المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم: - أبو هريرة راوية الإسلام

[محمد عجاج الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌[أبو هريرة راوية الإسلام]

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة:

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌تمهيد:

- ‌العرب ورسالة الإسلام:

- ‌حول السُنَّة:

- ‌السُنَّة ومكانتها من القرآن الكريم:

- ‌عدالة الصحابة:

- ‌حفظ السُنَّةِ وانتشارها:

- ‌1 - الإمام البخاري (194 - 256 ه

- ‌2 - الإمام مسلم (204 - 261 ه

- ‌3 - أبو داود السجستاني (202 - 275 ه

- ‌4 - الإمام الترمذي (209 - 279 ه

- ‌5 - الإمام النَسَائِي (215 - 303 ه

- ‌6 - الإمام ابن ماجهْ (209 - 273 ه

- ‌الباب الأول: أبو هريرة:

- ‌الفصل الأول: حياته العامة:

- ‌ نسبه والتعريف به:

- ‌هيئته وأوصافه الجسمية:

- ‌نشأته قبل الإسلام:

- ‌إسلامه وهجرته:

- ‌إسلام أمه:

- ‌ملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌التزام أبي هريرة السُنَّةَ:

- ‌فقره وعفافه:

- ‌كرم أبي هريرة:

- ‌ولايته في عهد عمر رضي الله عنه

- ‌أبو هريرة وفتنة عثمان:

- ‌أبو هريرة في عهد عَلِيٍّ رضي الله عنه

- ‌أبو هريرة أمير المدينة:

- ‌أبو هريرة والجهاد في سبيل الله:

- ‌مرح أبي هريرة ومُزاحه:

- ‌مرض أبي هريرة:

- ‌وفاته:

- ‌أسرته:

- ‌الفصل الثاني: حياته العلمية:

- ‌بين يدي الفصل:

- ‌حرصه على الحديث:

- ‌أمله علم لا يُنْسَى:

- ‌مجالسه ونشره الحديث:

- ‌كثرة حديثه وسِعَةِ علمه:

- ‌حفظ أبي هريرة:

- ‌حَضُّهُ على صيانة الحديث من الكذب:

- ‌أبو هريرة والقرآن الكريم:

- ‌أبو هريرة والفتوى:

- ‌أبو هريرة والقضاء:

- ‌شيوخه ومن روى عنه:

- ‌الصحابة الذين رَوَوْا عنه:

- ‌التابعون الذين رَوَوْا عنه:

- ‌عدة ما رُوِيَ عنه من الحديث:

- ‌ نماذج من مروياته

- ‌1 - مِمَّا أخرجه الإمام مالك في " الموطأ

- ‌2 - مِمَّا أخرجه الإمام أحمد:

- ‌3 - مِمَّا رواه البخاري:

- ‌4 - مِمَّا رواه الإمام مسلم:

- ‌5 - مِمَّا رواه الإمام أبو داود:

- ‌6 - مِمَّا رواه الإمام الترمذي:

- ‌7 - مِمَّا رواه الإمام النسائي:

- ‌8 - مِمَّا رواه الإمام ابن ماجه:

- ‌أصح الطرق عن أبي هريرة:

- ‌الثناء على أبي هريرة:

- ‌الباب الثاني: الرد على الشُبه التي أثيرت حول أبي هريرة:

- ‌أبو هريرة وبعض الباحثين:

- ‌مقدمة كتاب " أبو هريرة

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - نشأته وإسلامه:

- ‌3 - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - على عهد الخليفتين:

- ‌5 - على عهد عثمان: [ص 16 - 17]:

- ‌6 - على عهد عَلِيٍّ [صفحة 21 - 26]:

- ‌7 - على عهد معاوية [صفحة 26 - 31]:

- ‌أولاً - هل تشيَّع أبو هريرة للأمويِّين

- ‌ثانياً: هل وضع أبو هريرة الأحاديث كذباً على رسول الله

- ‌موقف الصحابة من أبي هريرة:

- ‌[أ] أبو هريرة وعمر بن الخطاب:

- ‌[ب] أبو هريرة وعثمان بن عفان:

- ‌[ج] أبو هريرة وعَلِيٌّ بن أبي طالب رضي الله عنهما

- ‌[د] أبو هريرة وعائشة:

- ‌[هـ] أبو هريرة وعبد الله بن عمر:

- ‌[و] أبو هريرة وابن عباس:

- ‌[ز] أبو هريرة والزبير:

- ‌[ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم:

- ‌هل كان أبو هريرة تلميذاً لكعب الأحبار

- ‌خاتمة:

- ‌أهم المصادر والمراجع:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌[ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم:

ولا سبيل للطعن في صدقه. لأنه لم يتقوَّل على رسول الله ما لم يقل، ومعنى قوله: صدق، كذب (أصاب، وأخطأ) كما سأُبَيِّنُهُ بعد قليل وليس في الخطأ كذب وخاصة في هذا المقام.

[ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم:

(1)

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ شَمَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرَّ عَلَيْهِ مَرْوَانُ، فَقَالَ:«بَعْضَ حَدِيثِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ حَدِيثَكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» .

ثُمَّ رَجَعَ (مروان)، فَقُلْنَا: الآنَ يَقَعُ بِهِ، قَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنْتَ رَزَقْتَهَا

» الحديث. اهـ (2)، قال مروان لأبي هريرة:«بَعْضَ حَدِيثِكَ - أَوْ حَدِيثَكَ» ، يريد به الإنكار على أبي هريرة في كثرة روايته.

وكان بعض الصحابة، وبعض الوُلَاّة ينكرون عليه، ثم يضطرُّون إلى علمه وحفظه، فيسألونه أو يقرُّون له بما روى، كما صنع مروان هنا، وغيره في روايات كثيرة، وما كانوا يظنون بصدقه الظنون، ولا كانوا يتَّهمونه في حفظه وأمانته رضي الله عنه (3).

تلك صورة حقيقية لما دار بين أبي هريرة وبعض الصحابة، وهي لا تعدو ما كان يحصل بين الصحابة من نقاش حول تحرِّي الحق، ومعرفة الصواب، إذ لم يكن الصحابة يُكَذِّبُ بعضُهُم بعضاً، بل يُبَيِّنُ بعضهم خطأ بعض، وكانوا سرعان ما يعودون إلى الحق ويدورون معه حيث دار. وإذا صدر عنهم ألفاظ (الكذب) فإنما يقصدون بها الخطأ والغلط، لا التكذيب والافتراء، وكان هذا يقع كثيراً بين الصحابة ولا يرون فيه

(1) لم تثبت لمروان صُحبة.

(2)

" مسند الإمام أحمد ": ص 213، جـ 13، رقم 747 بإسناد صحيح.

(3)

" مسند الإمام أحمد ": ص 213، جـ 13، الهامش تعليق الأستاذ أحمد محمد شاكر.

ص: 233

جَرْحاً ولا إهانة، ولا يُخرجون من قيل له ذلك من العدالة والصدق، من ذلك ما قالته أسماء بنت عُميس لعمر بن الخطاب:«كَذَبْتَ يَا عُمَرُ» (1)، وكان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يُتَصَوَّرُ من أسماء أو غيرها أنها تعني التكذيب بمعنى الافتراء؟ إنها تعني الخطأ ولا شك.

وقد بيَّن ابن قتيبة معنى إنكار الصحابة على أبي هريرة فيما ذكره من الأخبار والوقائع، فلم يكن قط بمعنى الإكذاب، ولم يقولوا له إنك تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تضع أو تفتري أ وتختلق، إنما خالفوه أحياناً وليس هذا من باب التجريح، ومِمَّا قاله ابن قتيبة عن الصحابة وأحوالهم:«وَأَخَافُ أَنْ يُشَبَّهَ لِي كَمَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَأُعْلِمُكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْطِئُونَ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِخِدْمَتِهِ وَشَبَعِ بَطْنِهِ، وَكَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَشْغَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَرْسُ الْوَدِيِّ وَلَا الصَّفق بِالأَسْوَاقِ، يُعَرِّضُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي التِّجَارَاتِ وَيَلْزَمُونَ الضِّيَاعَ فِي أَكْثَرِ الأَوْقَاتِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ لَا يُفَارِقُهُ، فَعَرَفَ مَا لَمْ يَعْرِفُوا، وَحَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظُوا - أَمْسَكُوا عَنْهُ» (2).

وبعد هذا، فإنَّ عَبْدَ الحُسَيْنَ ينكر إمساك الصحابة عن أبي هريرة عندما عرفوا منزلته كما روى ابن قتيبة ويرى أنَّ دفاعه إنما كان جزافاً لا يصغى إليه (3). هذا ما يريده مؤلف كتاب " أبو هريرة " لأنَّ الحق لا يوافق هواه، ولا يعجبه إلَاّ أنْ يستشهد بروايات الإسكافي المتروكة، التي يُجَرِّحُ فيها أبا هريرة.

ويدَّعِي بعد ذلك أنَّ الإمام أبا حنيفة وأصحابه كانوا يتركون حديث أبي هريرة إذا عارض قياسهم كما فعلوا في حديثه عن المصراة وهي البقرة أو الشاة أو الناقة يجمع اللبن في ضرعها

إذ روى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، مَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا، فَإِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخَطَهَا رَدَّهَا وَصَاعاً

(1)" صحيح مسلم ": ص 1946، جـ 4 رقم 2503.

