الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حين سمع أبا بكر يُكَبِّرُ في الليل، قَالَ مُضَارِبُ بنِ حَزْنٍ:«بَيْنَا أَنَا أَسِيْرُ تَحْتَ اللَّيْلِ، إِذَا رَجُلٌ يُكَبِّرُ، فَأُلْحِقُهُ بَعِيْرِي، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَبُو هُرَيْرَةَ. قُلْتُ: مَا هَذَا التَّكْبِيْرُ؟ قَالَ: شُكْرٌ. قُلْتُ: عَلَى مَهْ؟ قَالَ: كُنْتُ أَجِيْراً لِبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بِعُقْبَةِ (1) رِجْلِي، وَطَعَامِ بَطْنِي، وَكَانُوا إِذَا رَكِبُوا سُقْتُ بِهِمْ، وَإِذَا نَزَلُوا خَدَمْتُهُمْ، فَزَوَّجَنِيْهَا اللهُ!! فَهِيَ امْرَأتِي» (2).
فأبو هريرة يشكر الله عز وجل على نعمه وتوفيقه لزواجه من بُسرة، وأي شيء في هذا؟ أي شيء أكثر من طيب نفس أبي هريرة وصفائها، ورضائها بما قسم الله له. واحترامه لأنعم الله تعالى، وتوضعه وتذكره ما كان عليه وإقراره بفضل الله عز وجل عليه. ولكن المؤلف استغلَّ طيب نفس أبي هريرة للتشهير به، ورأى في كل ذلك مادة غزيرة يشوِّهُهَا كما يحب ويرضى.
وفي هذا كله يرى أنَّ الأمويِّين استعبدوه بِبِرِّهِمْ «فملكوا قياده، واحتلُّوا سمعه وبصره وفؤاده، فإذا هو لسان دعايتهم في سياستهم، يتطوَّرُ فيها على ما تقتضيه أهواؤهم .. » [صفحة 35].
هكذا أراد المؤلف أنْ يُصَوِّرَ أبا هريرة، الذي عرفنا اعتزاله الفتن، وسيره مع الحق، ومناصحته للمسلمين، وحُبه لأهل البيت.
وهكذا يأبى الله إلَاّ أنْ يُقَوِّضَ ما حاكه أعداء أبي هريرة من شُبُهات ضدَّهُ، ويكشف النقاب عن وجه الحق، ليزهق الباطل، وصدق اللهُ العظيم إذ يقول:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} (3).
…
ثانياً: هل وضع أبو هريرة الأحاديث كذباً على رسول الله
؟:
لقد افترى المؤلف على أبي هريرة افتراءات لا يتصوَّرُها إنسان من مستشرق متجاهل أو من عدوٍّ متحامل، قال: «فتارة يفتئتُ الأحاديث
(1) العقبة، أي نوبة ركوبه.
(2)
" سير أعلام النبلاء ": ص 440، جـ 2.
(3)
[الأنبياء: 18].
في فضائلهم،
…
وتارة يُلَفِّقُ أحاديث في فضائل الخليفتين، نزولاً على رغائب معاوية وفئته الباغية، إذ كانت لهم مقاصد سياسية ضد الوَصِيِّ وآل النبي
…
وحسبُك حديثه في تأمير أبي بكر على الحج سَنَة براءة - وهي سَنَةُ تسع للهجرة - وحديثه في أنَّ عمر كان مُحْدِثاً تكلِّمه الملائكة (1).
وقد اقتضت سياسة الأمويِّين في نكاية الهاشميِّين تثبيت هذين الحديثين وإذاعتهما بكل ما لمعاوية وأعوانه .. من وسيلة أو حيلة .. حتى أخرجتهما الصحاح .. وتارة يقتضب أحاديث ضد أمير المؤمنين جرياً على مقتضى تلك السياسة كقوله: سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَمْ تُحْبَسِ الشَّمْسُ أَوْ تَرد إِلَاّ لِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمُقَدّس .. » [صفحة: 36 - 37].
لقد سيطر على المؤلف هواهُ، حتى أصبح لا يرى في أبي هريرة إلَاّ الكذوب الوضَّاع، فتنكب سبيل الحق، وقذف الصحابة بالكذب، وتجاهل ما أجمع عليه المؤرِّخُون الثقات، واعتمد على روايات الضعفاء، فكان كلام الطبرسي عنده كالتنزيل الحكيم، وضرب بصحاح الكتب عرض الحائط، فيحاول طمس الحق، وتحريف الصواب، وإنني قبل أنْ أجيب عن زعمه أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عزل أبا بكر عن ولاية الحج أتساءل كيف حبست الشمس أو ردت لأمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه؟ وهل أمسكت الشمس عن الغروب ليتمكَّن رضي الله عنه من أداء صلاة العصر في وقتها؟ إنَّ هذه معجزات لا تكون في كل وقت، ولا يمن الله بها إلَاّ على رسله!! ثم لِمَ تُرد الشمس له أو تمسك، ويمكنه أنْ يقضي الصلاة!! والصحاح لم تذكر شيئاً عن هذا الخبر، فأترك المؤلف أنْ يُبَيِّنَ لنا كيف حبست الشمس ومتى كان ذلك علناً نفيد منه؟ لقد ادَّعَى هذا قبله ابن المطهر الحلي، ورد عليه ابن تيمية ردًّا قوياً، وبَيَّنَ كذب هذا الادِّعاء (2).
(1) يشير إلى حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ، فَإِنَّهُ عُمَرُ» . " فتح الباري ": 8/ 49. مُحْدَثٌ بفتح الدال: أي مُلْهَمٌ وصادق الظن، يجري الصواب على لسانه، والتاريخ يشهد لعمر بهذا في أمور مشهورة.
(2)
" المنتقى من منهاج الاعتدال ": ص 524 وما بعدها.
وأما حديث أبي هريرة في تأمير أبي بكر على الحج سَنَةَ براءة، فإنه جاء من طرق كثيرة لا يرقى إليها الشك، ولا يتناولها الظن، والمؤرِّخُون مجمعون على أنه كان أمير الحج ذلك العام، وأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعث علياً بأول سورة براءة، ليقرأها على الناس، وقد سأل أبو بكر علياً عندما أتاه:«اسْتَعْمَلَكَ رَسُوْلُ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ الْحَجِّ؟» قَالَ: «لَا وَلَكِنْ بَعَثَنِيَ أَقْرَأُ بَرَاءُة عَلَىَ الْنَّاسِ» (1)، ويقول الإمام الشافعي: «وَبَعَثَ رَسُولُ الْلَّهِ أَبَا بَكْرٍ وَالَياً عَلَىَ الحَجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَحَضَرَهُ الْحَجُّ مِنْ أَهْلِ بُلْدَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَشُعُوْبٍ مُّتَفَرِّقَةٍ، فَأَقَامَ لَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ رَسُوْلِ الْلَّهِ بِمَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ.
وَبَعَثَ عَلَيَّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ فِي تِلْكَ الْسَّنَةِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ فِيْ مَجْمَعِهِمْ يَوْمَ الْنَّحْرِ آيَاتاً مِنْ سُوْرَةُ (بَرَاءَة)، وَنَبَذَ إِلَىَ قَوْمٍ عَلَى سَوَاءٍ وَجَعَلَ لَهُمْ مُدَداً، وَنَهَاهُمْ عَنْ أُمُوْرٍ».
ولكن المؤلف الذي اتَّبع المنهج العلمي، والذوق الفني السليم، - كما ادَّعى - أبى إلَاّ أنْ يساير أصول عقيدته، ورفض هذه الروايات، وقبل رواية الطبرسي وفيها أنه أعطى علياً أول سورة براءة «وعهد إليه بالولاية العامة على الموسم، وأمره بأنْ يُخَيِّرَ أبا بكر بين أن يسير مع ركابه أو يرجع إلى المدينة» (3).
الأول: أنها شاذة ومنكرة لمخالفتها الروايات الصحيحة الموثوق بها.
الثاني: أنها غير مسندة فلا يقوم دليلاً؛ وكيف نحكم بصحَّتها، ونقبلها من غير أنْ نعرف الأمناء الذين نقلوها إلينا؟.
ولو فرضنا أنها صحيحة السند، ولم يذكره الكاتب، فهي مردودة من
(1)" سيرة ابن هشام ": 4/ 201. وانظر " البخاري بشرح السندي ": 3/ 76. حج أبي بكر بالناس سَنَةَ 9.
(2)
" الرسالة ": ص 414، رقم الفقرة: 1133 و 1134. وانظر " المنتفى من منهاج الاعتدال ": ص 340. حيث يَرُدُّ ابن تيمية على الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، (648 - 726 هـ)، وينقض ما ادَّعاهُ من عدم تولية الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر إمارة الحج سَنَةَ تسع. وانظر ص 497 و 539 منه.
