.
فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ النِّسَاءُ.
قَالَ: فَتَقَدَّمْ أَحْتَسِبْكَ.
فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ، وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ قَتَلَ أَخَاهُ النَّابِئَ، فَدَنَا مِنْ مُصْعَبٍ وَقَدْ كَانَ أُثْخِنَ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ التَّقَدُّمَ، فَقَالَ لِفِتْيَانِ قَوْمِهِ: شُدُّوا. . . . مِنْ ظَهْرِي، فَتَقَدَّمَ وَمَا يُحَرَّكُ مُصْعَبٌ.
لَمَّا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ مُصْعَبٍ فَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ إِلا رَجُلانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: يَحْيَى بْنُ مُبَشِّرٍ الْيَرْبُوعِيُّ، وَمُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الأَشْتَرِ.
فَقُتِلُوا جَمِيعًا، وَبَقِيَ مُصْعَبٌ وَحْدَهُ فِي نَفَرٍ، فَقَاتَلَ حَتَّى عُقِرَ بِهِ عِيرُ فَرَسٍ، وَصَارَ يَقْعُدُ عَلَى كُرْسِيٍّ قَدْ وُضِعَ لَهُ، حَتَّى يَشُدَّ عَلَى الْقَوْمِ فَيَنْفَرِجُونَ لَهُ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْكُرْسِيَّ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لا يَصِلُونَ إِلَيْهِ دَثُّوهُ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى أَثْخَنُوهُ فَصُرِعَ، فَشَدَّ عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنُ ظَبْيَانَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَتَى عَبْدَ الْمَلِكِ بِرْأَسِهِ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ الْبَجَلِيُّ:
نَحْنُ قَتَلْنَا مُصْعَبًا وَعِيسَى
…
نَحْنُ أَذَقْنَا مُضَرَ التَّبْئِيسَا
وَقَدْ قَتَلْنَا مِنْهُمُ رَئِيسَا وَتَنَقَّصَ رَجُلٌ مُصْعَبًا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ شِرِّيبًا، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: «اسْكُتْ لا أُمَّ لَكَ.
فَلَوْ عَلِمَ مُصْعَبٌ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ يُنْقِصُ مِنْ مُرُوءَتِهِ مَا شَرِبَهُ» .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَيُّ بَنِي الزُّبَيْرِ أَشْجَعُ؟ قَالَ: «مَا مِنْهُمَا إِلا شُجَاعٌ، وَمَا مِنْهُمَا إِلا مَنْ مَشَى إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَرَاهُ» .
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، قَالَ:" أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا لِخَاصَّتِهِ فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى عَيْبِ مُصْعَبٍ بَعْدَ قَتْلِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ نَظْرَةَ كَرَاهَةٍ لِمَا قَالَ، وَقَالَ: أَمْسِكْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَنْ صَغَّرَ مَقْتُولا صَغَّرَ قَاتِلَهُ قَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ: " أَشْجَعُ النَّاسِ ثَلاثَةٌ: ابْنُ الْكَلْبِيَّةِ، وَأَحْمَرُ قُرَيْشٍ، وَرَاكِبُ الْبَغْلَةِ، فَابْنُ الْكَلْبِيَّةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أُفْرِدَ فِي سَبْعَةٍ، وَأُعْطِيَ الأَمَانَ وَوِلايَةَ الْعِرَاقِ، فَأَبَى وَمَاتَ كَرِيمًا.
وَأَحَمْرُ قُرَيْشٍ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، مَا لَقِيَ خَيْلا قَطُّ إِلا كَانَ فِي سَرْعَانِهَا، وَرَاكِبُ الْبَغْلَةِ عَبَّادُ بْنُ حُصَيْنٍ الْحَبَطِيُّ، مَا كُنَّا فِي كُرْبَةٍ قَطُّ إِلا فَرَّجَهَا ".
قَالَ: فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ، وَكَانَ حَاضِرًا: وَيْحَكَ فَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمِ السَّلَمِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ؟ قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّمَا ذَكَرْنَا الْإِنْسَ، فَأَمَّا الْجِنُّ فَلَمْ نَذْكُرْهُمْ.
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: " لَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَذِنَ لِلنَّاسِ إِذْنًا عَامًّا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَجُثَّةُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ تَكَلَّمَ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَقَالَ: ارْمُوا بِأَبْصَارِكُمْ نَحْوَ مَصَارِعِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَاجْعَلُوا سَلَفَهُمْ لِمَنْ غَبَرَ مِنْكُمْ عِظَةً، وَلا تَكُونُوا أَغْفَالا مِنْ حُسْنِ الاعْتِبَارِ، فَتَنْزِلَ بِكُمْ جَانِحَةُ السَّطْوَةِ، وَتَجُوسَ خِلالَكُمْ بَوَادِرُ النِّقْمَةِ، وَتَطَأَ رِقَابَكُمْ بِثِقَلِهَا الْمَعْصِيَةُ، فَتَجْعَلَكُمْ هَمْدًا رُفَاتًا، وَتَشْتَمِلَ عَلَيْكُمْ بُطُونَ الأَرْضِ أَمْوَاتًا.