(2)

" تأويل مختلف الحديث ": ص 50.

(3)

" أبو هريرة ": ص 266.

ص: 234

مِنْ تَمْرٍ» فلم يأبهوا بحديثه هذا وقالوا: أبو هريرة غير فقيه وحديثه هذا مخالف للأقيسة بأسرها، فإنَّ حلب اللبن من التعدي، وضمان التعدِّي يكون بالمثل أو القيمة والصاع من التمر ليس واحداً منهما إلى آخر كلامهم (1).

وهذا ما ذكره الأستاذ أحمد أمين (2) كما استشهد أبو رِيَّةَ بنحو هذا عن الحنفية، وذكر مسألة المصراة (3).

وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة ورفض قبول ذاك الادِّعاء وأكَّدَ أنه غير مقبول وغير مرضي وقال: «فقد قدمنا ذكر من أثنى عليه ووثقه، وذكرنا من روى عنه وأصدقه» (4).

وقد ذكر الذهبي مسألة المصراة وداع فيها عن أبي هريرة، وأوجب العمل بحديثه، وَبَيَّنَ أنَّ عمل الحنفية وسائر الأئمة بخلاف هذه الرواية عن الحنفية، وَبَيَّنَ أنَّ الحنفية قدَّمُوا خبر أبي هريرة على القياس، وكذلك فعل الإمام مالك، وَبَيَّنَ أنَّ أبا حنيفة قد ترك القياس لما هو دون حديث أبي هريرة بل الدليل أقوى منه، وقد فَنَّدَ الدكتور مصطفى السباعي ما ادَّعَاهُ الأستاذ أحمد أمين من تقديم الحنفية القياس على الخبر إذا عارضه، وأنهم فعلوا هذا في أحاديث أبي هريرة، وأنهم يعدُّونه غير فقيه، وَرَدَّ على ذلك رَدًّا علمياً جليلاً كشف فيه عن الحق، ودحض هذه الرواية بالحُجَّةِ القوية والأدلة الواضحة، ولولا ضيق المقام لذكرت ذلك هنا (6).

(1) المرجع السابق: ص 270.

(2)

انظر " فجر الإسلام ": ص 269.

(3)

انظر " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 169 و 171.

(4)

ابن عساكر: ص 507، جـ 47.

(5)

انظر " سير أعلام النبلاء ": ص 444، 445.

(6)

راجع كتاب " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 299 - 301. ولإتمام الموضوع راجع صفحة: 302، 303. ومن ذلك يتبيَّنُ لنا دس ما روي عن محمد بن الحسن عن أبي حنيفة والذي ذكره صاحب كتاب " المؤمل " في الصفحة 31، لأنه يخالف ما طَبَّقَهُ الأحناف.

ص: 235

لقد تبيَّن لنا مِمَّا عرضناه أنَّ أبا هريرة يم يكن محل تكذيب من الصحابة والتابعين، ولم يثبت قط أنَّ أحداً اتهمه بالكذب، والوضع واختلاق الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما ادَّعاه أهل الأهواء وبعض المستشرقين أمثال (جولدتسيهر) و (شبرنجر) وكل ما كان بينه وبين بعض الصحابة لم يعد باب التحقيق العلمي، ولم يتناول قط عدالته وصدقه وأمانته، وإذا رََدَّ عليه بعضهم فإنما رَدُّوا بعض ما كان يفتي به، مِمَّا علمه من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان خلافهم في فهم الحديث، لا في الحديث نفسه حيث نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم نسبته، وكان اعتراضهم على (فتواه) لا على (حديثه) ولم يكن هذا خاصاً بأبي هريرة، بل حديث كثيراً بين الصحابة. وهناك فرق كبير بين رَدِّ (الفتوى) وَرَدِّ (الحديث)، و (الخطأ) و (التكذيب)، فشتان ما هما.

وقد ثبت أنَّ أبا هريرة أفتى في مسائل دقيقة في حضرة ابن عباس وغيره، وعمل الصحابة ومن بعدهم بحديثه في مسائل كثيرة - تخالف القياس - كما عملوا كلهم بحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا» (1).

فلو شك أحد في صحة حديثه أو في صدقه لتركوا حديثه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل.

هذا وقد عرفت الأمَّة مكانته ومنزلته، وقبلوا حديثه، وظهر لنا ذلك واضحاً كالشمس في رابعة النهار. وقد سبق أنْ بيَّنت ثناء الصحابة والتابعين والأئمة عليه وأُكَرِّرُ هنا قول الإمام الذهبي فيه «وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَثِيقَ الحِفْظِ، مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي حَدِيثٍ» (2).

