الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ناولنيها يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم:«خُذْ غَيْرَهَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ لَا عَيْشَ إِلَاّ عَيْشُ الآخِرَةِ» (1).
وكان يحب من أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد لقي أبو هريرة الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال له:«أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ» ، فَرَفَعَ القَمِيصَ وَقَبَّلَ سُرَّتَهُ (2).
لم يفارق أبو هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلَاّ حين بعثه مع العلاء الحضرمي إلى البحرين، ووصَّاهُ به، فجعله العلاء مؤذِّناً بين يديه، وقال له أبو هريرة:«لا تَسْبِقْنِي بِـ (آمِينَ) أَيُّهَا الأَمِيرُ» (3).
وستبدو لنا ملازمة أبي هريرة للرسول صلى الله عليه وسلم من خلال دراستنا لذلك نكتفي بهذا القدر هنا.
كما أرسله صلى الله عليه وسلم مع قُدامة لأخذ جزية البحرين، فقد وجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين فقال: «أما بعد
…
فإني بعثت إليك قدامة وأبا هريرة، فادفع إليهما ما اجتمع عندك من جزية أرضك والسلام». وكتب أُبَيٌّ (4).
التزام أبي هريرة السُنَّةَ:
كان أبو هريرة يسير على هُدَى الرسول الأمين، ويقتدي به، ويُحِّذِرُ
(1)" مجمع الزوائد ": ص 9، جـ 2. رواه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح.
(2)
" مسند الإمام أحمد ": 13/ 195، رقم 7455 وفيه:(فقال بالقميصة: يعني رفع القميص).
(3)
" البداية والنهاية ": 8/ 113، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولَّى العلاء الحضرمي البحرين سنة 8 هـ حين انصرف من (الجعرانة)، وكانت عمرة الجعرانة في ذي القعدة من سنة 8 للهجرة. انظر " طبقات ابن سعد ": ص 76 - 77، جـ 4، قسم 2. و " نور اليقين ": ص 239.
(4)
" الوثائق السياسية ": ص 87.
الناس من الانغماس في ملاذ الدنيا وشهواتها (1)، لا يفرق في ذلك بين غني وفقير، أو بين حاكم ومحكوم، يرشد الأمة إلى الحق والصواب، ها هو ذا يَمُرُّ بقوم يتوضَّأون فيقول لهم: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا القَاسِمَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» (2)، ويسألونه عن القراءة في الصلاة، فيقول:«كُلُّ صَلاةٍ يُقْرَأُ فِيهَا، فَمَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَسْمَعْنَاكُمْ، وَمَا أَخْفَى عَلَيْنَا، أَخْفَيْنَا عَلَيْكُمْ» (3)
ودخل أبو هريرة دَارَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهِيَ تُبْنَى، فَرَأَى فِيهَا تَصَاوِيرَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَقُولُ اللهُ عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» (4).
وكان لا يقبل مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مع سُنَّته شيئاً، ولا يرضى أنْ يضرب لها الأمثال، ومن ذلك ما قاله لرجل:«يَا ابْنَ أَخِي إِذَا حَدَّثْتُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، فَلَا تَضْرِبْ لَهُ الأَمْثَالَ» (5)
حقاً إنَّ أبا هريرة لم يدع ذلك (7)، فقد سأله عثمان النهدي: كيف
(1)" حلية الأولياء ": ص 380، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 111، جـ 8.
(2)
" مسند الإمام أحمد ": ص 89، جـ 12، رقم 7122، إسناده صحيح.
(3)
المرجع السابق، ص 245، جـ 12، رقم 7494، إسناده صحيح. يريد ما جهر به الرسول من القراءة، جهر به وما أَسَرَّ به، أَسَرَّ به.
(4)
" مسند الإمام أحمد ": ص 148، رقم 7166، جـ 12، وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري.
(5)
" سنن ابن ماجه ": ص 10، حديث 22، جـ 1. و " سنن البيهقي ": ص 10، جـ 1. وانظر نحو هذا من قول أبي هريرة لابن العباس رضي الله عنهما في " سنن الترمذي ": ص 115، جـ 1.