إِيَّايَ مَنْ قَوْلِ قَائِلٍ، وَسَفَهِ جَاهِلٍ، فَإِنَّمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَنْ أَسْمَعَ النَّعْرَةَ، فَأُصَمِّمُ تَصْمِيمَ الْحُسَامِ الْمَطْرُورِ، وَأَصُولُ صِيَالَ الْحَنِقِ الْمَوْتُورِ، إِنَّمَا هِيَ الْمُصَافَحَةُ وَالْمُكَافَحَةُ، بِظُبَاتِ السُّيُوفِ، وَأَسَنَّةِ الرِّمَاحِ، وَالْمُعَاوَدَةِ لَكُمْ بِسُوءِ الصَّبَاحِ، فَتَابَ تَائِبٌ، أَوْ هَلَكَ خَائِبٌ، وَالتَّوْبُ مَقْبُولٌ، وْالإِحْسَانُ مَبْدُولٌ، لِمَنْ أَبْصَرَ حَظَّهُ، وَعَرَفَ رُشْدَهُ، فَانْظُرُوا لأنَفُسِكُمْ، وَأقْبِلُوا عَلَى حُظُوظِكُمْ، وَلْيَكُنْ أَهْلُ الطَّاعَةِ مِنْكُمْ يَدًا عَلَى ذِي الْجَهْلِ مِنْ سُفَهَائِكُمْ، وَاسْتَدِيمُوا النِّعْمَةَ الَّتِي ابْتَدَأَتْكُمْ بِرَغَدِ عَيْشِهَا، وَنَفِيسِ زِينَتِهَا، فَإِنَّكُمْ مِنْ ذَلِكَ بَيْنَ فَضِيلَتَيْنِ، عَاجِلِ الْخَفْضِ وَالدَّعَةِ، وَآجِلِ الْجَزَاءِ وَالْمَثُوبَةِ، عَصَمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ وَنَزْغِهِ، وَأَيَّدَكُمْ بِحُسْنِ مَعُونَتِهِ وَحِفْظِهِ، انْهَضُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ لِقَبْضِ أُعْطِيَاتِكُمْ، غَيْرَ مَقْطُوعَةٍ، وَلا مُكَدَّرَةٍ عَلَيْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ: فَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ عِنْدِهِ بِدْارًا، كُلُّهُمْ يَخَافُ أَنْ تَكُونَ السَّطْوَةُ بِهِ
حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُتْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَلَسَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ مَجْلِسًا فِي زَمَانِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ وَلِيُّ عَهْدٍ، وَحَضَرَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَتَمَازَحَا سَاعَةً، وَتَذَاكَرَا الشِّعرَ وَأَيَّامَ الْعَرَبَ، حَتَّى أَفْضَى بِهِمَا الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمُنَافَرَةِ وَالْمُفَاخَرَةِ فِي مَجْلِسِنَا هَذَا بِكَلامٍ يَحْسُنُ إِنْ رُوِيَ، وَيَعْذُبُ إِنْ حُكِيَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ: فَخْرِي فَخْرُكَ، وَذِكْرِي ذِكْرُكَ، وَمَا لأَحَدٍ مِنَّا عَلَى صَاحِبِهِ فَضْلٌ، وَلَسْتُ آمَنُ أَنْ يُخْرِجَنَا ذَلِكَ إِلَى مَا لا نُحِبُّهُ، وَلا نُرِيدُهُ.
فَقَالَ الْوَلِيدُ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ أنْ يَعْرِضَ هَذَا فِي نَفْسِكَ.
فَإِنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ.
قَالَ: فَافْتَخَرَ الْوَلِيدُ مُبْتَدِئًا، فَقَالَ: أَنَا ابْنُ يَزِيدَ السَّيِّدِ الْعَمِيدِ مَنْ أَنَافَ فَفَاقَ شَرَفُهُ، وَكَرُمَ أَصْلُهُ، وَطَرْقُهُ.
وَسَهُلَ بَابُهُ وَكَفُّهُ، وَاشْتَدَّ مِنَ الضَّيْمِ أَنَفُهُ، هُوَ الَّذِي قُسِّمَتْ مَنَافِعُهُ، وَعَمَّتْ صَنَائِعُهُ، وَتَتَابَعَتْ وَقَائِعُهُ، كَانَتْ إِلَيْهِ تَعْمِدُ الْوُفُودُ، وَبِسِيَاسَتِهِ تُرَاضُ الْجُنُودُ، وَبِأَمْرِهِ تُعْهَدُ الْعُهُودُ، وَتَتَضَاءَلُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الأُسُودُ.
ثُمَّ لَعَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ إِذَا سَابَقَ الأَكفَاءَ سَبَقَ، وَإِذَا نَطَقَ صَدَقَ، وَيَفْرِي كُلَّمَا خَلَقَ، وَتُحْيِي مَخَائِلُهُ، إِذَا وَدَقَ، وَيَرْتِقُ إِذَا فُتِقَ، وَلا يُفْتَقُ مَا رَتَقَ، كَانَ تُهْزَمُ الْجُيُوشُ بِاسْمِهِ، وَتَضِلُّ الْحُلُومُ فِي حِلْمِهِ، وَيِعِيشُ أَهْلُ الرَّأْيِ بِعِلْمِهِ، وَيَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ وَقَسْمِهِ، وَيَعْرِفُ فَضْلَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ.
هُوَ الَّذِي قَارَعَ عَنِ الْمُلْكِ فَفَلَجَ، وَأَدْمَجَ حَبْلَ الْجَمَاعَةِ فَانْدَمَجَ، وَأَرْتَجَ بَابَ الْبَاطِلِ فَارْتُتِجَ، وَلاقَ بِهِ الْمُلْكُ وَابْتَهَجَ.
ثُمَّ لِمَرْوَانَ بَقِيَّةُ قُرَيْشٍ، وَتَالِي الْقُرْآنِ، سَمَا لِلْمُلْكِ، فَذَلَّلَ صَعْبَهُ وَرَدَّ مِنْ كُلِّ رَئِيسٍ شَغْبَهُ، وَنَفَّسَ عَنْ كُلِّ مَكْرُوبٍ كَرْبَهُ، وَأَيَّدَ اللَّهُ بِالنَّصْرِ حِزْبَهُ، وَوَرَّثَ الإِمَامَةَ وَالْخِلافَةَ عَقِبَهُ، كَانَ يُسْتَظَلُّ بِظِلِّهِ، وَيَفِي بِعَهْدِهِ، وَيَجْبِي الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ، وَيَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ، وَيُعْرَفُ هَدْيُهُ فِي سُبُلِهِ، ثُمَّ لِلْحَكَمِ الْمَاجِدِ الْعَلَمِ، كَانَ لا تُخْمَدُ نِيرَانُهُ، وَلا تُذَمَّ جِفَانُهُ، وَلا تُؤْمَنُ أَضْغَانُهُ، وَلا يُقَدَّرُ شَأْنُهُ، ثُمَّ لأَبِي الْعَاصِ، الْكَرِيمِ الْمَحَلِّ وَالْعِرَاصِ، كَانَ يُصْدَرُ عَنْ رَأْيِهِ، وَيُوثَقُ بِرَأْيِهِ، وَيُعَاشُ بِحِبَائِهِ، وَيُؤْمَنُ بِغِنَائِهِ، وَيُقْتَاسُ عَلَى بِنَائِهِ.
ثُمَّ لأُمَيَّةَ الَّذِي وَلِيَ كُلَّ عَلِيَّةٍ، وَلَدَ الْقُرُومَ فَأَنْجَبَ، وَغَالَى بِالْحَمْدِ فَأَرْغَبَ، وَزُوِّقَ عَلَيْهِ الْمَجْدُ وَطُنِّبَ، وَأَرْوَى زَنْدَهُ وَأَثْقَبَ، وَبَذَلَ مَالَهُ فَأَنْهَبَ.