(3)
" أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 162 عن " مجمع البيان ": 3/ 3.
حيث المتن، لأنها تخالف إجماع الروايات الموثوق بها، التي لم يستشهد بها المؤلف (1) ثم حاول الكاتب أنْ يدعم رأيه هذا بروايات ضعيفة تطعن في كبار الصحابة، وهي تتنافى مع المنطق السليم، ويرفضها الذوق الفني، ويردُّها المنهج العلمي، ويدحضها الواقع التاريخي بما يعارضها وينفي صّحتها. فمِمَّا استشهد به ما رواه عن ابن عباس في الصفحة [166] من كتابه قال:«قَالَ مَرَّةً: إِنِّي لأُمَاشِي عُمَرَ بِنَ الْخَطَّابِ فِي سِكَّةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ إِذْ قَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَاسٍ مَا أَرَىَ صَاحِبَكَ إِلَاّ مَظْلُوماً، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي وَالْلَّهِ لَا يَسْبِقُنِي بِهَا. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيْرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَارْدُدْ إِلَيْهِ ظُلَامَتَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي وَمَضَىَ يَهُمُّهُمْ سَاعَةً، ثُمَّ وَقَفَ فَلَحِقْتُهُ؛ قَالَ: يَا ابْنَ عَبَاسٍ، مَا أَظُنُّهُمْ مَنَعَهُمْ عَنْهُ إِلَاّ أَنَّهُمْ اسْتُصْغْرُوهُ، فَقُلْتُ: وَالْلَّهِ مَا اسْتُصْغْرَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ حِينَ أَمَرَاهُ أَنْ يَأْخُذَ بَرَاءَةً مِنْ صَاحِبِكَ فَأَعْرِضْ عَنِّي وَأَسْرع» . الْحَدِيْثِ (1).
إنَّ هذا الخبر مردود من وجوه ينطق بها النص نفسه، منها:
أولاً متى ماشى الخليفة الفاروق ابن عباس رضي الله عنهما؟ ومتى دار بينهما هذا الحوار؟ يفهم من النص أنَّ هذا الحاديث كان في خلافة عمر رضي الله عنه أي بين سنة (13 و 23) فإنْ كان خطابه هذا في أول خلافته - أي حين كان عمر ابن عباس ست عشرة سَنَةً وعُمْرُ أمير المؤمنين ثلاثاً وخمسين سَنَةً، لأنَّ عُمَرْ ولد قبل الهجرة بأربعين سَنَةً وابن عباس ولد قبلها بثلاث سنين - فهو غير معقول، ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يناقش عمر رضي الله عنه ابن عباس - وهو فتى يافع في مقتبل العمر - في أمور الخلافة، وفي الأمَّة أكابر الصحابة!!
وإنْ كانت الحادثة في آخر عهد عمر رضي الله عنه يكون له ثلاث وستون سَنَةً ولابن عباس ست وعشرون سَنَةً، يبعد معها أنْ تجري مثل هذه
(1) انظر " مسند الإمام أحمد ": 2/ 22 رقم 594 وصفحة 319 رقم الحديث: 1286. و " سيرة ابن هشام " و " البخاري " و " الرسالة " المذكورين آنفاً. و " تاريخ الطبري ": 2/ 382.
المناقشة بينهما، لما عرف من أدب ابن عباس ووقار عمر؛ ورجوعه إلى الحق.
ثانياً - إنَّ علائم الوضع ظاهرة على هذا الخبر، ذلك أنَّ عليًّا رضي الله عنه لم تقم له بعد جماعة وأصحاب، حتى يقول أمير المؤمنين عمر لابن عباس:«مَا أَرَىَ صَاحِبَكَ إِلَاّ مَظْلُوماً» ولِمَ كان مظلوماً؟ وما هي المناسبة التي تدعو أمير المؤمنين لأنْ يتعطَّف ابن عباس ويسرِّي عنه باعترافه بظلامة أبي الحسن؟.
ثم هل يتصوَّر من عمر أنْ يعرف ظلامة الإنسان ولا يردها؟ وكيف يكون هذا ولا يَرُدُّ ظلامة صاحبه عَلِيٌّ رضي الله عنهما؟.
ولو سلَّمنا بوقوع هذه المحاورة، فمن هؤلاء الذين ظلموه؟ ومن يعني في قوله:«مَا أَظُنُّهُمْ مَنَعَهُمْ عَنْهُ إِلَاّ أَنَّهُمْ اسْتُصْغْرُوهُ؟» .
ثم إنَّ من الذين منعوا عنه الخلافة، ومن الذي استصغره، وهل كان صغيراً حقاً؟؟ لم يمنع أحد الخلافة عنه أيام بيعة الصِدِّيقِ، بل أجمع الناس على خلافة أبي بكر، ولم يُبْدِ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَيَّ استياء منها وسرعان ما أعلن بيعته؛ ولا يمكن أنْ يقصد عمر بقوله هذا أحقية عَلِيٍّ رضي الله عنه بالخلافة من الصِدِّيقِ، والتاريخ دليل على ما ذهب إليه جمهور المسلمين. ثم إنَّ عَلِيًّا نفسه لم يكن صغيراً آنذاك، وكما وافق على خلافة أبي بكر وافق على خلافة عمر وأعلن بيعته، والإمام عَلِيٌّ نفسه يشهد للعُمَرَيْنِ بمكانتهما فيدحض كل افتراءٍ وكذبٍ، وينقض ما ورد في هذا الخبر. ويأبى اللهُ إلَاّ أنْ يظهر الحق على لسان ابن عباس رضي الله عنهما: وُضِعَ عُمَر عَلَى سَرِيره، فَتَكَنَّفَهُ النَّاس، يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَاّ رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَحَسِبْتُ إِنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» (1). فرضي الله عن الصحابة جميعاً وأرضاهم، فقد كانوا خير قُدوة للناس في حياتهم وإخوتهم، ولكن أهل الأهواء أَبَوْا إلَاّ أنْ بيعدوا الشقَّة بينهم، ويصطنعوا الخلافات، ويستغلُّوا بعض الحوادث، يدفعهم إلى ذلك الضغائن والحقد الذي في نفوسهم ضد الإسلام والمسلمين، كل ذلك لتفريق الكلمة وتحقيق مآربهم وإشباع ميولهم.
(1)" فتح الباري ": 8/ 47. والأخبار التي تعارض ما رواه مؤلف كتاب " أبو هريرة " وتثبت حب عَلِيٍّ رضي الله عنه للخلفاء الثلاثة، وعدم إنكاره لخلافتهم أو اعتبار نفسه خصماً لهم يريد رد ظلامته، أقول إنَّ هذه الأخبار كثيرة جداً منها: ما ذكره السيوطي قال: أخرج ابن عساكر عن الحسن قال: لما قدم علي البصرة قام إليه ابن الكواء، وقيس بن عباد، فقالا له: ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه، تتولى على الأمَّة تضرب بعضهم ببعض؟ أعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك؟ فَحَدِّثْنَا فأنت الموثوق المأمون على ما سمعت، فقال: أمَّا أنْ يكون عندي عهد من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فلا، والله لئن كنت أول من صَدَّقَ به، فلا أكون أول من كذب عليه، ولو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره، ولقاتلتهما بيدي، ولو لم أجد إلَاّ بُرْدِي هذا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل قتلاً، ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أيامًا وليالي، يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلِّي بالناس وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه أنْ تصرفه عن أبي بكر، فأبى وغضب، وقال: " أنتن صواحب يوسف، مُرُوا أبا بكر يصلي بالناس "، فلما قبض الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله صلى الله عليه وسلم لديننا. وكانت الصلاة أصل الإسلام، وهي أمير الدين، وقوام الدين، فبايعنا أبا بكر، وكان لذلك أهلاً، ولم يختلف عليه منا اثنان
…
فلما قبض تولاها عمر، فأخذها بِسُنَّةِ صاحبه، وما يعرف من أمره، فبايعنا عمر، ولم يختلف عليه منا اثنان
…
فلما قبض تذكرت في نفسي قرابتي وسابقتي وسالفتي وفضلي، وأنا أظن ألَاّ يعدل بي، ولكن خشى ألَاّ يعمل الخليفة بعده ذنبًا إلَاّ لحقه في قبره، فأخرج منها نفسه وولده، ولو كانت مُحاباة منه لآثر بها ولده، فبرئ منها إلى رهط من قريش ستة أنا أحدهم، فلما اجتمع الرهط ظننت ألَاّ يعدلوا بي، فأخذ عبد الرحمن بن عوف مواثيقنا على أنْ نسمع ونطيع لمن وَلَاّهُ الله أمرنا، ثم أخذ بيد عثمان بن عفان، وضرب بيده على يده، فنظرتُ في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بَيْعَتِي، وإذا ميثاقي أخذ لغيري، فبايعنا عثمان، فأديت له حقه، وعرفت له طاعته، وغزوت معه في جيوشه، وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطي. فلما أصيب نظرت في أمري، فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما بالصلاة قد مضيا، وهذا الذي أخذ له الميثاق قد أصيب، فبايعني أهل الحرمين، وأهل هذين المِصْرَيْنِ، فوثب فيها من ليس مثلي، ولا قرابته كقرابتي، ولا علمه كعلمي، ولا سابقته كسابقتي، وكنت أحق بها منه». اهـ.