إلَاّ أنَّ مؤلف كتاب " أبو هريرة " لم يأبه بكل هذا، واستنتج من تلك المناقشات العملية كذب أبي هريرة، ورأى ما دار بينه وبين بعض الصحابة

(1)" سير أعلام النبلاء ": ص 445، جـ 2.

(2)

المرجع السابق: ص 446، جـ 2.

ص: 236

دليلاً قاطعاً على تجريحه، فقال: «وناهيك تكذيب كل من عمر وعثمان وعلي وعائشة له، وقد تقرَّر بالإجماع تقديم الجرح على التعديل في مقام التعارض، على أنه لا تعارض هنا قطعاً، فإنَّ العاطفة بمجردها لا تعارض تكذيب من كَذَّبَهُ من الأئمة.

أما أصالة العدالة في الصحابة فلا دليل عليه، والصحابة لا يعرفونها، ولو فرض صحتها فإنما يعمل على مقتضاها في مجهول الحال، لا فيمن يُكَذِّبُهُ عمر وعثمان وعلي وعائشة، ولا فيمن قامت على جرحه أدلة الوجدان، فإذا نحن من جرحه على يقين جازم» (1).

إلَاّ أنَّ زعمه هذا رددناه بالحُجج الدامغة، فانهار ما ادَّعاه أمام الصرح الشامخ الذي يحمي عدالة أبي هريرة، وتحطمت سهامه الواهية على الحصن المنيع الذي بناه أبو هريرة بصدقه وأمانته واستقامته، فلم يجد ثغرة ينفذ منها، أو ثلماً يدس في هواه، فراح يشكِّكُ الناس في مرويات أبي هريرة، ويستشهد ببعض الأحاديث التي وردت في " الصحيحين " عنه، متَّخذاً طعنه في أبي هريرة وتجريحه إياه، مطيَّّة وذريعة للتشكيك في ما ورد في " الصحيحين " عامة، يريد من قُرَّائِهِ بل من الناس جميعاً أنْ لا يثقوا بالكتب التي أجمعت الأمَّة على صحتها، وتلقَّتها بالقبول، ولم يجد إلى ذلك سبيلاً، إلَاّ أنْ يذكر بعض الأحاديث التي تتعلق بالأمور الغيبية، ويحاول أنْ يُحَكِّمَ العقل البشري فيها، يوازن بينها وبين الواقع، من ذلك حديث خلق آدم [ص 56] فَيُحَمِّلُ ألفاظه ما لا تحتمل، ويفسِّرُهُ تفسيراً لا يقبله العقل والذوق السليم، ويسوق غيره من الأحاديث التي تتناول بعض أحوال يوم القيامة، كرؤية الله تعالى [ص 64]، والنار [ص 70]، وينكر ما جاء في حديث استجابة الله تعالى الدعاء في الثلث الأخير من كل ليلة [ص 72] وَيُحَمِّلُ ألفاظه ما لا تحتمل، فالحديث (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعاً «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ

» الحديث. اهـ.

(1)" أبو هريرة ": ص 279.

ص: 237

ويثور الكاتب قائلاً: «تعالى الله عن النزول والصعود والمجيء والذهاب والحركة والانتقال

» وقد كان هذا الحديث والثلاثة التي قبله مصدراً للتجسيم في الإسلام، كما ظهر في عصر التعقيد الفكري، وكان من الحنابلة بسببها أنواع من البدع والأضاليل ولا سيما ابن تيمية

[ص 73]. ويذكر قصته الشهيرة على منبر دمشق.

إنَّ المؤلف حَمَّلَ ألفاظ هذه الأحاديث على ظاهرها حتى وصل إلى نتيجة التجسيم، كما فعل (المُشَبِّهَةُ)، ولما كان التشبيه مخالفاً لعقيدة جمهور المسلمين، أنكر صحة الحديث وهو رأي (الخوارج والمعتزلة وهو مكابرة) (1) وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: «حُكِيَ عَنْ الْمُبْتَدِعَة رَدّ هَذِهِ الأَحَادِيث، وَعَنْ السَّلَف إِمْرَارهَا، وَعَنْ قَوْم تَأْوِيلهَا وَبِهِ أَقُول