ثُمَّ لِعَبْدِ شَمْسٍ فَارجِ كُلِّ لَبْسٍ، لَيَّاذِ قُرَيْشٍ إِذَا حُصِّلُوا، وَحَلِيمِهَا إِذَا جَهِلُوا، وَجَبَلِهَا إِذَا زُلْزِلُوا، وَزَعِيمِهَا إِذَا احْتَفَلُوا، وَرَبِيعِهَا إِذَا أُمْحِلُوا.
وَأَفْتَخِرُ بِفَتَى الْفِتْيَانِ، يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، كَانَ سَمْحَ السُّمَحَاءِ، وَلَبِيبَ الأَلِبَّاءِ، الَّذِي كَمَّلَ الْجُودَ وَالأَصَالَةَ وَالْبَرَاعَةَ، وَلَدَتْهُ الْقَرُومُ مِنْ قُضَاعَةَ.
ثُمَّ لِقَرِيعِ الأَنَامِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ أَثْمَنِ مَنْ فِي الْمَكَارِمِ جَوْهَرُهُ، ثُمَّ غَطَّى الْفَاخِرَ مَفْخَرُهُ، وَبَذَّ أَخْيَارَ النَّاسِ خَيْرُهُ، وَزَهَا بِهِ سَرِيرُهُ، وَمِنْبَرُهُ، طُبِعَتْ عَلَى الْحِلْمِ سَجِيَّتُهُ، وَكَمُلَتْ أَخْلاقُهُ وَمُرُوءَتُهُ، وَاسْتَوَتْ عَلانِيَتُهُ وَسَرِيرَتُهُ، وَرَضِيَتْ بِسِيَاسَتِهِ رَعِيَّتُهُ، وَحَبْرُ الأَشْرَافِ عَطِيَّتُهُ، مَنْ طَلَبَ فأَدَرْكَ بثِأَرْهِ، وَشَمَّرَ لِلْحَرْبِ بِأَنْصَارِهِ، وَأَخَذَ الأَمْرَ مِنْ أقَطْارِهِ، ثُمَّ لِصَخْرٍ مَعْدِنِ النُّبْلِ وَالْفَخْرِ، مَفْزَعِ قَوْمِهِ إِذَا رَهِبُوا، وَغِيَاثِهِمْ إِذَا أَجْدَبُوا، وَمِدْرَهِهِمْ إِذَا خَطَبُوا، وَفَارِسِهِمْ إِذَا رَكِبُوا، مُيَسِّرِ كُلِّ عَسِيرٍ، وَرَئِيسِ كُلِّ كَبِيرٍ، وَبَدْرِ كُلِّ مُنِيرٍ، ثُمَّ لِحَرْبٍ مُنَفِّسِ كُلِّ كَرْبٍ، قَائِدِ قَوْمِهِ فِي الْحَقَائِقِ، وَعِصْمَتِهِمْ فِي الْوَثَائِقِ، وَحَامِيهِمْ فِي الْمَضَايِقِ، يَعْلُو عَلَى الْمَنَازِعِ فِي خِصَامِهِ، وَتَثْبُتُ قَدَمُهُ فِي مَقَامِهِ، وَتُؤْثَرُ أَمْثَالُ كَلامِهِ، وَيَزْدَحِمُ النَّاسُ عَلَى طَعَامِهِ، وَتَتَحَدَّثُ الْمَوَاسِمُ بِأَيَّامِهِ.
فَلَمَّا فَرَغَ الْوَلِيدُ، قَالَ لعَبْدِ اللَّهِ: تَكَلَّمْ.
فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا ابْنُ الْبُدُورِ الزَّوَاهِرِ، وَالْبُحُورِ الزَّوَاخِرِ، وَالْغُيُوثِ الْمَوَاطِرِ، وَاللُّيُوثِ الْهَوَاصِرِ، الَّذِينَ بَرَزَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَأْوُهُمْ، وَأَنَافَ عَلَى كُلِّ بِنَاءٍ بِنَاؤُهُمْ، وَكَانَ خَيْرَ الآبَاءِ آبَاؤُهُمْ، أَنَا ابْنُ الْفُرُوعِ الزَّكِيَّةِ، وَالْمَصَابِيحِ الْمُضِيَّةِ، وَالأَشْيَاخِ الرَّضِيَّةِ، الْهُدَاةِ الْمَهْدِيَّةِ، ضَرَبُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى التُّقَى، وَأَقَامُوا لِلنَّاسِ مَعَالِمَ الْهُدَى.
وَاسْتَنْقَذُوهُمْ مِنَ الضَلالَةِ وَالرَّدَى، وَدَوَّخُوا صَنَادِيدَ الْعِدَا.
أَخْرَجَنَا اللَّهُ مِنْ أَكْرَمِ طِينَةٍ، وَاصْطَفَانَا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمَكْنُونَةِ، وَاخْتَصَّنَا بِالْوَحْيِ وَالدَّيْنُونَةِ، وَجَعَلَ لَنَا السُّنَنَ الْمَسْنُونَةَ، يَنْزِلُ وَحْيُ اللَّهِ فِي أَبْيَاتِنَا، وَيُمْلِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، عَلَى آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، تَحِلُّ الْمَلائِكَةُ بِعَقْوَاتِنَا، فَلَنَا كلُّ فَضْلٍ مَعْدُودٍ، وَسَنَاءٍ مَحْمُودٍ، وَنَحْنُ زَيْنُ كُلِّ مَشْهُودٍ ، وَغُرَّةُ كُلِّ طَارِفٍ وَمَتْلُودٍ.
مِنَّا خِيرَةُ اللَّهِ الْمُصْطَفَى، وَرَسُولُهُ الْمُجَتَبَى، وَأَمِينُهُ الْمُرْتَضَى، وَالْمُؤْثَرُ بِسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، صلى الله عليه وسلم، وَمِنَّا حَمْزَةُ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ، وَحَامِيَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَآفَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَسَيِّدُ شُهَدَاءِ الْعَالَمِينَ، كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَهِيبًا، وَلِمَالِهِ وَهُوبًا، وَفِي الإِسْلامِ سَبَّاقًا خَطِيبًا، وَعَلَى الأَعْدَاءِ أَبَّاءً صَلِيبًا.