انظر " تاريخ الخلفاء القائمين بأمر الأُمَّة " للسيوطي: ص 119.
ومعاذ الله أنْ يروي ابن عباس ذاك الخبر، ولكن يد الوضع صنعته، لتثبت بالفقرة الأخيرة منه أحقية عليٍّ رضي الله عنه بالخلافة .. ولتثبت ولايته العامة على الحج سَنَةَ براءة.
ثالثاً: إنَّ هذا الخبر لم يرد في كتاب موثوق به، وقد نقله الكاتب عن كتاب " الموفقيات " للزبير بن بكار المشهور، وهو ثقة قد ألَّف تاريخه هذا للموفق بالله بن المتوكِّل الخليفة العباسي. إلَاّ أنه لم يذكر إسناده فسقط الاحتجاج به.
وهكذا تبيَّن لنا ضعف هذا الخبر سنداً ومتناً: إلَاّ أنَّ المؤلف لم يأخذ ما ذكرناه مأخذاً سليماً ولم يعتبره، ورأى في هذا الخبر ما يُشفي غليله، ويشبع رغبته بتوجيه الطعن، لا إلى أبي هريرة وحده، بل إلى الخليفتين الراشدين رضي الله عنهم جَمِيعاً - فعقَّب على تلك الرواية بقوله:«فلله أبوه كيف استظهر على الخليفة بهذه الحُجَّةِ البالغة فأخذه من بين يديه ومن خلفه ومن جميع نواحيه حتى لم يبق في وسعه أنْ يثبت فأعرض وأسرع ولو أنَّ صاحبه كان هو الأمير في ذلك الموسم ـ كما يزعم أبو هريرة ـ ما لاذ إلى الاسراع بل كانت له الحُجَّةُ على ابن عباس وعمر كان مع أبي بكر إذ توجه ببراءة وإذ رجع من الطريق فهو من أعرف الناس بحقائق تلك الأحوال» (1).
هذه إحدى النتائج التي يرمي إليها الكاتب من وراء ذاك الخبر؛ ولكن ابن عباس لم يأخذ الخليفة من بين يديه ومن خلفه ومن جميع نواحيه، لأنَّ شيئاً من هذا كله لم يكن، وإني على يقين من عدم صحة ذاك الخبر الذي بيَّنْتُ ضعفه، ومنافاته للذوق السليم والمنطق والمنهج العلمي، لوجود روايات صحيحة ثابتة ترده، وتقوم حُجَّةُ على المؤلف، وتبرِّئ ابن عباس مِمَّا ألصق به، وتنزه الخلفاء الثلاثة عن تلك التُّهم الباطلة التي وجهت إليهم، وتثبت مقام عليٍّ رضي الله عنه وحُبَّهُ لهم، وتنفي كل افتراء عليه وعليهم، وإنَّ
(1)" أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 168.
هذه الروايات ستأخذ الكاتب من بين يديه، وتسدُّ عليه كل منفذ، وتقوِّض كُلَّ حُجَّةٍ يدَّعيها في هذا الموضوع.
ثم يتابع الكاتب عرض بعض الأخبار، ليدعِّم ما ذهب إليه من ولاية أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه للحج سَنَةَ براءة، وإنَّ جميع ما استشهد به مطعون في صِحَّتِهِ، والصحيح منه ينصُّ فقط على إرسال أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه بأول سورة براءة. ثم يستنتج المؤلف بعد هذا ما يأتي فيقول:«ألا تراه كيف حَرَّفَ الحديث عن موضعه، وصرف الفضل فيه عن أهله متقرباً فيما حَرَّفَ الى اولياء الأمور، ومتحبباً فيما صَحَّفَ إلى سواد الجمهور اختلق لهم ما يروقهم من تأمير أبى بكر الصديق. وما أدرك ما فعل!؟ إنه أخرس بذلك ألسنة الثقات الأثبات عن معارضته، وألجم أفواههم أنْ تنبس في بيان الحقيقة ببنت شفة، خوفاً من تألُّب العامة ورعاع الناس. واشفاقاً من نكال أولي الأمر ووبالهم يومئذ؟ وما أدراك ما يومئذ؟!» (1).
إنه يَتَّهِمُ أبا هريرة بتحريف الحديث عن موضعه، لأنه لم يختلق حديثاً يتمشَّى مع هوى المؤلف، ويوافق ميوله وما يصبو إليه، ويدَّعِي أنه انتقص الإمام، وصرف عنه ذلك الفضل الذي ادَّعَاهُ في رواية الطبرسي؛ كل هذا فعله أبو هريرة ليتقرَّب إلى الأمويِّين؟! وليتقرَّب إلى سواد الجمهور بما يروقهم؛ عَجَبٌ من المؤلف كيف يَدَّعِي هذا!!؟ ولِمَ يُرْضِ أبو هريرة الجمهور، ويكذب على رسول الله من أجل ذلك؟ أيخشى أبو هريرة الجمهور ولا يخشى الله ورسوله؟ هذا افتراء على أبي هريرة، وافتراء على الحق، واستخفاف بجمهور المسلمين، وَزَعُمٌ واضح منه أنهم على غير صواب فيما يعتقدون، وعلى غير هُدَى فيما يعترفون، إنه يتَّهم الجمهور في هذا ويجعلهم مِمَّنْ يمالئون السلطة .. وينساقون كما يريد .. ويتحامل على أولي الأمر فيُصَوِّرُهُمْ بالمُستبدِّين الغاشمين الطاغين. عَجَبٌ من المؤلف
(1)" أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 180.
كيف يريد أنْ يقلب الحقائق التاريخية التي عرفها كل إنسان آنذاك، وعاصرها كثير من المسلمين، فيجعل أبا هريرة كذاباً يضع ما يروق للجمهور!! فهل الجمهور على خطأ في معرفتهم أم أنَّ بعض أهل الأهواء الذين دفعتهم ميولهم وأهواؤهم إلى الكذب والتلفيق وقلب الحقائق هم المخطئون!!؟ إنَّ الواقع والبحث العلمي شيء والانسياق وراء العاطفة والهوى شيء آخر، فللمرء أنْ يميل إلى أيِّ مبدأ أو إلى أي شخص، وله أنْ يحبه أو يكرهه، ولكن لا يجوز بأيِّ شكل أنْ يُحَرِّف الحقيقة، ويخالف الواقع، فأبو هريرة لم يكذب في هذا الخبر ولا في غيره، والجمهور في تأمير أبي بكر على الحج لم يختلقوا أخباراً من عندهم، إنما كانوا على الحق والصواب، لأنهم عاصروا ذلك وعرفوه ورفضوا كل خبر ينافي الحقيقة التاريخية الصادقة. ولهم في اعتقادهم هذا وأبو هريرة في خبره لم يمنعوا أحداً من أنْ يقول ما يعرف وما يعتقد، وقد كانت الحرية عامة، وكان المسلمون على جانب عظيم من الجُرأة في الحق، حتى إنَّ بعض النساء كُنَّ يُنَاقِشْنَ الخلفاء وَيَسْتَدْرِِكْنَ عليهم، والتاريخ يشهد بهذا، ولو كان أبو هريرة غير صادق في خبره لانبرت ألسنة الحق تُقَوِّمُهُ وتَرُدُّهُ إلى الصواب، وقد كان في الأمَّة أكابر الصحابة وعلماؤهم مِمَّنْ اعتزلوا الفتن، فلم يرد قط رَدَّ أحد منهم على أبي هريرة، وأكثر من هذا لم ينفرد أبو هريرة برواية هذا الخبر، بل رواه كثيرون، حتى إنَّ ابن سعد عندما يروي ذلك يقول (قالو)(1) وقد رواه ابن عمر (2) وأبو جعفر محمد بن علي - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - (3) وغيرهم، فهل هؤلاء جميعاً وضعوا الخبر تقرُّباً إلى أولياء الأمور!!؟ وأكثر من هذا اعتراف الإمام عليٍّ رضي الله عنه بولاية أبي بكر العامة على الحج (4)، أفبعد هذا يحاول امرُؤٌ أنْ يقلب الحقائق ويُحَرِّفَ النصوص، ويطعن في أكابر الصحابة وفي علمائهم!!؟
(1)" طبقات ابن سعد ": 2: 1/ 120.
