الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- رضي الله عنه إلى وفاته في آخر خلافة معاوية، وقد كثرت تلك الأحداث مِمَّا أدَّى إلى صعوبة تَقَصِّي سيرة الرجال، وخاصة النواحي السياسية، وذلك لكثرة الروايات واختلافها تارة، أو لقلَّتها وغموضها تارة أخرى.
وخلاصة سيرة أبي هريرة فيها، أنه لم يرض في عهد عثمان أنْ تقوم الفتنة وتراق الدماء، ويثور الناس على الخليفة الثالث من غير حُجَّةٍ ولا دليل، فكان مع عثمان رضي الله عنه يوم الدار، واعتزل ما دار بين أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب وأمير الشام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وتولَّى أحياناً إمرة المدينة أيام معاوية، إما أصالة أو خلافة لمروان بن الحكم أيام حَجِّهِ.
…
أبو هريرة والجهاد في سبيل الله:
كنت ذكرتُ أنَّ أبا هريرة هاجر من اليمن إلى المدينة المنوَّرة أيام غزوة خيبر، وقد وصل إليها والرسول الكيم لا يزال في خيبر، فلحق به مع إخوانه اليمنيِّين المهاجرين، وعلى رأسهم الطُفيل بن عمرو، فسُرَّ بهم الرسول، وأسهم لهم، وجعلهم في ميمنته، وجعل شعارهم «مبرور» (1).
فكانت خيبر أول مشاهد أبي هريرة مع الرسول الكريم، وإنْ كان قد وصلها بعد انتهاء القتال، ثم شهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم جميع غزواته بعد خيبر.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينتدبه أحياناً في بعض بعوثه، من هذا ما رواه الإمام أحمد بسنده عن سليمان بن يسار، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ، فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلانًا وَفُلانًا - لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ - فَأَحْرِقُوهُمَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ
(1) انظر في هذا الكتاب: «إسلامه وهجرته» .
تُحْرِقُوا فُلانًا وَفُلانًا بِالنَّارِ، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَاّ اللهُ عز وجل، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا» (1).
وقد يرسله صلى الله عليه وسلم في سرية ويودعه، من هذا ما أخرجه ابن ماجه في باب تشييع الغزاة ووداعهم، بسنده عن أبي هريرة قال: وَدَّعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، «أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ الَّذِي لَا تَضِيعُ وَدَائِعُهُ» (2).
ولم يترك أبو هريرة الجهاد في سبيل الله بعد وفاة الرسول الكريم وكيف يتركه؟ وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ» (3)، كما سمع قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مُنْخُرَيْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَلَا يَجْتَمِعُ شُحٌّ وَإِيمَانٌ فِي قَلْبِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» (4).
فإذا ما دعت الحاجة إلى الجاد، رأينا أبا هريرة في صفوف الجند يدافع في سبيل الله، وأول وقعة يحضرها أبو هريرة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هي حرب الرِدَّةِ، أخرج الإمام أحمد بسنده عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَاّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى» قال: فلما كانت الرِدَّةُ قال عمر لأبي بكر: تقاتلهم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا؟ قال: فقال أبو بكر: والله لا أفرِّقُ بين الصلاة والزكاة، ولأقاتلنَّ من فرَّقَ بينهما، قال: فقاتلنا معه فرأينا ذلك رشداً (5). القائل هو أبو هريرة.
فَلَمَّا كَانَتِ الرِّدَّةُ، قَالَ عُمَرُ لأَبِي بَكْرٍ: تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كَذَا، وَكَذَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٌ: وَاللَّهِ لَا أُفَرِّقُ بَيْنَ الصَّلَاّةِ، وَالزَّكَاةِ، وَلأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، قَالَ: فَقَاتَلْنَا مَعَهُ فَرَأَيْنَا ذَلِكَ رُشْدًا (5). والقائل هو أبو هريرة».
(1)" مسند الإمام أحمد ": ص 206، جـ 15. وإسناده صحيح.
(2)
" سنن ابن ماجه ": ص 943 حديث 2825، جـ 2.
(3)
" مسند الإمام أحمد ": ص 140، جـ 12. وإسناده صحيح.
(4)
" مسند الإمام أحمد ": ص 220، جـ 13. وإسناده صحيح.
(5)
" مسند الإمام أحمد ": ص 181، جـ 1. وإسناده صحيح.
ويذكر لنا ابن عساكر أنَّ أبا هريرة شهد وقعة اليرموك (1).
وقد ذكر أبو القاسم السهمي - المتوفَّى سَنَةَ 427 هـ - أبا هريرة رضي الله عنه في عداد من دخل «جُرْجَانْ» من الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، وقد فتحت «جُرْجَانْ» في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه سنَةَ [18 هـ](2).
وذكر الرافعي في " التدوين في ذكر أخبار قزوين " أنَّ سلمان الفارسي وَرَدَ كُور قزوين مع أبي هريرة رضي الله عنهما عند منصرفهما من الباب، وكان سلمان رضي الله عنه والياً بالمدائن، وتوفيَ بها في خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل في خلافة عَلِيٍّ رضي الله عنه سَنَةَ ستٍ وثلاثين (3).
وروى الرافعي بسنده عن منصور بن عبد الحميد بن راشد - وكان قديم السن من أهل مرو - قال: رأيت أبا هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقزوين عليه عمامة بيضاء قد خضب بالصفرة، وهذه الرواية تعتضد بروايات أخرى تؤكِّدُ على ورود أبي هريرة «قَزْوِينْ» (4).
ونلمس حُبَّهُ للجهاد في سبيل الله، والاستشهاد تحت لواء الإسلام، فيما يرويه الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:«وَعَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةَ الْهِنْدِ، فَإِنْ أَدْرَكْتُهَا أَنْفَقْتُ فِيهَا نَفْسِي وَمَالِي، فَإِنِ اسْتُشْهِدْتُ كُنْتُ مِنْ خَيْرِ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ رَجَعْتُ فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْمُحَرِّرُ» (5).
…
(1)" تاريخ دمشق " لابن عساكر: ص 429، جـ 47.
(2)
انظر " تاريخ جرجان ": ص 4 - 6.
(3)
انظر " التدوين في أخبار قزوين ": ص 19، جـ 1.
(4)
انظر المرجع السابق: ص 22، جـ 1 مصوَّر خزانة دار الكتب المصرية رقم (7100 ح).
(5)
" مسند الإمام أحمد: ص 97 حديث 7128، جـ 12. وإسناده صحيح، ورواه الحاكم في " المستدرك " والنسائي. وفي رواية للإمام أحمد: «رَجَعْتُ، فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْمُحَرَّرُ، وقد أعتقني من النار»، والمُحَرَّرُ أي المُعْتَقُ، وما من بأس من زيادة الهاء، تكون للمبالغة، كما في «علامة» ونحوها انظر هامش ص 98، جـ 12 من " مسند الإمام أحمد ".