وَمِنَّا عَلِيٌّ ذُو السَّوَابِقِ الْبَاسِقَةِ، وَالْمَنَاقِبِ الْفَائِقَةِ، الَّذِي لَيْسَتْ كَسَابِقَتِهِ سَابِقَةٌ، أَقْدَمُ قُرَيْشٍ سَبْقًا، وَأَعْلَمُهُمْ عِلْمًا، وَأَجْوَدُهُمْ فَهْمًا، وَأَرْجَحُهُمْ حِلْمًا، وَأَكْرَمُهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم نَفْسًا، وَأَفْضَلُهُمْ وَلَدًا وَعُرْسًا، وَخَيْرُهُمْ مَحْتِدًا وَجِنْسًا، أَصْدَقُ الْعَرَبِ بَأْسًا وَأَشَدُّهُمْ مِرَاسًا.
وَمِنَّا الْعَبَّاسُ الْمُفَضَّلُ بِسَرِيرَتِهِ، الْمُسْتَمِرُّ لِمَرِيرَتِهِ، الْمُتَحَبِّبُ إِلَى عَشِيرَتِهِ، كَهْفُ قُرَيْشٍ إِذَا اسْتَكْهَفُوا، وَرَءُوفُهُمْ إِذَا اسَتَرْأَفُوا، وَعَدْلُهُمْ إِذَا اسْتَنْصَفُوا.
وَمِنَّا ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ حَبْرُ الأَحْبَارِ، وَبَرُّ الأَبْرَارِ، الْعَالِمُ بِكُلِّ مُشْكِلَةٍ، وَالْقَائِمُ بِكُلِّ مُعْضِلَةٍ.
ثُمَّ أَنَا ابْنُ مُعَاوِيَةَ، وَارِثُ كُلِّ فَضِيلَةٍ، وَمُصْطَنِعُ كُلِّ جَمِيلَةٍ، وَمُفَرِّجُ كُلِّ جَلِيلَةٍ، وَمُسَيِّلُ كُلِّ جَزِيلَةٍ.
ثُمَّ لِعَبْدِ اللَّهِ مُشْتَرِي الَحْمَدِ بِنَوَالِهِ، وَالْمُؤْثِرِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالِهِ، وَالْمُرْوِي الظِّمَاءَ بِسِجَالِهِ.
مَنْ أَنَجْدَ ذِكْرُهُ وَغَارَ، وَغَمَرَ جُودُهُ الْبِحَارَ، وَعَمَّ عَطَاؤُهُ الأَمْصَارَ، سَلَكَ سَبِيلَ الْمُرُوَّةِ، وَأَخَذَ بِأَخْلاقِ النُّبُوَّةِ، وَتَقَبَّلَ سُنَّةَ الأُبُوَّةِ.
ثُمَّ لِجَعْفَرٍ الطَّيَّارِ مَعَ الْحِسَانِ، وَالْمُصَارِعِ لِلأَقْرَانِ، وَالْمُظْهِرِ لِلْبُرْهَانِ، وَالْقَائِمِ بِطَاعَةِ الرَّحْمَنِ، أَشْبَهِ النَّاسِ بِنَبِيِّهِ خَلْقًا وُخُلُقًا، وَأَقْدَمِهِمْ فِي الإِسْلامِ سَبْقًا، وَأَحَقِّهِمِ بِكُلِّ سَنَاءٍ حَقًّا.
ثُمَّ لأَبِي طَالِبٍ مِدْرَهِ قُرَيْشٍ إِذَا حَشَدُوا، وَرَئِيسِهِمْ إِذَا عَقَدُوا، وَعَمِيدِهِمْ إِذَا اعْتَمَدُوا، وَفَارِجِ كُرَبِهِمْ إِذَا جَهِدُوا، وَلَدَ الْكِرَامَ وَوَلَدُوهُ، وَأَشْبَهَ أَبَاهُ، وَأَشْبَهَهُ بَنُوهُ.
ثُمَّ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْوَارِي الزِّنَادِ، الرَّفِيعِ الْعِمَادِ، الْمُرْغِمِ لِلأَعَادِي، الْقَائِلِ بِالسَّدَادِ، مُحْتَفِرِ زَمْزَمَ خَيْرَ الْحَفَائِرِ، وَسَاقِي الْحَجِيجِ فِيهِ بِالْمَفَاخِرِ، جَمَعَ قُرَيْشًا بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا، وَقَادَهُمْ حَتَّى اسْتَوْسَقُوا، وَبَذَّهُمْ حِينَ نَطَقَ وَنَطَقُوا.
ثُمَّ لِهَاشِمٍ مُطْعِمِ النَّاسَ فِي الشِّتَاءِ وَالأَصْيَافِ، وَمَحَلِّ الْوُفِودِ وَالأَضْيَافِ، وَمَلْجَأِ كُلِّ هَارِبٍ وَمَضَافِ، وَالسَّابِقِ إِلَى غَايَاتِ الَأَشْرَافِ.
أَطْعَمَ قُرَيْشًا حِينَ أَسْنَتَتْ، وَجَادَ بِمَالِهِ حِينَ أَمْسَكَتْ، وَسَاهَمَ الْمُهِمَّةَ لَمَّا أَضْلَعَتْ، وَقَهَرَ بِنَاؤُهُ بِنَاءَهَا لَمَّا ابْتَنَتْ.
فَأَنَا خَيْرُ الْعَالَمِينَ أْشيَاخًا، وَأَكْرَمُهُمْ أَرُومَةً وَأَسْنَاخًا، وَأَعَزُّهُمْ سَيِّدًا بَذَّاخًا، وَأَخْصَبُهُمُ مَحِلَّةً وَمُنَاخًا، عَلَيْهِمِ تَنْزِلُ الأَنْبَاءُ، وَبِهِمْ وَلَّفَتْ قُرَيْشٌ الأَحْيَاءَ، وَأَقَرَّتْ بِفَضْلِهَا الأَمْلاءُ، وَأَذْعَنَتِ الرُّؤَسَاءُ، أَنَا ابْنُ الأَعْلامِ لِلأَعْلامِ، وَابْنُ سَادَةِ الإِسْلامِ، وَمَعْدِنِ النُّبُوَّةِ وَالأَحْكَامِ، وَأَكْرَمَ الإِسْلامُ أَسْلافَنَا، وَأَطْهَرَ الأَطْرَافَ أَطْرَافُنَا، وَأَعَزَّ الأَحْلافَ أَحْلافُنَا، يَضْمَحِلُّ الْفَخْرُ عِنْدَ فَخْرِنَا، وَيُنْسَى كُلُّ ذَكْرٍ مَعَ ذِكْرِنَا، وَيَصْغُرُ كُلُّ قَدْرٍ عِنْدَ قَدْرِنَا.