(2)
" طبقات ابن سعد ": 2: 1/ 125.
(3)
" سيرة ابن هشام ": 4/ 203. وانظر " تاريخ الطبري ": 2/ 382.
(4)
انظر " سيرة ابن هشام ": 4/ 203، و " تاريخ الطبي ": 2/ 382.
ثم يستنتج الكاتب ما يلي فيقول: «أراد أبو هريرة بحديثه هذا أنْ يجتاح المقام المحمود الذي رفع الله ورسوله يومئذ سُمْكَهُ مقام أمير المؤمنين في ذلك الموسم إذ كان يرمي إلى امرين.
(أحدها) أنَّ المهمة التي جاء بها عَلِيٌّ انما كان أمرها بيد أبى بكر الصديق بسبب إمارته على الحج وولايته العامة تلك السَنَةِ على الموسم وإنَّ أبا بكر لم يكتف بِعَلِيٍّ في أداء المهمة حتى بعث أبا هريرة في رهط من أمثاله الأقوياء الأشداء!! اهتماماً بأدائها
…
وحسبك في تزييف هذا أنَّ الله تعالى لم يَرَ أبا بكر نفسه أهلاً لأداء هذه المهمة فأرجعه عنها
…
» (2).
هكذا أراد المؤلف أنْ يُصَوِّرَ الحاديثة، وهذا ما استنتجه منها، وقد ظهر زيف ما ادَّعَى وبطلان ما زعم.
تخيَّل المؤلف أنَّ أبا هريرة كان يسير بتوجيه الأمويين، وينزل على ما يحبون ويضع الحديث، وأدلى بِحُجَّتِهِ على ذلك فساق أخباراً لا ترقى إلى الصِحَّةِ والحقيقة فقال:«قال الامام أبو جعفر الاسكافي: إنَّ معاوية حمل قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عَلِىٍّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا له ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمُغيرة بن شُعبة، ومن التابعين عُروة بن الزيبر إلى آخر كلامه» .
وقال: «لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على رُكبتيه ثم
(1) يشير المؤلف إلى الحديث الذي ذكره في الصفحة 179 من كتابه عن أبي هريرة: «بعثني أبو بكر في الحَجَّةِ التي أَمَّرَهُ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حَجَّةِ الوداع بسَِنَةٍ في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذِّنُونَ بِمِنَى: أَنْ لَا يَحُجّ بَعْد الْعَام مُشْرِك وَلَا يَطُوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ بعَلِيٍّ فَأَذَّنَ مَعَنَا يَوْمَ النَحْرِ» . يذكر هذا الحديث ويعلق عليه بأنه من تزوير أبي هريرة وتنميقه ليرضي رعاع الناس والسلطة الحاكمة. وأنَّ هذا الحديث صحيح أخرجه البخاري في " صحيحه ". انظر " البخاري بشرح السندي ": 3/ 76 وابن سعد في " طبقاته "، انظر: 2/ 120.
(2)
" أبو هريرة ": ص 170.
ضرب صلعته مراراً!! وقال: " يا أهل العراق .. أتزعمون أني أكذب على الله ورسوله (1) وأحرق نفسي بالنار؟ والله لقد سمعت رسول الله يقول: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَرَمًا وَإِنَّ الْمَدِينَةُ حَرَمِي فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ". قال: (واشهد بالله أنَّ عَلِياً أَحْدَثَ فيها!! فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولَاّهُ إمارة المدينة» [صفحة: 38 - 39].
هذه أخبار مختلفة استشهد بها المؤلف ليدعم زعمه أنَّ أبا هريرة كان عميلاً للأمويِّين، وَضَّاعاً للحديث. إلَاّ أنَّ هذه الأخبار مردودة سنداً ومتناً.
أولاً: أما من حيث السند. فإنَّ ابن أبي الحديد صاحب " شرح نهج البلاغة " نقل هذه الأخبار عن شيخه محمد بن عبد الله أبو جعفر الإسكافي (- 240 هـ) وهو من أئمة المعتزلة المتشيِّعين، والعداء مستحكم بين المعتزلة وأهل الحديث من أواخر القرن الأول الهجري وأصبح متوارثاً. وأترك التعريف بأبي جعفر وتزكيته لتلميذه ابن أبي الحديث فيقول: ذكر
(1) إنَّ صاحب كتاب " أضواء على السُنَّة " ساق هذه الروايات في ص 190 - 191 وعلَّق في الهامش على هذا الخبر فقال: «يَدُلُّ هذا القول على أنَّ كذب أبي هريرة على النبي قد اشتهر حتى عَمَّ الآفاق لأنه قال ذلك وهو بالعراق وأنَّ الناس جميعاً كانوا يتحدَّثُون عن هذا الكذب في كل مكان» [هامش ص 190]. انظر إلى هذا المؤلف الذي أخذ عن أستاذه فبزَّهُ وتفوَّق عليه بالاستنتاجات الخيالية والأوهام الصورية. وكن له وقفة بين يدي الله تعالى.
(2)
يعلِّقُ صاحب " أضواء على السُنَّة " بعد هذا فيقول: «ثم قام عنه بعد أنْ صفعه هذه الصفعة الأليمة
…
» إنه يريد أنْ ينتهز أيَّةَ فرصة ليصُبَّ غضبه على أبي هريرة لبغضه إيَّاهُ وحقده عليه.
شيخنا أبو جعفر الإسكافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وكان من المُحقِّقين بموالاة عليٍّ عليه السلام والمُبالغين في تفضيله وإنْ كان القول بالتفضيل عاماً شائعاً في البغداديِّين من أصحابنا كافة إلَاّ أنَّ أبا جعفر أشدُّهُمْ في ذلك قولاً، وأخلصهم فيه اعتقاداً» (1).
هذه شهادة تليمذ لأستاذه لا يرقى إليها الشك، ولا يعتريها الظن والتأويل، فالأستاذ من أهل الأهواء، الداعي إلى هواهُ، بل من المُتعصِّبين في ذلك، بشهادة أقرب الناس إليه وأعرفهم به. فإذا سبق لأمثاله أنْ كذَّبُوا الصحابة في الحديث بل في نقل القرآن فليس بعيداً أنْ يكذبوا على أبي هريرة ويفتروا عليه وعلى بعض الصحابة والتابعين.
فروايته مردودة لسببين:
الأول: ضعف الإسكافي لعاملين: الأول أنه معتزلي يناصب العداء لأهل الحديث، والثاني، أنه شيعي محترق. فقد اجتمع هذان العاملان فيه، ويكفي أحدهما لردِّ روايته. وبعد هذا لا يعقل أنْ تقبل الجرح والتعديل أو الرواية من رجل مطعون في عدالته، مشكوك في روايته يعادي أهل السُنَّة، فمن البداهة رفض روايته.
الثاني: لم تذكر هذه الروايات في مصدر موثوق بسند صحيح. علماً بأنَّ الإسكافي لم يذكر لها سنداً فلن أقول إنها موضوعة، بل يكفي إنها ضعيفة لا يُحْتَجُّ بها.
ثانياً: وأما من حيث المتن - فلم يثبت أنَّ معاوية حمل أحداً على الطعن في أمير المؤمنين عَلِيٍّ رضي الله عنه، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه تطوَّع في ذلك، أو أخذ أجراً مقابل وضع الحديث، والصحابة جميعاً أسمى وأرفع من أنْ ينحطُّوا إلى هذا الحضيض، ومعاذ الله أنْ يفعل هذا إنسان صاحب رسول الله وسمع حديثه وزجره عن الكذب، وإنَّ جميع ما جاءنا من هذه الأخبار الباطلة، إنما كان عن طريق أهل الأهواء الداعين
(1)" شرح نهج البلاغة ": 1/ 467 طبعة بيروت.
إلى أهوائهم المُتعصِّبين لمبادئهم، فتجرَّأوا على الحق، ولم يقيموا للصُحبة حرمتها، فتكلَّمُوا في خيار الصحابة واتَّهَمُوا بعضهم بالضلال والفسق، وقذفوا بعضهم بالكفر، وافتروا على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم (1)، وقد كشف أهل الحديث عن هؤلاء الكذبة، لذلك ناصبت أكثر الفرق العداء أصحاب الحديث، فاخترعوا الأباطيل وأرادوا أنْ تفقد الأُمَّة الثقة بهم، وتتبَّعُوا أحوالهم، من ذلك ما فعله المعتزلة والروافض وبعض فرق الشيعة، ومن أراد الاطلاع على بعض هذا فليراجع كتاب " قبول الأخبار " للبلخي. ولكن الله أبى إلَاّ أنْ يكشف أمر هذه الفرق، ويميط اللثام عن وجوه المتستِّرين وراءها، فكان أصحاب الحديث هو جنود الله عز وجل، بيَّنُوا حقيقة هؤلاء، وأظهروا نواياهم وميولهم، فما من حديث، أو خبر في صحابي، أو يُشَكِّكُ في عقيدة، أو يخالف مبادئ الدين الحنيف إلَاّ بين جهابذة هذا الفن يد صانعه، وكشفوا عن علَّته.