وَالْحَاصِل أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِأَنَّ الْمَعْنَى يَنْزِل أَمْره أَوْ الْمَلَك بِأَمْرِهِ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ اِسْتِعَارَة بِمَعْنَى التَّلَطُّف بِالدَّاعِينَ وَالإِجَابَة لَهُمْ وَنَحْوه» (2). أقول إنَّ حمل ألفاظ اللغة على الحقيقة صرفت إلى المجاز، وهذا كثير في اللغة، فكما تقول: خرجت المدينة تستقبل الحُجَّاجَ، وتقصد بذلك أكثر أهل المدينة، كذلك يجب أنْ تقول في مثل هذا الحديث وفي الآيات التي استدلَّ بها (المُشبِّهة) على رأيهم كآية (الاستواء) وغيرها. ويلزم من إنكار هذه الأحاديث لما فيها من التجسيم والتشبيه - على رأي المؤلف - إنكار جميع الآيات التي بهذا المعنى، ولا يقول بهذا مسلم، فكما صرفت ألفاظ تلك الآيات إلى المجاز تصرف ألفاظ بعض الأحاديث أيضاً إلى ذلك، لأنَّ بعض الأحاديث جاءت على سُنن ونهج القرآن الكريم. وإذا أبى أنْ تُصرف هذه الألفاظ إلى المجاز قلنا له: يلزم من هذا أن تسير المدينة - في مثالنا - بأبنيتها ومساجدها وبيوتها وأشجارها، وهذا لا يعقل ولا يتصور، وهو خلاف العادة والعرف لذلك وجب صرفه إلى المجاز، من غير أنْ نَرُدَّ ذلك الأصل اللغوي، الذي

(1)" فتح الباري ": ص 272، جـ 3.

(2)

" فتح الباري ": ص 272، جـ 3.

ص: 238

عليه العرب، أدباؤهم وفصحاؤهم وعامَّتهم منذ عرفه التاريخ. وعلى هذا الأصل نحمل بعض آيات القرآن الكريم وبعض أحاديث الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم.

وبمثل هذه الاعتراضات يرد بعض الأحاديث، التي تتعرض لأحوال الأنبياء - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ -، والملائكة، وفي كل هذا لا يكف أذى لسانه عن أبي هريرة، فيستهزئ به تارة، ويزدريه أخرى، ويشتمه حيناً، ويتهكَّم عليه أحياناً

ويتَّهمه بالتزوير مرة (1)، وبالهراء والهذر مراراً (2)، وذهب المؤلف إلى التشكيك في الأحاديث التي ساقها، والتي لم يخف منها على العلماء شيء، فبيَّنُوا صِحَّتَهَا ومعانيها ومناسباتها، وقارنوا ما رُوِيَ منها عن أبي هريرة بمرويات غيره - ولم يكن هذا خاصاً لحديث أبي هريرة، بل عامًّا لجميع الأحاديث - ولم يثبتوها في كتبهم إلَاّ بعد تحقيق ودراسة علمية عميقة.

ثم إنَّ المؤلف خلال بحثه وعرضه لأكثر تلك الأحاديث، لم يتخلَّ عن هواه، فكان يرى أنَّ بعضها من وضع أبي هريرة لِيُرْضِي به الأمويِّين، من ذلك ما رواه عنه فقال في [ص 118]:«أخرج الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً: " اللهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً، وَقُرْبَةً، تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ» . الحديث، ويرى أنَّ أبا هريرة «وضع هذا الحديث على عهد معاوية تزلُّفاً إليه، وتقرُّباً إلى آل أبي العاص، وسائر بني أمية، وتداركاً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، من لعن جماعة من منافقيهم، وفراعنتهم إذ كانوا يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، فسجل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلنه إياهم في كثير من مواقفه المشهودة خزياً مؤبَّداً، ليعلم الناس أنهم ليسوا من الله ورسوله في شيء فيأمن على الدين من نفاقهم» [ص 123، 124].

(1) انظر ص 77 من كتابه.

(2)

انظر ص 96 من كتابه.

ص: 239

هذه إحدى الروايات المطلقة (1)، التي ورد فيها إيذاء أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وردت روايات أخرى مقيَّدة بيَّنت المراد من الروايات المطلقة، فقد جاء في رواية عنه عليه الصلاة والسلام:«فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً» (2)، ولم يذكر أحد من العلماء أنَّ أبا هريرة وضع هذا الحديث إرضاء لمعاوية. وماذا يقول عندما يعلم أنَّ عائشة أم المؤمنين وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأنس بن مالك (3) رضي الله عنهم قد رَوَوْا هذا الحديث أيضاً؟ فهل وضعوه إرضاء لمعاوية!! أظن أنه لا يقول هذا أحد يعرف للصحابة منزلتهم وفضلهم وجليل قدرهم.

ثم إنَّ هذا الحديث ورد في حديث طويل، حين داعب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيمة عند أم أنس بن مالك، وقال لها:«لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ سِنُّكِ» فظنَّت اليتيمة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليها، فاستفهمت أم أنس من الرسول عن ذلك فقال فيما قاله:«فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (4).