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ كَلامِهِمَا تَفَرَّقَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، قَالَ: حَجَّ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي بَعْضِ الأَعْوَامِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بَالْعَطَاءِ، فَخَرَجَتْ بَدْرَةٌ مَكْتُوبُ عَلَيْهَا، مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَبَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ قُبُولِهَا، وَقَالُوا: أَفَمَا كَانَ إِعْطَاؤُنَا مِنَ الْفَيْءِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مِثْلُنَا وِمِثْلُكُمْ، إِنَّ أَخَوَيْنِ خَرَجَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُسَافِرَيْنِ، فَنَزَلا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ تَحْتَ صَفًا، فَلَمَّا دَنَا الرَّوَاحُ، خَرَجَتْ إِلَيْهِمَا مِنْ تَحْتِ الصَّفَا حَيَّةٌ تَحْمِلُ دِينَارًا، فَأَلْقَتْهُ إِلَيْهِمَا، فَقَالا: إِنَّ هَذَا لِمِنْ كَنْزٍ، فَأَقَامَا عَلَيْهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، كُلَّ يَوْمٍ تَخْرُجُ إِلَيْهِمَا بِدِينَارٍ.
فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِلَى مَتَى نَنْتَظِرُ هَذِهِ الْحَيَّةَ؟ أَلا نَقْتُلُهَا فَنَحْفُرُ هَذَا الْكَنْزَ فَنَأَخْذُهُ؟ فَنَهَاهُ أَخُوهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا تَدْرِي لَعَلَّكَ تَعْطِبُ وَلا تُدْرِكُ الْمَالَ.
فَأَبَى عَلَيْهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا مَعَهُ وَرَصَدَ الْحَيَّةَ حَتَّى خَرَجَتْ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً جَرَحَتْ رَأْسَهَا وَلَمْ يَقْتُلْهَا.
فَثَارَتِ الْحَيَّةُ فَقَتَلَتْهُ، وَرَجَعَتْ إِلَى جُحْرِهَا، فَقَامَ أَخُوهُ فَدَفَنَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ خَرَجَتِ الْحَيَّةُ مَعْصُوبًا رَأْسهَا، لَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ، فَقَالَ لَهَا: يَا هَذِهِ إِنِّي وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ مَا أَصَابَكَ، وَلَقَدْ نَهَيْتُ أَخِي عَنْ ذَلِكَ، فَهَلْ لَكِ أنْ نَجْعَلَ اللَّهَ بَيْنَنَا، لا تَضُرِّينِي وَلا أَضُرُّكِ، وَتَرْجِعِينَ إِلَى مَا كُنْتِ عَلَيْهِ؟ قَالَتِ الْحَيَّةُ لا.
قَالَ: وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّ نَفْسَكَ لا تَطِيبُ أَبَدًا، وَأَنْتَ تَرَى قَبْرَ أَخِيكَ، وَنَفْسِي لا تَطِيبُ لَكَ أَبَدًا، وَأَنَا أَذْكُرُ هَذِهِ الشَّجَّةَ، وَأَنْشَدَهُمْ شِعْرًا لِلنَّابِغَةِ:
فَقَالَتْ أَرَى قَبْرًا تَرَاهُ مُقَابِلِي
…
وَضَرْبَةَ فَأْسٍ فَوْقَ رَأْسِي فَاغِرَهْ
فَيَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَلِيَكُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ فَظًّا غَلِيظًا مُضَيِّقًا عَلَيْكُمْ، فَسَمِعْتُمْ لَهُ وَأَطَعْتُمْ، ثُمَّ وَلِيَكُمْ عُثْمَانُ، فَكَانَ سَهْلا لَيِّنًا كَرِيمًا، فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُمُوهُ، وَبَعَثَنَا عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا يَوْمَ الْحَرَّةِ فَقَتَلْتُمُوهُ.
فَنَحْنُ أَعْلَمُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنَّكُمْلا تُحِبُّونَنَا أَبَدًا، وَأَنْتُمْ تَذْكُرُونَ يَوْمَ الْحرَّةِ، وَنَحْنُ لا نُحِبُّكُمْ أَبَدًا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَقْتَلَ عُثْمَانَ
ورَوَاهُ جَمِيعُ النَّاسِ مِمَّنْ عُنِيَ بِنَقْلِ الآثَارِ وَالسِّيَرِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَرْبَعُ خِصَالٍ كُنَّ فِي مُعَاوِيَةَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلا وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَكَانَتْ مُوبِقَةً: انْتِزَاؤُهُ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ بِالسُّفَهَاءِ حَتَّى ابْتَزَّهَا أَمْرَهَا بِغَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْهُمْ، وَفِيهِمْ بَقَايَا الصَّحَابَةِ وَذَوُو الْفَضِيلَةِ.
وَاسْتِخْلافُهُ بَعْدَهُ ابْنَهُ يَزِيدَ، سِكِّيرًا خِمِّيرًا، يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَيَضْرِبُ بِالطَّنَابِيرِ.
وَادِّعَاؤُهُ زِيَادًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجْرُ رَوَاهُ الْمَدَائِنِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كَلامِ ابْنِ عَبَّاسٍ لأَبِي مُوسَى، وَقَوْلُهُ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَرْتَضُوكَ لِفَضْلٍ عِنْدَكَ لَمْ تُشَارِكْ فِيهِ. . . وَذَكَرَ فِي آخِرِهِ: فَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ:
وَاللَّهِ مَا كَلَّمَ الأَقْوَامَ مِنْ بَشْرٍ
…
بَعْدَ الْوَصِيِّ عَلِيٍّ كَابْنِ عَبَّاسِ
أَوْصَى ابْنُ قَيْسٍ بِأَمْرٍ فِيهِ عِصْمَتُهُ
…
لَوْ كَانَ فِيهَا أَبُو مُوسَى مِنَ النَّاسِ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ مَكْرَ صَاحِبِهِ
…
أَرْجُو رَجَاءً مَخُوفًا شِيبَ بِالْيَاسِ.