فادِّعاء المؤلف مردود حتى يثبت زعمه بحُجَّةٍ صحيحة مقبولة. وكيف تتصوَّرُ معاوية يُحَرِّضُ الصحابة على وضع الحديث كذباً وبُهتاناً وزُوراً، ليطعنوا في أمير المؤمنين عَلِيٍّ رضي الله عنه، وقد شهد ابن عباس رضي الله عنهما لمعاوية بالفضل والعقل والفقه (2) وقد ذكر ذلك البخاري في " صحيحه ". فهل للمؤلف أنْ يتَّهم حبر الأُمَّة وعالمها بالكذب، أو بالتشيُّع لمعاوية (3)؟ هذا لا يمكن، وشهادة ترجمان القرآن صحيحة، وبذلك ننفي تُهمة المؤلف الأمين!! وقد افترى الإسكافي على الصحابة الذين ذكرهم، وبَيَّن ابن العربي في " العواصم من القواصم " جانباً من أمرهم وكانتهم وورعهم، كما بَيَّنَتْ كُتُبُ التراجم سيرتهم. ثم إنَّ روايات أهل الأهواء تسرَّبتْ إلى التاريخ الإسلامي، وخاصة ما يتعلَّق بأخبار الأمويِّين.
(1) انظر " العواصم من القواصم ": ص 182 - 183.
(2)
" فتح الباري ": 8/ 104 - 105.
(3)
انظر " أضواء على التاريخ ": ص 191 وما بعدها فللأستاذ محب الدين كلمة قَيِّمَةٌ في معاوية يجدر الاطلاع عليها.
لأنَّ كُتُبَ التاريخ كتبت بعد بني أمية فشوَّهتْ سيرتهم (1) ومع هذا لم يعدم التاريخ الرجال الأمناء المُخلصين، الذين دَوَّنُوا حوادثه بأسانيدها حتى يَتَبَيَّنَ المُطَّلِعُ الصحيحَ من الباطلِ، فليس كل خبر في كتاب يقبل ويؤخذ به، فلا بد من دراسته دراسة علميَّةٍ حسب منهج المُحَدِّثِينَ الدقيق - سنداً ومتناً.
ثم إنا نستبعد صحة هذا الخبر، فإنَّ عُروة ولد سنة (22 هـ) فكان عمره في فتنة عثمان رضي الله عنه (13 سَنَةً)، وعندما استشهد أمير المؤمنين عَلِيٌّ رضي الله عنه (18 سَنَةً)، فمن يتصوَّرْ خليفة كمعاوية يحمل عروة بن الزبير ليضع أحاديث تطعن في عَلِيٍّ رضي الله عنه؟ ثم إنَّ عُروة نفسه كان يافعاً على عَتَبَةِ العلم لم يشتهر بعد. فكان أحرى بمعاوية - لو صَحَّ الخبر - أنْ يُغري من هو أشهر منه وأعلم من كبار الصحابة والتابعين.
وإن قال قائل إنما استعان به أيام خلافته بعد استشهاد الخليفة الراشد الرابع، فالجواب بَدَهِيٌّ في أنَّ عروة كان حين وفاة معاوية ابن (38) ثمان وثلاثين سَنَةً، فَلِمَ يستفيد منه؟ وفي الأُمَّة كبار الصحابة والتابعين. أيفيد منه ليضع له الحديث كما زعم الكاتب؟ إنَّ كلمة المسلمين اجتمعت سَنَةَ (40) عام الجماعة حين بايع الحسن معاوية بالخلافة وثبتت دعائم الحكم، فلم تبق أية ضرورة للدعاية للأمويِّين وهم الحكام وبيدهم الزمام. ولو سلَّمنا جدلاً أنَّ عروة قد قام بما ادَّعاهُ المؤلف!! فهل يسكت عنه علماء الأُمَّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وبينهم الأبطال الشُجعان وفيهم الأقوياء الأفذاذ؟ لقد كانت الأُمَّةُ الإسلامية واعية في ذلك العصر، عرف أبناؤها الحوادث جميعها وعاصروها واختبروها فلم تعد تخفى دقائقها على أحد، وعرف المسلمون قادتهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن من السهل أنْ يُغيِّرَ وجه الحق بعضُ الصحابة والتابعين - كما زعم المؤلف - لإرضاء الخليفة وإشباع ميوله ورغباته. وإنَّ من يحاول إثبات صِحَّةَ هذا الخبر لَيَتَجَنَّى على الأُمَّة جميعها، ويجعل من عاصر
(1)" العواصم من القواصم ": ص 177.
تلك الحوادث بُلْهاً مُغَفَّلِينَ، يعمي عليهم الحق بالدعايات الكاذبة والأخبار الموضوعة، والواقع يثبت خلاف ذلك، ويثبت وضع الخبر وعدم صِحَّتِهِ.
أما الخبر الثاني وهو قدوم أبي هريرة العراق، فإن رواية الإسكافي وقد عرفناه وعرفنا منزلة أخباره، ولو سلَّمنا - جدلاً - بصحة هذه الرواية، فإنَّ أبا هريرة يدفع عن نفسه ما أشاعه بعض خصوم الأمويِّين. ثم إنَّ الحديث الذي رُوِيَ عن أبي هريرة ينفي نفياً قاطعاً صحة هذه الرواية ويُبَيِّنُ زيفها. فقد روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«المَدِينَةُ حَرَمٌ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا صَرْفٌ» (1). فليس فيها تلك الزيادة التي اختلقتها أيدي الواضعين في ذم الإمام عَلِيٍّ لينال أبو هريرة أجره من معاوية رضي الله عنهم جَمِيعاً -.
والمؤلف الأمين يحذف من الرواية بعضها وهو «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَرَمًا، وَإِنَّ حَرَمِيَ بِالْمَدِينَةِ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عِيرٍ وَثَوْرٍ» لأنَّ هذا القسم سينقض روايته وادِّعاءه لأنَّ الثابت عن أبي هريرة أنه لم يذكر هذا بل ذكره أمير المؤمنين عَلِيٌّ رضي الله عنه في كلمة مشهورة له كما في " صحيح مسلم "(2) إلَاّ أنَّ الإسكافي ذكرها عن أبي هريرة (3) وهذا دليل آخر على سوء نياتهم وموقفهم من أبي هريرة خاصة وبعض الصحابة عامة.
ثم إنَّ المؤلف نفسه يناقض بروايتاته ما يزعمه ويدَّعِيهِ. فقد زعم قبل قليل في الصفحة [25] من كتابه أنَّ بُسر بن أبي أرطأة وَلَّى ابا هريرة المدينة حين قدم إليها. وفي الصفحة [39] يقول: «لما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولَاّهُ إمارة المدينة» !! فأيُّ الخبرين يحب المؤلف أنْ نعتمد
(1)" صحيح مسلم ": 2/ 999 حديث 469.
(2)
انظر " صحيح مسلم ": 2/ 995 وما بعدها و 2/ 1147 وقد نقل صاحب " أضواء على السُنَّة " الرواية كاملة ظناً منه أنه يوفق لإثبات خطأ أبي هريرة ولم يفلح لأنها ليست من روايته. انظر صفحة [190] من كتابه.
(3)
" شرح نهج البلاغة ": 1/ 467.
ونأخذ به؟ أم أنَّ المؤلف يرى في الخبر الثاني توكيداً لإمارته على المدينة؟ إنَّ له ما أراد وما اختار من الروايات المتعارضة!!.
وأما ما ذكره في الهامش من صفحة [39] رواية عن الثوري فقد نقلها إلينا أبو جعفر الإسكافي وجرَّبنا عليه الكذب والطعن في الصحابة فروايته هذه غير مقبولة من طريقه، وهناك رواية عن أبي هريرة ليست فيها الزيادة وَرَدِّ الشاب عليه «فأشهد بالله لقد واليتَ
…
» التي ذكرها الإسكافي، فالرواية عن داود بن يزيد الأودي عن أبيه قال: دخل أبو هريرة المسجد فاجتمع إليه الناس فقام إليه شاب فقال: أنشدك بالله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» ؟ قال: «إني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ» . رواه أبو يعلى والبزار بنحوه (1).