(6)
" مسند الإمام أحمد ": ص 194، رقم 7457، جـ 13، وانظر الأحاديث: 7138 و 7180، بإسناد صحيح. وانظر " مسند ابن راهويْه ": ص 15، جـ 4.
(7)
راجع " مسند الإمام أحمد " أنه يروي كثيراً عنه مِمَّا يدل على ما ذكره أعلاه، مثاله ص 108، جـ 12.
تصوم؟ قال: أصوم من أول الشهر ثلاثاً (1)، كما كان يصوم الاثنين والخميس (2).
وكان أحياناً يصوم مع بعض أصحابه، ويجلسون في المسجد، يقولون: نطهر صيامنا (3).
قال أبو رافع: صَلَّيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، صَلاةَ الْعَتَمَةِ - أَوْ قَالَ: صَلاةَ الْعِشَاءِ - فَقَرَأَ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (4)، فَسَجَدَ فِيهَا، فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ!؟ فقال: سَجَدْتُ فِيهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَلا أَزَالُ أَسْجُدُهَا حَتَّى أَلْقَاهُ (5). وواضح أنَّ السجود المقصود هو سجود التلاوة في الآية الكريمة {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (6).
وكان يحب التطهر ويخشى الوقوع في المعصية،حتى أنه خشي على نفسه - وهو شاب في أول عهده بالرسول صلى الله عليه وسلم أنْ يقع بالزنا، فقال: يا رسول الله
…
إِنِّي رَجُلٌ شَابٌّ، قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِيَ الْعَنَتَ، وَلَا أَجِدُ طَوْلاً أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، أَفَأَخْتَصِي؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَ ثَلَاثًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ، فَاخْتَصِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ دَعْ» (7)
أي كتب عليك ما أنت عليه، فاستسلم لذلك، أو لا تستسلم له، وليس هذا من باب التخيير بل من باب الردع، ليحمل أبا هريرة على الصبر، وعلى حفظ نفسه، ومهما يكن هذا الخبر، فإنه يدل على ورع أبي هريرة وتقواه، وحرصه على التزام طاعة الله ورسوله، وخشيته من الزلل في المعاصي فتقدم مضحياً بشهوته وبنفسه ليرضى عنه الله ورسوله، ولما عرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم ما سأله، امتثل لأمره، والتزم الصبر والعبادة.
(1 و 2)" سير أعلام النبلاء ": ص 438، جـ 2.
(3)
" البداية والنهاية ": ص 112، جـ 8.
(4)
[الانشقاق: 1].
(5)
" مسند الإمام أحمد ": ص 122. حديث 7140، جـ 12 بإسناد صحيح.
(6)
[الانشقاق: 21].
كان يخشى الله كثيراً سراً وعلانية، فإذا مَرَّتْ به جنازة، يقول:«رُوحِي فَإِنَّا غَادُونَ، أَوِ اغْدِي فَإِنَّا رَائِحُونَ، مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ، وَغَفْلَةٌ سَرِيعَةٌ، يَذْهَبُ الأَوَّلُ وَيَبْقَى الآخِرُ لا عَقْلَ لَهُ!!؟» (1).
وكان حريصاً على الاقتداء برسول الله في جُلِّ أعماله وتصرُّفاته وذكره وعبادته، من ذلك ما رواه الإمام أحمد عن الزهري عن أبي سلمة: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ، وَيَقُولُ:«إِنِّي أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (2).
ومن هذا أيضاً ما رواه الترمذي بسنده عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى المَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى بِنَا أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَرَأَ سُورَةَ الجُمُعَةِ، وَفِي السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ:{إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} (3)، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ: تَقْرَأُ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيٌّ يَقْرَأُ بِهِمَا بِالكُوفَةِ!؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ بِهِمَا» (4).