إِنَّ يَزِيدَ بْنَ حُجَيَّةَ التَّيْمِيَّ، شَهِدَ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ وَنَهْرَوَانَ مَعَ عَلِيٍّ عليه السلام، ثُمَّ وَلاهُ الرَّيَّ وَدَسْتَبَى، فَسَرَقَ مِنْ أَمْوَالِهِمَا وَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، وَهَجَا عَلِيًّا عليه السلام، وَأَصْحَابَهُ، وَمَدَحَ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابَهُ، فَدَعَا عَلَيْهِ عَلِيٌّ، عليه السلام، وَرَفَعَ أَصْحَابُهُ أَيْدِيَهُمْ فَأَمَّنُوا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ كِتَابًا يُقَبِّحُ إِلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَكَانَ الْكِتَابُ شِعْرًا.
فَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ حُجَيَّةَ إِلَيْهِ: لَوْ كُنْتُ أَقُولُ شِعْرًا لأَجَبْتُكَ، وَلَكِنْ قَدْ كَانَ مِنْكُمْ خِلالٌ ثَلاثٌ لا تَرَوْنَ مَعَهُنَّ شَيْئًا مِمَّا تُحِبُّونَ: أَمَّا الأُولَى: فَإِنَّكُمْ سِرْتُمْ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى إِذَا دَخَلْتُمْ بِلادَهُمْ، وَطَعَنْتُمُوهُمْ بِالرِّمَاحِ، وَأَذَقْتُمُوهُمْ أَلَمَ الْجِرَاحِ، رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، فَسَخِرُوا مِنْكُمْ وَرَدُّوكُمْ عَنْهُمْ، فَوَاللَّهِ وَاللَّهِ لا دَخَلْتُمُوهَا بِمِثْلِ تِلْكَ الشَّوْكَةِ ، وَالشِّدَّةِ أَبَدًا، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ بَعَثُوا حَكَمًا، وَبَعَثْتُمْ حَكَمًا، فَأَمَّا حَكَمَهُمْ فَأَثْبَتَهُمْ، وَأَمَّا حَكَمَكُمْ فَخَلَعَكُمْ، وَرَجَعَ صَاحِبَهُمْ يُدْعَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَجَعْتُمْ مُتَضَاغِنِينَ.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ قُرَّاءَكُمْ وَفُقَهَاءَكُمْ وَفُرْسَانَكُمْ خَالَفُوكُمْ، فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِمْ فَقَتَلْتُمُوهُمْ.
ثُمَّ كَتَبَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ بَيْتَيْنِ لِعَفَّانَ بْنِ شُرَحْبِيلَ التَّمِيمِيِّ:
أَحْبَبْتُ أَهْلَ الشَّامِ مِنْ بَيْنَ الْمَلا
…
وَبَكَيْتُ مِنْ أَسَفٍ عَلَى عُثْمَانِ
أَرْضًا مُقَدَّسَةً وَقَوْمًا مِنْهُمُ
…
أَهْلُ الْيَقِينِ وَتَابِعُو الْفُرْقَانِ
قَالَ الْمُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: " دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ أَبِي يَأْتِيهِ فَيَتَحَدَّثُ مَعَهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَيَّ فَيَذْكُرُ مُعَاوِيَةَ وَعَقْلَهُ، وَيُعْجَبُ بِمَا يَرَى مِنْهُ، إِذْ جَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمْسَكَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَرَأَيْتُهُ مُغْتَمًّا، فَانْتَظَرْتُهُ سَاعَةً، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ لأَمْرٍ حَدَثَ فِينَا، فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَاكَ مُغْتَمًّا مُنْذُ اللَّيْلَةِ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ جِئْتُ مِنْ أَكْفَرِ النَّاسِ وَأَخْبَثِهِمْ، قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ وَقَدْ خَلَوْتُ بِهِ: إِنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ سِنًّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَوْ أَظْهَرْتَ عَدْلا، وَبَسَطْتَ خَيْرًا فَإِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ، وَلَوْ نَظَرْتَ إِلَى إِخْوَتِكَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَوَصَلْتَ أَرْحَامَهَمْ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَهُمُ الْيَوْمَ شَيْءٌ تَخَافُهُ، وَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى لَكَ ذِكْرُهُ، وَثَوَابُهُ؟ فَقَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! أَيُّ ذِكْرٍ أَرْجُو بَقَاءَهُ! مَلَكَ أَخُو تَيْمٍ فَعَدَلَ وَفَعَلَ مَا فَعَلَ، فَمَا عَدَا أَنْ هَلَكَ، حَتَّى هَلَكَ ذِكْرُهُ إِلا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: أَبُو بَكْرٍ.
ثُمَّ مَلَكَ أَخُو عَدِيٍّ، فَاجْتَهَدَ وَشَمَّرَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا عَدَا أَنْ هَلَكَ حَتَّى هَلَكَ ذِكْرُهُ، إِلا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: عُمَرُ.
وَإِنَّ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ لَيُصَاحُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَيُّ عَمَلٍ يَبْقَى؟ وَأَيُّ ذِكْرٍ يَدُومُ بَعْدَ هَذَا لا أَبَا لَكَ؟ لا وَاللَّهِ إِلا دَفْنًا دَفْنًا ".
لَمَّا بَايَعَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ أَبَا بَكْرٍ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعُوهُ، مَرَّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِالْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام، فَوَقَفَ وَأَنْشَدَ:
بَنِي هَاشِمٍ لا تُطْمِعُوا النَّاسَ فِيكُمُ
…
وَلا سِيَّمَا تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ أَوْ عَدِي
فَمَا الأَمْرُ إِلا فِيكُمُ وَإِلَيْكُمُ
…
وَلَيْسَ لَهَا إِلا أَبُو حَسَنٍ عَلِي
أَبَا حَسَنٍ فَاشْدُدُ بِهَا كَفَّ حَازِمٍ
…
فَإِنَّكَ بِالأَمْرِ الَّذِي يُرْتَجَى مَلِي
وَأَيُّ امْرِئٍ يَرْمِي قُصَيًّا وَرَأْيُهَا
…
مَنِيعُ الْحِمَى وَالنَّاسُ مِنْ غَالَبٍ قَصِي
فَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي سُفْيَانَ: " إِنَّكَ تُرِيدُ أَمْرًا لَسْنَا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدًا فَأَنَا لَهُ.
فَتَرَكَهُ أَبُو سُفْيَانَ، وَعَدَلَ إِلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، أَنْتَ أَحَقُّ بِمِيرَاثِ أَخِيكَ، امْدُدْ يَدَكَ لأُبَايِعَكَ، فَلا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ النَّاسُ بَعْدَ بَيْعَتِي إِيَّاكَ.