إنَّ هذه الرواية تثبت مكانة أبي هريرة عند أهل العراق، إذ يستشهدونه عن سماعه لحديث مكانة عَلِيٍّ رضي الله عنه بخلاف ما ذهب إليه الكاتب، وليس فيها تلك الزيادة التي ألحقت لحاجة في نفس صانعها، وحاول أنْ يُدَلِّسَ على الناس حقيقة الحديث
…
وهكذا ينكشف أمر هؤلاء الذين خاضوا في الصحابة وأعراضهم وعدالتهم ودينهم
…
ولم تكن هذه الحادثة صعفة أليمة (2) من ذلك الشاب لأبي هريرة، بل كانت صفعة قاضية من الحق لأعدائه!!
ويتابع المؤلف افتراءه على أبي هريرة ويتَّهمه بالولاء للأمويِّين حتى زعم أنَّ أبا هريرة كان يرتجل الأحاديث يدافع بها عن منافقي بني أميَّة (3) الذين لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
(1)" مجمع الزوائد ": ص 105، جـ 9 وقال:«وَفِي أَحَدِ إِسْنَادَيْ الْبَزَّارِ رَجُلٌ غَيْرُ مُسَمًّى، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ فِي الآخَرِ، وَفِي إِسْنَادِ أَبِي يَعْلَى (دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ)» فالحديث صحيح في إحدى روايتي البزار.
(2)
إشارة لما قاله مؤلف " أضواء على السُنَّة المحمدية ": في الصفحة 191.
(3)
انظر كتاب " أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 39.
ولهذا عرف الأمويُّون فضله عندهم فعمل «مروان وبنوه في تعداد أسانيده وتكثير طرقه أعمالاً جبَّارة، لم يألفوا جُهداً، ولم يدَّخروا وسعاً. حتى أخرجه أصحاب الصحاح والسُنن والمسانيد. ولمروان وبنيه في رفع مستوى أبي هريرة وتفضيله على من سواه في الحفظ والضبط والإتقان والورع أعمال كان لها أثرها إلى يومنا هذا
…
» [ص 40]، ثم يسوق قصة كاتب مروان حين كتب ما حدَّث به أبو هريرة، ويستشهد بالمشادة التي قامت بين مروان وأبي هريرة يوم وفاة الحسن والخلاف في مواراته في حُجْرَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم. ويرى أنَّ هذه مؤامرة للإشادة بحفظ أبي هريرة، وأفضليته في ذلك على كثير من الصحابة، ويرى أنَّ هذه المؤامرة الممثلة انتهت بتسليم مروان وخنوعه واعترافه بفضل أبي هريرة ومكانته وفي هذا يُرَوِّجُ - كما يزعم المؤلف - بضاعة أبي هريرة «التي كان مروان ومعاوية وبنوهما يحاربون بها الحسن والحُسين وأباهما وبنِيهِمَا، وكانت من أنجع الدعايات في تلك السياسات
…
» [ص 42].
لقد سبق أنْ بيَّنتُ وجه الحق في هذه الحقائق التاريخية، وإنما نظر المؤلف إليها بمنظاره الأسود، من خلال نفسه وآرائه، فكانت صورة ناطقة عما يدور في ضميره وتنطوي عليه سريرته.
…
8 -
كمية حديثه (1): [ص 42 - 55]:
قال المؤلف: «أجمع أهل الحديث - كما في ترجمته من " الإصابة " وغيرها
(1) قديماً أخذ النَظَّامُ على أبي هريرة كثرة أحاديثه وتابعه بعض المعتزلة منهم أبو القاسم البلخي وتعرَّض لذلك في كتابه " قبول الأخبار ومعرفة الرُواة "، وقد رَدَّ ابن قتيبة على النظَّام في كتابه " تأويل مختلف الحديث ": صفحة 48، وبرَّأ أبا هريرة من تُهمة النظام. ومن المتأخرين عبد الحسين شرف الدين في كتابه " أبو هريرة " ونحن نناقشه ذلك، وكذلك " دائرة المعارف الإسلامية " نقلاً عن جولدتسيهر، ومحمود أَبُو رِيَّة في كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 162، ويجمعهم جميعهم في ذلك هوى مُتَّبَعٌ ومآرب نفسية تخدم مبادئهم سواء أكانت طائفية أم تبشيرية. وقد تولى الدكتور مصطفى السباعي الرد على المستشرقين وعلى أبي رية في كتابه " السُنَّة ومكانتها في التشريع =
- على أنه أكثر الصحابة حديثاً، وقد ضبط الجهابذة من الحفظة الأثبات حديثه فكان خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين مسنداً، وله في " البخاري " فقط أربعمائة وستة وأربعون حديثاً.
وقد نظرنا في مجموع ما روى من الحديث عن الخلفاء الأربعة فوجدناه بالنسبة إلى حديث أبي هريرة وحده أقل من السبعة والعشرين بالمائة، لأنَّ جميع ما روي عن أبي بكر إنماهو مائة واثنان وأربعون حديثاً، وكل ما أسند إلى عمر إنما هو خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثاً، وكل ما لعثمان مائة وستة وأربعون حديثاً، وكل ما رَوَوْهُ عن عَلِيٍّ خمسمائة وستة وثمانون مسنداً، فهذه ألف وأربع وأحد عشر حديثاً، فإذا نسبتها إلى حديث أبي هريرة وحده - وقد عرفت أنه 5374 - تجد الأمر كما قلناه، فلينظر ناظر بعقله في أبي هريرة، وتأخُّره في إسلامه، وخموله في حسبه، وأميَّته، وما إلى ذلك مِمَّا يوجب إقلاله، ثم لينظر إلى الخلفاء الأربعة، وسبقهم، واختصاصهم، وحصوريهم تشريع الأحكام، وحسن بلائهم في اثنين وخمسين سَنَةً، ثلاث وعشرين كانت بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسعة وعشرين من بعده، ساسوا فيها الأمَّة وسادوا الأمم
…
فكيف يمكن والحال هذه أنْ يكون المأثور عن أبي هريرة وحده أضعاف المأثور عنهم جميعاً؟ أفتونا يا أولي الألباب؟! وليس أبو هريرة كعائشة وإنْ أكثرت أيضاً، فقد تزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلام أبي هريرة بعشر سنين، فكانت في مهبط الوحي والتنزيل ومختلف جبرائيل وميكائيل أربعة عشر عاماً، وماتت قبل موت أبي هريرة بيسير».
ثم وازن بينهما في الذكاء والفطنة، ثم قال: «على أنها اضطرت إلى نشر حديثها إذ بثت دعاتها في الأمصار، وقادت إلى البصرة ذلك العسكر
= الإسلامي ". وانظر كتاب " ظلمات أبي رية ": ص 162، و " الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السُنَّة المحمدية من الزلل والتضليل والمجازفة ": ص 152. و " المنهج الحديث ": ص 153 وكتاب " الحديث والمحدِّثون ": ص 153.
الجرَّار. ومع هذا فإنَّ جميع ما رُوِيَ عنها إنما هو عشرة مسانيد ومائتا مسند وألفا مسند، فحديثها كله أقل من نصف حديث أبي هريرة.
ولو ضممت حديثها وحديث أم سلمة مع بقائها إلى ما بعد وقعة الطَفِّ وجمعت ذلك كله إلى حديث البقية من أمهات المؤمنين، وحديث سَيِّدَيْ شباب أهل الجنة، وسيِّدة نساء العالمين وحديث الأربعة من خلفاء المسلمين ما كان كله إلَاّ دون حديث أبي هريرة وحده! وهذا أمر مهول الفت إليه أرباب العقول
…
».
ثم يطعن في حديث الوعاءين، ويستشهد بأقوال أبي هريرة في ذلك، ثم يقول:«قلت: إنَّ أبا هريرة لم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلِِيَّ عهده، ولا خليفته من بعده، ليؤثره بأسراره، ويُفضي إليه من العلوم ما لم يفض بها إلى أحد من خاصَّته. وما الفائدة بإفضاء تلك الأسرار إليه؟ وهو رجل ضعيف ذو مهانة تمنعه أنْ ينبس في شيء منها ببنت شفة، فإذا نبس رجم بالحجارة، ورمي بالبعر وبالمزابل، وإذا حدَّثَ بشيء من تلك العلوم قطعوا منه البلعوم» .
ويستغرب كيف لا يفضي بها إلى الخلفاء من بعده؟ ويرى قول أبي هريرة «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَا يَكْتُمُ، وَلَا يَكْتُبُ» يعارض حديث حفظ الوعاءين، وهو صريح في أنه كان يكتم؛ ثم يستهزئ بما كتم أبو هريرة، ويتساءل: هل أحد الوعاءين من باب الأسرار الإلهية
…
ثم يتساءل عن بعض أحاديث حَدَّثَ بها، وقد وردت في " الصحيحين "، وفهمهما الجمهور من غير لبس، وجميع أهل السُنَّة صِحَّتَهَا، ولكنه أراد أنْ يتهكَّمَ ويسخر من أبي هريرة (1) وإنَّ ضِيقَ تفكيره، وتحامله على اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله يفهم هذه الأحاديث فهماً خاطئاً، ويحملها على غير مواضعها.