فإنَّ دعاءه عليه الصلاة والسلام أو سبه لمؤمن ليس بأهل لذلك، يكون أجراً وطهراً له، وهذا من باب تلطف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمَّته، وقد ذكر الإمام النووي بعض المقصود من هذا الحديث، فقال: «أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ سَبِّهِ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِهِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ هُوَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي وَصْلِ كَلامِهَا بِلَا نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ تَرِبَتْ يَمِينُكَ وعَقْرَى حَلْقَى وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ " لَا كَبِرَتْ سِنُّكِ " وَفِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ لَا " أَشْبَعَ

(1) انظر " صحيح مسلم ": ص 2007 - 2010، جـ 4.

(2)

" صحيح مسلم ": ص 2010، جـ 4. من حديث طويل رقم [95].

(3)

انظر " صحيح مسلم ": ص 2007 و 2009، جـ 4.

(4)

" صحيح مسلم ": ص 2009، حديث 95، جـ 4.

ص: 240

اللَّهُ بَطْنَهُ "» (1) ونحو ذلك لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أنْ يصادف شيء من ذلك إجابة. فسأل ربه سبحانه وتعالى، ورغَّب إليه أنْ يجعل ذلك رحمة وكفَّارة وطهوراً وأجراً وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذ من الأزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ولا لعَّاناً (2). وإلى جانب هذا، فإنَّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يطمئن بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقصد بما يجري على لسانه مِمَّا اعتاده العرب في كلامهم أذى ولا شتماً، وإنما يرجوه أنْ يكون رحمة وأجراً.

هذه إحدى الصور التي يُعَلِّلُ بها سبب وضع أبي هريرة لحديث رُوِيَ في " الصحيحين "، وهو الذي ادَّعَى في كتابه أكثر من مَرَّّةٍ (التجرُّد العلمي والذوق الفني)، يكذِّبُ الصحابة، ويُفَسِّقُ بعض المسلمين، بل يُكَفِّرُهُمْ من غير دليل ولا برهان، فأي تجرُّد هذا؟ وأي تحقيق وبحث نزيه في مثل هذا!!؟

ثم يقول المؤلف: «وقد كان صلى الله عليه وسلم رأى في منامه كأنَّ بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبره كما تنزو القردة، فيردون الناس على أعقابهم القهقرى، فما رؤي بعدها مستجمعاً ضاحكاً حتى توفي، وقد أنزل الله تعالى عليه قرآناً يتلوه آناء الليل وأطراف النهار:»

{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (3).

قال في الهامش هي الآية [6] من الإسراء. [ص 124].

وعزا حديث (المنام) إلى الحاكم الذي صحَّحه على شرط الشيخين، إلَاّ أنَّ الحاكم متساهل في تصحيحه، ولو سلمنا صحة (المنام) فما هي علاقته

(1) انظر تفصيل هذه الأخبار ومناسباتها في " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 154 - 155، جـ 16.

(2)

" صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 152، جـ 16.

(3)

[الإسراء: 60، بلفظ:{طُغْيَانًا كَبِيرًا} .

ص: 241

بالآية؟ ثم إنَّ القرآن الكريم كله لا يحمل بين دفتيه آية كاملة بهذا اللفظ، والآية [60] من سورة الإسراء، لا السادسة كما ذكر، تختلف في ختامها، فليس فيها {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} بل {طُغْيَانًا كَبِيرًا} ، فحسنا الظن به وقلنا من المحتمل أنْ يكون هذا خطأ مطبعياً، إلَاّ أنه لم يشر إلى شيء في جدول الخطأ والصواب من كتابه، فلم يعد ينفع معه حسن الظن به، فتأكد لنا أنه يثبت هذا متيقناً من صحته؛ فهو يُحَرِّفُ الكلم عن مواضعه، ويبدِّلُ كلام الله تعالى كما يشاء، وأغرب من هذا أنه يستشهد بالآية الكريمة على أنها نزلت من أجل ذلك (المنام)، وأنَّ الشجرة الملعونة في القرآن هي الأسرة الأموية أخبره الله تعالى بتغلبهم على مقامه وقتلهم ذريَّته وعتيهم في أمَّته .. !! لا نعلم مصدراً موثوقاً يروي هذا!! فمن الأميرن الذي نقل لعبد الحُسين ذلك المنام؟ ومن الذي أخبره عن الشجرة الملعونة؟؟ وكل ما يذكره المؤلف عن مصادره في هذا قوله:«والصحاح فيه متوافرة ولا سيما من طريق العترة الطاهرة» !!

شهد الله أني أُحِبُّ عَلِيًّا وأهله وعترته حُبًّا لا ينازعني فيه كثير مِمَّنْ يزعمون حُبَّهُ من شيعته في هذا العصر، لا أقول هذا مُتعصِّباً لنسبنا المتصل به، ولا تحزُّباً إليه، بل لأنه من أفضل الصحابة والخلفاء الراشدين ولحُبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إيَّاهُ، وليده الكريمة الطيبة في الدفاع عن الإسلام ..