فَضَحِكَ الْعَبَّاسُ، وَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، يَدْفَعُهَا عَلِيٌّ وَيَطْلُبُهَا الْعَبَّاسُ! فَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ خَائِبًا.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ الأَوْسَ تَزْعُمُ أَنَّ أَوْلَ مَنْ بَايَعَ أَبَا بَكْرٍ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ.
، وَتَزْعُمُ الْخَزْرَجُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ.
فَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ أَقْبَلَتِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي بَايَعَتْهُ تَزِفُّهُ زَفًّا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ افْتَرَقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَاجْتَمَعَ قَوْمٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَقَوْمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَعَاتَبُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ:«يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، إِنَّكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ أُولِي فَضْلٍ وَنَصْرٍ وَسَابِقَةٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيكُمْ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ وَلا عُمَرَ وَلا عَلِيٍّ وَلا أَبِي عُبَيْدَةَ» .
فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: " إِنَّا لا نُنْكِرُ فَضْلَ مَنْ ذَكَرْتَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّ مِنَّا لَسَيِّدَ الأَنْصَارِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَمَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُقْرِئَهُ السَّلامَ، وَأَنْ يَأْخُذَ عَنْهُ الْقُرْآنَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمَنْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامَ الْعُلَمَاءِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَمَنْ أَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِمَّنْ سَمَّيْتَ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ لَوْ طَلَبَ هَذَا الأَمْرَ لَمْ يُنَازِعْهُ فِيهِ أَحَدٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ".
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي.
إِنَّ لِي شَيْطَانًا يَعْتَرِينِي، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّايَ إِذَا غَضِبْتُ، لا أُوثِرُ فِي أَشْعَارِكُمْ، وَأَبْشَارِكُمْ.
الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ مِنْكُمْ قَوِيٌّ حَتَّى أَرُدَّ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَالْقَوِيُّ ضِعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ.
إِنَّهُ لا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلا ضَرَبَهَمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلا تَشِيعُ فِي قَوْمٍ الْفَاحِشَةُ إِلا عَمَّهُمُ الْبَلاءُ.
أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ.
قُومُوا إِلَى صَلاتِكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ» .
قَالَ ابْنُ أَبِي عَزَّةَ الْقُرَشِيُّ:
شُكْرًا لِمَنْ هُوَ بِالثَّنَاءِ حَقِيقُ
…
ذَهَبَ اللَّجَاجُ وَبُويِعَ الصِّدِّيقُ
مِنْ بَعْدِ مَا زَلَّتْ بِسَعْدٍ نَعْلُهُ
…
وَرَجَا رَجَاءً دُونَهُ الْعَيُّوقُ
حَفَّتْ بِهِ الأَنْصَارُ عَاصِبَ رَأْسِهِ
…
فَأَتَاهُمُ الصِّدِّيقُ وَالْفَارُوقُ
وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالَّذِينَ إِلَيْهِمُ
…
نَفْسُ الْمُؤَمِّلِ لِلَّقِاءِ تَتُوقُ
كُنَّا نَقُولُ لَهَا عَلِيٌّ وَالرِّضَا
…
عُمَرٌ وَأَوْلاهُمْ بِذَاكَ عَتِيقُ
فَدَعَتْ قُرَيْشٌ بِاسْمِهِ فَأَجَابَهَا
…
إِنَّ الْمُنَوَّهُ بِاسْمِهِ الْمَوْثُوقُ
قُلْ لِلأُلَى طَلَبُوا الْخِلافَةَ زِلَّةٌ
…
لَمْ يَخْطُ مِثْلَ خُطَاهُمُ مَخْلُوقُ
إِنَّ الْخِلافَةَ فِي قُرَيْشٍ مَالَكُمْ
…
فِيهَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ مَعْرُوقُ
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا بُويِعَ افْتَخَرَتْ تَيْمُ بْنُ مُرَّةَ.
قَالَ: وَكَانَ عَامَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَجُلُّ الأَنْصَارِ لا يَشُكُّونَ أَنَّ عَلِيًّا هُوَ صَاحِبُ الأَمْرِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَخُصُوصًا يَا بَنِي تَيْمٍ، إِنَّكُمْ، إِنَّمَا أَخَذْتُمُ الْخِلافَةَ بِالنُّبُوَّةِ.
وَنَحْنُ أَهْلُهَا دُونَكُمْ، وَلَوْ طَلَبْنَا هَذَا الأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ أَهْلُهُ لَكَانَتْ كَرَاهَةُ النَّاسِ لَنَا أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَتِهِمْ لِغَيْرِنَا، حَسَدًا مِنْهُمْ لَنَا وَحِقْدًا عَلَيْنَا، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِنَا عَهْدًا هُوَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُ وَلَدِ أَبِي لَهَبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ شِعْرًا:
مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ الأَمْرَ مُنْصَرِفٌ
…
عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ
…
وَأَعْلَمَ النَّاسِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ
وَأَقْرَبَ النَّاسِ عَهْدًا بِالنَّبِيِّ وَمَنْ
…
جِبْرِيلُ عَوْنٌ لَهُ فِي الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ
مَا فِيهِ مَا فِيهِمُ لا يَمْتَرُونَ بِهِ
…
وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ مَا فِيهِ مِنَ الْحَسَنِ
مَاذَا الَّذِي رَدَّهُمْ عَنْهُ فَتَعْلَمُهُ
…
هَا إِنَّ ذَا غَبْنُنَا مِنْ أَعْظَمَ الْغَبَنِ
قَالَ الزُّبَيْرُ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَنَهَاهُ وَأَمَرَهُ أَلا يَعُودَ، وَقَالَ:«سَلامَةُ الدِّينِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ» .
وَكَانَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ شِيعَةً لأَبِي بَكْرٍ، وَمِنَ الْمُنْحَرِفِينَ عَنْ عَلِيٍّ فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا رُمِينَا فِي بَدْءِ هَذَا الدِّينِ بِأَمْرٍ، ثَقُلَ عَلَيْنَا وَاللَّهِ مَحْمَلُهُ، وَصَعُبَ عَلَيْنَا مُرْتَقَاهُ، وَكُنَّا كَأَنَّا فِيهِ عَلَى أَوْتَارٍ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا لَبِثْنَا أَنْ خَفَّ عَلَيْنَا ثِقَلُهُ، وَذَلَّ لَنَا صَعْبُهُ، وَعَجِبْنَا مِمَّنْ شَكَّكَ فِيهِ بَعْدَ عُجْبِنَا مِمَّنْ آمَنَ بِهِ حَتَّى أُمِرْنَا بِمَا كُنَّا نَنْهَى عَنْهُ، وَنُهِينَا عَمَّا كُنَّا نَأْمُرُ بِهِ، وَلا وَاللَّهِ مَا سَبَقْنَا إِلَيْهِ بِالْعُقُولِ، وَلَكِنَّهُ التَّوْفِيقُ.