ثم يرى حديث أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ» يعارض
(1) انظر " أبو هريرة ": ص 50 - 52.
كثرة حديث أبي هريرة، ويرى أنه إقرار صريح من أبي هريرة بأنَّ ابن عمرو أكثر منه حديثاً. وقد بلغ مسند عبد الله بن عمرو (700) حديثاً.
ثم يزعم أنَّ العلماء حاروا في أمر أبي هريرة ولم يروا مخرجاً له، اللهم إلَاّ ما علَّله ابن حجر العسقلاني والشيخ زكريا الأنصاري، بأنَّ عبد الله بن عمرو وقطن مصر بينما سكن أبو هريرة المدينة مقصد المسلمين. ومع هذا يرى كلام أبي هريرة صريحاً يحبط تأويل واعتذار القسطلاني والأنصاري.
ويعود ليقارن بين مقام أبي هريرة في المدينة وعبد الله بن عمرو في مصر ويغمز جانب أبي هريرة ويجعله من المتَّهمين عند من يفد إلى المدينة ويقول: «وكثيراً ما كانوا ينقمون عليه إكثاره على رسول الله فيقولون إنَّ أبا هريرة يكثر الحديث، ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدِّثون مثل حديثه
…
».
وينتهي الباحث النزيه من تحقيقه هذا في كثرة أحاديث أبي هريرة إلى النتيجة الآتية حيث يقول: «والحق أنَّ أبا هريرة إنما اعترف (1) لعبد الله في أوائل أمره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يكن مفرطاً هذا الإفراط الفاحش، فإنه إنما تفاقم إفراطه وطغى فيه على عهد معاوية حيث لا أبو بكر ولا عمر ولا عليٌّ ولا غيرهم من شيوخ الصحابة الذين يخشاهم أبو هريرة» .
من الغريب أنْ يعجب الكاتب لكثرة حديث أبي هريرة، ومن العجيب أنْ يثير هذا في القرن العشرين!! فهل يعجب من قوة ذاكرة أبي هريرة أنْ تجمع (5374) حديثاً؟ أم يعجب أنْ يحمل هذه الكثرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث سنوات؟.
إذا كان يعجب من قوة حافظة أبي هريرة فليس هذا مجالاً للدهشة والطعن، لأنَّ كثيراً من العرب قد حفظوا أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة، فكثير من الصحابة حفظوا القرآن الكريم والحديث والأشعار،
(1) يشير المؤلف إلى حديث أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي» .
فماذا يقول المؤلف في هؤلاء؟ ماذا يقول في حفظ أبي بكر أنساب العرب؟ وعائشة رضي الله عنها شعرهم؟ وماذا يقول صاحبنا في حماد الراوية الذي كان أعلم الناس بأيام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها؟ وماذا يقول فيه إذا علم أنه روى على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات، من شعر الجاهلية دون الإسلام (1)؟ وماذا يقول في حفظ حبر الأمَّة عبد الله بن عباس؟ فحفظ أبي هريرة ليس بدعاً وليس غريباً وخاصة إذا عرفنا أنَّ تلك الأحاديث الـ (5374) مروية عنه ولم تسلم جميع طرقها. فأبو هريرة لا يتهم في حفظه وكثرة حديثه من هذا الوجه.
وإذا كان المؤلف يعجب من تحمل أبي هريرة هذه الأحاديث الكثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث سنوات، فقد غاب عن ذهنه أنَّ أبا هريرة صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم في سنوات ذات شأن عظيم، جرت فيها أحداث اجتماعية وسياسية وتشريعية هامة، وفي الواقع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرَّغ تلك السنوات للدعوة والتوجيه بعد أنْ هادنته قريش، ففي السنة السابعة وما بعدها انتشرت رسله في الآفاق ووفدت إليه القبائل من جميع أطراف جزيرة العرب. وأبو هريرة في هذا كله يرافق الرسول عليه الصلاة والسلام، ويرى بعينيه، ويسمع بأذنية، ويعي بقلبه.
ثم إنَّ ما رواه لم يكن جميعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل روى عن الصحابة رضي الله عنهم ورواية الصحابة عن بعضهم مشهورة مقبولة لا مأخذ عليها، فإذا عرفنا هذا زال العجب العجاب الذي تصوره المؤلف.
ومن الخطأ الفاحش أنْ يقارن الخلفاء الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية. لأسباب كثيرة أهمها:
أولاً: صحيح أنَّ الصِدِّيق والفاروق وذا النورين وأبا الحسن رضي الله عنهما سبقوا أبا هريرة في صُحبتهم وإسلامهم، ولم يرو عنهم مثل ما روى عنه. إلَاّ أنَّ هؤلاء اهتمُّوا بأمور الدولة وسياسة الحكم، وأنفذوا العلماء
(1) انظر " الأعلام ": 2/ 301.
والقُرَّاء والقضاة إلى البلدان، فأدُّوا الأمانة التي حملوها، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شؤون الأمَّة. فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قِلَّةِ حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بالفتوحات لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم، وهل لأحد أنْ يلوم عثمان رضي الله عنه أو عبد الله بن عباس لأنهما لم يحملا لواء الفتوحات؟ فكل امرئ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له.
ثانياً: انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم واعتزاله السياسة، واحتياج الناس إليه لامتداد عمره، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة، بل ذات خطأ كبير.
ثم إنَّ الباحث يطعن عليه في هذا المجال في حَسَبِهِ ونَسَبِهِ وأمِيَّتِهِ، فهل لهذه النواحي أثر في كثرة الرواية وقلَّتها؟ لم يقل بهذا أحد.
وما رَدَدْنَا به عليه بالنسبة لمقارنته بالخلفاء الراشدين، يرد بالنسبة لمقارنته بالسيدة عائشة رضي الله عنها، ونضيف أنَّ السيدة عائشة كانت تُفتي للناس في دارها، وأما أبو هريرة فقد اتَّخذ حلقة له في المسجد النبوي، كما كان أكثر احتكاكاً بالناس من السيدة أم المؤمنين بصفته رجلاً كثير الغدو والرواح. وأضيف إلى هذا أنَّ السيدة الجليلة كان جل هَمِّهَا موجَّهاً نحو نساء المؤمنين، وكان يتعذَّرُ دخول كل إنسان عليها. ومع هذا فإنَّ المؤلف النزيه لم يكفَّ لسانه عنها، بل رأى أنها أكثرت أيضاً!!؟ وهو في هذا يناقض نفسه.
أما أنه يرى حديث أبي هريرة أكثر من حديث السيدة عائشة وأم سلمة وحديث بقية أمهات المؤمنين والحَسَنَيْن وأمَّهُمَا مع حديث الخلفاء الأربعة، فقد سبق أنْ أجبتُ على ذلك، وأضيف أنَّ أم سلمة لم تكن مرجعاً للناس كالسيدة عائشة رضي الله عنهما، وأما الحسنان فهما صغار الصحابة، وقد اشتغلا في الأمور السياسية، فبدهيٌّ أنْ تكون مروياتهما قليلة، ومثل هذا يقال في سيِّدة نساء العالمين أمُّهُمَا، التي توفيت بعد وفات رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة شهور.
فالأمر ليس مهولاً، يحتاج إلى تفكير أرباب العقول كما ادَّعَى؟؟ وهل يقصد بأرباب العقول النَظَّام والجاحظ!؟.
إنَّ نظرة مجرَّدة عن الهوى تدرك أنَّ ما رُوِيَ عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه أهل الأهواء، وأعداء السُنن، وإنَّ ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء سمعه منه أو من الصحابة لا يشك فيه لِقِصَرِ صُحْبته، بل إنَّ صُحبته تحتمل أكثر من هذا، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطاً وتعليماً وتوجيهاً في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أما طعن المؤلف في حدين الوعاءين، وتهكُّمَهُ على أبي هريرة، واستهزاؤه بما في وعائه من العلم الذي لم ينشره، وتساؤله عن ذلك العلم، كل هذا قد طرقه العلماء قبله وبيَّنُوا أنَّ ما عنده مِمَّا لم ينشر لا يتعلق بالأحكام أو الآداب، وليس مِمَّا يقوم عليه أصل من أصول الدين، بل بعض أشراط الساعة، أو بعض ما يقع للأمَّة من الفتن (1) ويدل على ذلك حديثه الذي ذكر بعضه المؤلف الأمين!! ولم يذكر تعليق راويه الذي يبيِّنُ قصد أبي هريرة، قال أبو هريرة:«لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا فِي جَوْفِي لَرَمَيْتُمُونِي بِالْبَعْرِ» . وَقَالَ الْحَسَنُ - رَوِاي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -: «صَدَقَ وَاللَّهِ .. لَوْ أَخْبَرَنَا أَنَّ بَيْتَ اللَّهِ يُهْدَمُ وَيُحْرَقُ مَا صَدَّقَهُ النَّاسُ!!» (2).