فأي شيء عند عترته الطاهرة!؟ وقد قال رضي الله عنه: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلَاّ كِتَابَ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ، صَحِيفَةٌ فِيهَا أَسْنَانُ الإِبِلِ وَأَشْيَاءٌ مِنْ الْجِرَاحَاتِ فَقَدْ كَذَبَ

» (1).

بعد هذا لا يمكننا أنْ نقبل هذا التأويل للآية الكريمة، ولا يمكننا أنْ نثق بذلك الإخبار عن الشجرة الملعونة التي ذكرها المؤلف. وكل ما جاء في هذا الموضوع في أشهر التفاسير: أنَّ هذه الآية الكريمة تتناول جانباً مِمَّا جاء في ليلة المعراج المبارك، والرؤيا المقصودة هنا «ما عاينه - عَلَيْهِ الصَلَاةُ

(1)" مسند الإمام أحمد ": ص 44، جـ 2، رقم 615 بإسناد صحيح ونحوه كثير في " المسند " بهذا المعنى.

ص: 242

وَالسَّلَامُ - ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء حسبما ذكر في فاتحة السورة الكريمة» (1). «{وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: 60] عطف على الرؤيا

» (2).

ولم يذكر أحد قط أنَّ هذه الشجرة هي الأسرة الأموية - اللهم إلَاّ ما ذكره عبد الحسين - والشجرة تلك التي «تنبُت في أصل الجحيم في أبعدِ مكان من الرحمة، أي وما جعلناها إلَاّ فتنةً لهم حيث أنكروا - (المشركون) - ذلك وقالوا إنَّ محمداً يزعُم أنَّ الجحيمَ يحرُق الحجارةَ ثم يقول ينبُت فيها الشجرُ ولقد ضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً

» (3).

فماذا نقول في مؤلف ينتحل على الله عز وجل ما لم يسمع به إنسان، ويفسِّرُ الآيات بهواه، ويزعم أنَّ هذا يتهم راوية الإسلام أبا هريرة!! أنَّ جميع ما وجَّهَهُ من الطعون إلى أبي هريرة، لو وجهت إليه أضعاف مضاعفة، ما وفَّت رَدًّا على دعواه في تلك الصفحة من كتابه.

ويتابع المؤلف سرده بعض الأحاديث التي رواها أبو هريرة، ويحاول الطعن فيها والتشنيع على راويها، وينتهي به تحقيقه واستنتاجه، إلى أنَّ مسند أبي هريرة في حكم المرسل لا يصلح حُجَّة ولا يقوم دليلاً، [ص 250] ضارباً عمل الأمَّة بحديث أبي هريرة من لدن الصحابة إلى عهدنا عرض الحائط، مُخَطِّئاً العلماء والفقهاء، بل مُخَطِّئاً الصحابة أنفسهم الذين حملوا عنه حديثه وعملوا به. فكان مُخْطِئاً في بحثه، ضالاً في نتائجه غير دقيق في استنباطه واستنتاجه. وقد أداه إلى ذلك هواه وتعصُّبه واعتماده على الروايات الضعيفة (4)، والكتب غير الموثوقة، ونظرته الضيِّقة التي جعلته يرى في أبي هريرة الرجل المُتَّهم دائماً بل الرجل المتلبِّسَ بالجُرم الثابت. لذلك كانت نتائجه أحياناً تسبق بحثه واستنتاجه وحكمه، وكثيراً ما كان يتأوَّلُ بعض النصوص ويُحَمِّلُهَا ما لا تحتمل حتى انتهى إلى أنَّ رسول الله قد أخبر عنه بأنه

(1 و 2 و 3)" تفسير أبي السعود ": 3/ 223.

(4)

لذلك لم أتعرَّض إلى بعض ما ذكره المؤلف لأنه استقاهُ من كتب غير موثوقة، أو من كتب موثوقة نَصَّتْ على ضعفه، من ذلك ما رواه عن مزود أبي هريرة الذي قال في روايته الترمذي: حسن غريب. وغيره. انظر " سير أعلام النبلاء ": ص 452، جـ 2.

ص: 243

من أهل النار (انظر صفحة 310 و 315 من كتابه)، ويفسِّرُ بعض الأخابر بما تمليه عليه عواطفه، وقد أشرت إلى هذا فيما سبق، كما أنه حَمَّلَ أبا هريرة وِزْرَ الوَضَّاعِينَ الذين استغلُّوا كثرة حديثه، ووضعوا بعض الأخبار على لسانه، وكل ذلك بَيَّنَهُ رجال النقد.