أَلا وَإِنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَنْقَطِعْ حَتَّى أَحْكَمَ، ولَمْ يَذْهَبِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَنَسْتَبْدِلَ بَعْدَهُ نَبِيًّا وَلا بَعْدَ الْوَحْيِ وَحْيًا، وَنَحْنُ الْيَوْمَ أَكْثَرُ مِنَّا أَمْسِ، وَنَحْنُ أَمْسِ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ.
مَنْ دَخَلَ فِي هَذَا الدِّينِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ، وَمَنْ تَرْكَهُ رَدَدْنَاهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا صَاحِبُ الأَمْرِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ، وَلا لِيُخْتَلَفَ فِيهِ، وَلا الْخَفِيِّ الشَّخْصِ، وَلا الْمَغْمُوزِ الْقَنَاةِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ كَلامِهِ.
وَمَدَحَهُ حَزْنُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ «سَهْلا» وَهُوَ جَدُّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْفَقِيهِ، وَقَالَ:
وَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ كَثِيرَةٌ
…
فَلَمْ يَكُ مِنْهُمْ فِي الرِّجَالِ كَخَالِدِ
تَرَقَّى فَلَمْ يَزْلِقْ بِهِ صَدْرُ نَعْلِهِ
…
وَكَفَّ فَلَمْ يَعْرِضْ لِتِلْكَ الأَوَابِدِ
فَجَاءَ بِهِ غَرَّاءَ كَالْبَدْرِ ضَوْءُهَا
…
فَسَمَّيْتُهَا فِي الْحُسْنِ أُمِّ الْقَلائِدِ
أَخَالِدُ لا تَعْدِمْ لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ
…
قِيَامَكَ فِيهَا عِنْدَ قَذْفِ الْجَلامِدِ
كَسَاكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مَجْدَهُ
…
وَعَلَّمَكَ الأَشْيَاخُ ضَرْبَ الْقَمَاحِدِ
تُقَارِعُ فِي الإِسْلامِ عَنْ صُلْبِ دِينِهِ
…
وَفِي الشِّرْكِ عَنْ أَحْسَابِ جَدٍّ وَوَالِدِ
وَكُنْتَ لِمَخْزُومِ بْنِ يَقْظَةَ جُنَّةً
…
يُعِدُّكَ فِيهَا مَاجِدًا وَابْنَ مَاجِدِ
إِذَا مَا سَمَا فِي حَرْبِهَا أَلْفُ فَارِسٍ
…
عُدِلْتَ بِأَلْفٍ عِنْدَ تِلْكَ الشَّدَائِدِ
وَمَنْ يَكُ فِي الْحَرْبِ الْمُثِيرَةِ وَاحِدًا
…
فَمَا أَنْتَ فِي الْحَرْبِ الْعَوَانِ بِوَاحِدِ
إِذَا نَابَ أَمْرٌ فِي قُرَيْشٍ مُخَلِّجٍ
…
تَشِيبُ لَهُ رُءُوسُ الْعَذَارَى النَّوَاهِدِ
تَوَلَّيْتَ مِنْهُ مَا يُخَافُ وَإِنْ تَغِبْ
…
يَقُولُوا جَمِيعًا حَظُّنَا غَيْرُ شَاهِدِ
382 -
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ الْمَعْرُوفُ بَابْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: " لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، نَدِمَ قَوْمٌ كَثِيرٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى بَيْعَتِهِ، وَلامَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَذَكَرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهَتَفُوا بِاسْمِهِ، وَإِنَّهُ فِي دَارِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمِ، وَجَزَعَ لِذَلِكَ الْمُهَاجِرُونَ، وَكَثُرَ فِي ذَلِكَ الْكَلامُ، وَكَانَ أَشَدَّ قُرَيْشٍ عَلَى الأَنْصَارِ نَفَرٌ فِيهِمْ، وَهُمْ: سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ الْمَخْزُومِيَّانِ، وَهَؤُلاءِ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ حَارَبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، ثُمَّ دَخَلُوا فِي الإِسْلامِ، وَكُلُّهُمْ مَوْتُورٌ قَدْ وَتَرَهُ الأَنْصَارُ.
أَمَّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَأَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدَّخْشَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَضَرَبَهُ عُرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو فَجَرَحَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ فَارٌّ عَنْ أَخِيهِ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَقَتَلَ أَبَاهُ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَسَلَبَهُ دِرْعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ.
فَلَمَّا اعْتَزَلَتِ الأَنْصَارُ تَجَمَّعَ هَؤُلاءِ فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ الأَنْصَارَ، َأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ فَلَهُمْ بِذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ وَشَأْنٌ غَالِبٌ، وَقَدْ دَعَوْا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَلِيٌّ فِي بَيْتِهِ لَوْ شَاءَ لَرَدَّهُمْ، فَادْعُوهُمْ إِلَى صَاحِبِكُمْ وَإِلَى تَجْدِيدِ بَيْعَتِهِ، فَإِنْ أَجَابُوكُمْ وَإِلا قَاتِلُوهُمْ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَجْوُ اللَّهَ أَنْ يَنْصُرَكُمْ عَلَيْهِمْ كَمَا نُصِرْتُمْ بِهِ.
ثُمَّ قَامَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، فَقَالَ: إِنْ يَكُنِ الأَنْصَارُ تَبَوَّأَتِ الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلُ، وَنَقَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى دُورِهِمْ مِنْ دُورِنَا، فَآوَوْا وَنَصَرُوا، ثُمَّ مَا رَضُوا حَتَّى قَاسَمُونَا الأَمْوَالَ، وَكَفَوْنَا الْعَمْلَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ لَهِجُوا بِأَمْرٍ، إِنْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِمَّا وُسِمُوا بِهِ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُعَاتَبَةٌ إِلا السَّيْفَ، وَإِنْ نَزَعُوا عَنْهُ فَقَدْ فَعَلُوا الأَوْلَى بِهِمْ، وَالْمَظْنُونَ مَعَهُمْ.