ومن ذلك ما رواه سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، أيصلي أحدنا في ثوب؟ قال: أولكلكم ثوبان!؟ قال أبو هريرة: أتعرف أبا هريرة! يصلي في ثوب واحد، وثيابه على الشجب (5).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُصَلِّي أَحَدُنَا فِي ثَوْبٍ؟ قَالَ:«أَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَتَعْرِفُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَثِيَابُهُ عَلَى الْمِشْجَبِ» (5).
ونرى أبا هريرة يُحَدِّثُ مَنْ حوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدَكُمْ جَارُهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ فَلَا يَمْنَعْهُ، فَلَمَّا
(1)" حلية الأولياء ": ص 383، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 112و 114، جـ 8.
(2)
" مسند الإمام أحمد ": ص 208. حديث 7219، جـ 12.
(3)
[المنافقون: 1].
(4)
" سنن الترمذي "، تحقيق أحمد محمد شاكر: ص 396 - 397، جـ 2. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(5)
" مسند الإمام أحمد ": ص 242. حديث 7250، جـ 12. وإسناده صحيح.
حَدَّثَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، طَأْطَئُوا رُءُوسَهُمْ، فَقَالَ:«مَا لِي أَرَاكُمْ مُعْرِضِينَ؟ وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» (1). لقد حدَّثهم في حسن الجوار ومعاملة الجار جاره، وحين رآهم مُعرضين اشتدَّ عليهم وأبى ألَاّ يعملوا ومعاملة الجار جاره، وحين رآهم معرضين اشتدَّ عليهم وأبى ألَاّ يعملوا طبقاً للسُنَّة وأحكامها وإنَّ قوله هذا وشدَّته، لا تقلُّ عن شِدَّة الفاروق عمر رضي الله عنه، وما أجمل عضبه لله ورسوله، الذي ظهر في عبارته «وَاللهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ». ومعنى قوله هذا: أنها كانت على ظهورهم وبين أكتافهم لا يقدرون أنْ يعرضوا عنها، لأنهم حاملوها (2).
واختلف الفقهاء: أهذا حق على الجار لجاره واجب؟ أم هو أدب؟.
قال الخطابي في " المعالم "(3487) من " تهذيب السنن ": «عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ يَذْهَبُونَ فِي تَأْوِيلِهِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيْجَابٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ وَحَسُنِ الْجَوَارِ، إِلَاّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ رَآهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ يَقْضُوا بِهِ عَلَى الجَارِ وَيُمْضُوهُ عَلَيْهِ إِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ» (3). وقد أوصى الله ورسوله بالجار خيراً، لهذا كان على الجار أنْ يحسن جوار جاره، وأرى في مذهب الفقهاء ومذهب الإمام أحمد ما فيه مصلحة المسلمين جميعاً، وإنْ حمل الأمر فيه على الندب والأدب لا يمنع القاضي من أنْ يحكم بوجوب غرز الخشبة إذا وجد في ذلك مصلحة لأحدهما لا تضر بمصلحة الآخر.
وعن سعيد بن المسيب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَجُلٌ: كَمْ يَكْفِي رَأْسِي فِي الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثًا» . قَالَ: إِنَّ شَعْرِي كَثِيرٌ؟ قَالَ: «كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ» .
وكان يسيئه أنْ يرى بعض المُصَلِّينَ يتأخَّرُون يوم الجمعة في حضورهم إلى الجامع حتى يخطب الإمام، فيقول: «لأَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمْ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ،
(1)" مسند الإمام أحمد ": ص 273. حديث 7276، جـ 12. وإسناده صحيح.
(2 و 3) انظر هامش ص 274، جـ 12 من " مسند الإمام أحمد ".
(4)
" مسند الإمام أحمد ": ص 151. حديث 7412، جـ 13. وإسناده صحيح. ورواه " ابن ماجه "، كما ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد ": ص 271، جـ 1.
خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْعُدَ، حَتَّى إِذَا قَامَ الإِمَامُ يَخْطُبُ، جَاءَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» (1)، وفي قوله هذا دعوة المصلين إلى الحضور في أول الوقت، عملاً بالسُنَّة الشريفة، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلائِكَةٌ، يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وَجَاءُوا فَاسْتَمَعُوا الذِّكْرَ» (2)، وإلى جانب العمل بهذا الحديث، فإنَّ قول أبي هريرة صادر عن نفس طيِّبة، مرهفة الحسن، تشعر بشعور الآخرين، وتراعي إحساسهم، فقد أدرك ما في تخطي رقاب الناس من إزعاج المصلِّين، وإضاعة بعض الفائدة عليهم، فقال مقالته تلك.
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد أَنَّ أَبَا السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِيَ خِدَاجٌ، هِيَ خِدَاجٌ غَيْرُ تَمَامٍ» . قَالَ أَبُو السَّائِبِ لأَبِي هُرَيْرَةَ: يا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الإِمَامِ؟ قَالَ أَبُو السَّائِبِ: فَغَمَزَ أَبُو هُرَيْرَةَ ذِرَاعِي، فَقَالَ: «يَا فَارِسِيُّ، اقْرَأْهَا فِي نَفْسِكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللهُ عز وجل: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
…
» (3). لقد أبى أبو هريرة إلَاّ أنْ يقف عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمره في جميع أحواله،
(1)" موطأ الإمام مالك ": ص 110 جـ 1.
(2)
" مسند الإمام أحمد ": ص 18، حديث 7572، جـ 14.
(3)
وحض الناس على الاقتداء بالرسول الكريم، وعلى العمل بسُنَّته الطاهرة. وكان يطبق ذلك على نفسه وأهله، فقد سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:«رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ» (1)، فكان هذا ديدنه، يصوم النهار، ويقوم الليل، يقوم ثلث الليل، ثم يوقظ امرأته فتقوم ثلثه، ثم توقظ هذه ابنته لتقوم ثلثه (2)، هكذا كانوا يتناوبون العبادة في الليل. وقد شهد بذلك ضيوفه وإخوانه، الذين خالطوه وعرفوه، وعاشوا معه.
وكان ورعاً تقياً يحب التقرُّب إلى الله، وكثيراً ما كان يقابل المسيء بالحُسنى، من هذا أنَّ زنجيَّة كانت له، قد غمتهم بعلمها، فرفع عليها يوماً السوط، ثم قال:«لَوْلَا القِصَاصُ يَوْمَ القِيَامَةِ لأَغْشَيْتُكِ بِهِ وَلَكِنِّي سَأَبِيعُكِ مِمَّنْ يُوَفِّينِي ثَمَنَكِ أَحْوَجَ مَا أَكُونُ إِلَيْهِ، اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ للهِ عز وجل» .
وكان لأبي هريرة مسجد في مخدعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حُجرته، ومسجد على باب داره، إذا خرج صلَّى فيها جميعاً، وإذا دخل صلى فيها جميعاً (4).
وكان يكثر من التسبيح والتكبير في أطراف النهار والليل، وكان يُسبِّحُ كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، ويقول:«أُسَبِّحُ بِقَدْرِ ذَنْبِي» (5)، وكان يكثر الاستعاذة بالله من النار، ويُذَكِّرُ الناس بالله عز وجل، ويحثَّهُمْ على طاعته (6).
وكثيراً ما كان يُحَذِّرُ الناس من فساد الزمان، فيقول: إذا رأيتم
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
(2)
" البداية والنهاية ": ص 110، جـ 8. وفي " مسند ابن راهويه ": ص 16، جـ 4. و " سير أعلام النبلاء ": ص 438، جـ 2 (كان هو وامرأته وخادمه).
(3)
" حلية الأولياء ": ص 384، جـ 1، و " البداية والنهاية ": ص 112، جـ 8.
(4)
" البداية والنهاية ": ص 110، جـ 8. وابن عساكر: ص 509، جـ 47.
(5 و 6)" سير أعلام النبلاء ": ص 439، جـ 2. و ص 428، جـ 2. و " البداية والنهاية ": ص 110 و 112، جـ 8. و " تاريخ الإسلام ": ص 336، جـ 2.