وإني أدعو العلماء المُنصفين إلى استقراء مرويات أبي هريرة - أجمع ما لدينا " مسند الإمام أحمد " - فإنهم لن يجدوا له حديثاً يخالف فيه الأصول العامة للشريعة أو يتفرَّد بحديث شاذ ينكر عليه، وما من حديث استشهد به الكاتب إلَاّ عرف المحدِّثون والنُقَّادُ فيمته، وما من شُبهة أوردها على أبي هريرة أو على مروياته إلَاّ رَدَّهَا الحُفَّاظُ، وأزالوا أشكالها وبَيَّنُوا حقيقتها، حتى أسفر وجه الحق، ونجا أبو هريرة من تلك الأعاصير المصطنعة التي عصفت حوله، ومن تلك الأمواج الغدَّارة التي تلاطمت على قدميه. فبقي صامداً أبد الدهر يحترمه الجمهور، ويعرفون مكانته ومنزلته، وارتدَّت تلك الهجمات الضالة على أعقابها خامدة مكتومة الأنفاس تَجُرُّ وراءها ذيول الخزي والانكسار، ولم تزل بعض بقايا هؤلاء تحمل لواء مهاجمة أبي هريرة واتِّهامه، إلَاّ أنهم قِلَّةٌ لا يذكرون، ولن يستطيعوا أنْ يخدشوا من عدالة أبي هريرة، أكثر مِمَّا يخدش طفل صغير في جبل شامخ بظفره.

ولا بُدَّ لي من أنْ أشير هنا إلى ما كتبه مؤلف كتاب " أضواء على السُنَّة المحمدية " حول أبي هريرة زيادة على ما جاء في كتاب عبد الحُسين شرف الدين.

لقد ذكر الكاتب أكثر ما كتبه صاحب كتاب " أبو هريرة " إذ كان من مراجعه الأساسية، وقد أثنى عليه في كتابه في أكثر من موضع (1)، ودعم آراءه وأقواله بما جاء في " دائرة المعارف الإسلامية "(2) عن (شبرنجر) و (جولدتسيهر)، وكان أكثر طعناً في أبي هريرة من أستاذه، وأسلط لساناً، وأشدَّ منه في استهزائه وازدرائه إياه. فلم ير صحبته للرسول - صَلََّى اللهُ

(1) انظر هامش الصفحة 157 من كتابه.

(2)

انظر صفحة 171 - 172 من كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ".

ص: 244

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَاّ من أجل أكله وشربه، وقد صوَّرهُ طفيلياً جشعاً نهماً، يقف على الأبواب، ويتصدَّى لأصحابه في الطريق حتى إنهم لَيَنْفِرُونَ منه أحياناً، ولَقَّبَهُ بـ (شَيْخِ المُضَيْرَةِ) اعتماداً على ما استقاه من كتب الندماء والظرفاء، وكتب الأدب التي رآها مصدراً حسناً للسُنَّةِ!!! (1)، ويجمع من الأخبار صحيحها وسقيمها من غير أنْ يُمَحِّص فيها، مثال ذلك ما رواه (أبو نعيم في " الحلية "، قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت وهو يقول: «وَيْلٌ لِي مِنْ بَطْنِي، إِذَا أَشْبَعْتُهُ كَظَّنِي، وَإِنَّ أَجَعْتُهُ سَبَّنِي» (2). ذكر هذه الرواية دون أي تعليق لأنها تُؤَيِّدُ ما زعم. إلَاّ أنَّ راوي هذا الخبر ضعيف مردود، لأنَّ فرقد هذا ليس من أصحاب الحديث. وإليكم أقوال العلماء فيه:

قال أيوب السختياني: «ليس بشيء ولم يكن صاحب حديث» .

قال علي بن المديني عن يحيى القطان: «ما يعجبني التحديث عنه» .

قال الإمام أحمد: «إنه رجل صالح ليس بقويٍّ في الحديث لم يكن صاحب حديث» .

قال يحيى بن معين: «ليس بذاك، وقال مَرَّةً: ثقة

».

قال البخاري: «في حديثه مناكير» .

قال النسائي: «ليس بثقة» .

قال يعقوب بن شيبة: «رجل صالح ضعيف الحديث جداً» .

قال أبو حاتم الرازي: «ليس بقويٍّ في الحديث

».

وأما ابن حجر فلم يذكر سماعه من أبي هريرة (3)، وأقول إنَّ سماعه غير محتمل لأنه توفي سَنَةَ إحدى وثلاثين ومائة وأبو هريرة توفي في أبعد الأقوال سَنَةَ تسع وخمسين، فمتى سمعه ووعى عنه، ولو سلَّمنا سماعه، فإنه غير ثقة.

(1) انظر صفحة 156 من كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ".

(2)

انظر صفحة 157 من كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ". و " الحِلية ": ص 382، جـ 1.

(3)

" تهذيب التهذيب ": ص 263، جـ 8.

ص: 245