وأبو هريرة ليس بدعاً في قوله. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختص بعض أصحابه بأشياء دون الآخرين، من هذا حديثه لمعاذ بن جبل رضي الله عنه «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَاّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ:«إِذًا يَتَّكِلُوا» (3). وأخبر به معاذ عند موته تأثُّماً، خوفاً من أنْ يكون قد كتم العلم. ولم يكن معاذ ولِيَ عهده ولا خليفته من بعده، فالأمر لا يحتاج إلى ولاية عهد ولا إلى وصاية، فَلِمَ ينكر الكاتب مثل هذا على أبي هريرة ولا ينكره على غيره؟ ثم ليعرف المؤلف الذي
(1) راجع ص 119 وما بعدها من هذا الكتاب وراجع " فتح الباري ": ص 227، جـ 1 و " الرد على المنطقيين ": ص 445 - 446.
(2)
" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 57 و 2: 2/ 119.
(3)
" فتح الباري ": ص 236، جـ 1.
أساء كثيراً إلى أبي هريرة، وشتمه وكال له السِبَابَ كيلاً - أنَّ كتمان أبي هريرة لهذا الوعاء لم يكن لخوفه ألا يسمع الناس له لمهانته وضعفه فيرموه بالبعر وبالمزابل، بل لأنه أرأد أنْ يُحَدِّثَ على قدر عقولهم، وأنْ يخاطبهم بما يفهمون ويعرفون، وبذلك أوصى أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه (1).
أما قول أبي هريرة: «إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَا يَكْتُمُ، وَلَا يَكْتُبُ» ، فلا يتعارض مع حديث الوعاءين لأنَّ أبا هريرة لا يكتم العلم النافع الضروري، وما كتمه أبو هريرة لم يكن من هذا، بل كان بعض أخبار الفتن والملاحم وما سيقع للناس مِمَّا لا يتوقف عليه شيء من أصول الدين أو فروعه.
- أما استشهاد المؤلف بحديث أبي هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ» وبمرويات ابن عمرو التي لا تتجاوز سبعمائة حديث - على أنَّ ابن عمرو أكثر من أبي هريرة حديثاً، وأنَّ أبا هريرة بذلك يُقِرُّ ويعترف بتقوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل - فهو استشهاد في غير موضعه، بُنِيَ على تصوُّرٍ خاطئٍ، وفهم للحديث على خلاف الواقع.
إنَّ الحديث يدل على أنَّ عبد الله بن عمرو كان أكثر أخذاً للحديث من أبي هريرة، لأنه كان يكتب وأبو هريرة لا يكتب. ويحتمل أنْ يكون قول أبي هريرة هذا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أنْ يدعو له بالحفظ، وكان يعيده في كل مناسبة تقع له. وإذا استبعدنا هذا الفرض فكل ما في الأمر أنَّ عبد الله بن عمرو حمل من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أبي هريرة إلَاّ أنه لم يتيسَّرْ له نشره لأسباب نُبَيِّنُهَا بعد قليل.
ولابن حجر رأي أُبَيِّنُهُ فيما يلي: قال: «قَوْله: (فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُب وَلَا أَكْتُب)
هَذَا اِسْتِدْلَال مِنْ أَبِي هُرَيْرَة عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَكْثَرِيَّة مَا عِنْد عَبْد اللَّه
(1)" فتح الباري ": ص 235، جـ 1.
بْن عَمْرو أَيْ: اِبْن الْعَاصِ عَلَى مَا عِنْده: وَيُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة كَانَ جَازِمًا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّحَابَة أَكْثَر حَدِيثًا عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ إِلَاّ عَبْد اللَّه، مَعَ أَنَّ الْمَوْجُودَ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو أَقَلّ مِنْ الْمَوْجُودِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَة، فَإِنْ قُلْنَا الاِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع فَلَا إِشْكَال، إِذْ التَّقْدِير: لَكِنَّ الَّذِي كَانَ مِنْ عَبْد اللَّه وَهُوَ الْكِتَابَة لَمْ يَكُنْ مِنِّي، سَوَاء لَزِمَ مِنْهُ كَوْنَهُ أَكْثَر حَدِيثًا لِمَا تَقْتَضِيه الْعَادَة أَمْ لَا. وَإِنْ قُلْنَا الاِسْتِثْنَاء مُتَّصِلٌ فَالسَّبَب فِيهِ مِنْ جِهَات:
أَحَدهَا: أَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ مُشْتَغِلاً بِالْعِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ اِشْتِغَاله بِالتَّعْلِيمِ فَقَلَّتْ الرِّوَايَة عَنْهُ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ أَكْثَر مُقَامُهُ بَعْد فُتُوح الأَمْصَار بِمِصْرَ أَوْ بِالطَّائِفِ وَلَمْ تَكُنْ الرِّحْلَة إِلَيْهِمَا مِمَّنْ يَطْلُبُ الْعِلْمَ كَالرِّحْلَةِ إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة مُتَصَدِّيًا فِيهَا لِلْفَتْوَى وَالتَّحْدِيث إِلَى أَنْ مَاتَ، وَيَظْهَر هَذَا مِنْ كَثْرَة مَنْ حَمَلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، فَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ ثَمَانمِائَةِ نَفْس مِنْ التَّابِعِينَ، وَلَمْ يَقَع هَذَا لِغَيْرِهِ.
ثَالِثهَا: مَا اُخْتُصَّ بِهِ أَبُو هُرَيْرَة مِنْ دَعْوَة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِأَنْ لَا يَنْسَى مَا يُحَدِّثهُ بِهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا.
رَابِعُهَا: أَنَّ عَبْد اللَّه كَانَ قَدْ ظَفِرَ فِي الشَّام بِحِمْلِ جَمَل مِنْ كُتُب أَهْل الْكِتَاب فَكَانَ يَنْظُر فِيهَا وَيُحَدِّث مِنْهَا فَتَجَنَّبَ الأَخْذَ عَنْهُ لِذَلِكَ كَثِير مِنْ أَئِمَّة التَّابِعِينَ». اهـ (1).
أضيف إلى هذا أنَّ عبد الله بن عمرو كان ينتقل بين مصر والشام والطائف، وكثيراً ما كان يتردَّدُ على الطائف ليشرف على الوهط (الكرم) الذي كان لأبيه، وقد ساومه معاوية بن أبي سفيان من أجله على مال كثير فأبى أنْ يبيعه بشيء (2). وقد عزا التنافر الذي كان بينهما إلى هذه الحادثة (3).
(1)" فتح الباري ": ص 217، جـ 1.
(2)
" الأموال ": ص 301 وكان هذا الكرم عظيماً على ألف ألف خشبة.
(3)
قد تكون هذه الحادثة أحد الأسباب للتنافر بينهما، ومشهور عن عبد الله بن عمرو =
ولا بد هنا من أنْ أبيِّنَ أنَّ عبد الله بن عمرو لم يفسح له مجال التحديث في عهد معاوية وابنه يزيد، لأنه لم يكن على وفاق دائم مع معاوية، وربما منعه معاوية وابنه، من ذلك مارواه الإمام أحمد من طريق شهر قال:«أَتَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو عَلَى نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ وَهُوَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ: حَدِّثْ، فَإِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ الْحَدِيثِ» ، قَالَ:«مَا كُنْتُ لأُحَدِّثُ وَعِنْدِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ مِنْ قُرَيْشٍ» (1). وقول عبد الله بن عمرو: «إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ الْحَدِيثِ» لا يريد به ما يظنه أعداء السُنَّة أنَّ هذا النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنما يريد به نهي معاوية وابنه يزيد كما بَيَّنَتْهُ رواية ثانية فيها: فَجَاءَهُ رَسُولُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أَنْ أَجِبْ، قَالَ:«هَذَا يَنْهَانِي أَنْ أُحَدِّثَكُمَا كَمَا كَانَ أَبُوهُ يَنْهَانِي» (2) فربما فعل ذلك يزيد أيضاً مخافة أنْ يؤلِّبَ عبد الله الناس على بني أمية. تلك أسباب هامة في قلة ما رُوِيَ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، بالنسبة لما تحمله عن الرسول صلى الله عليه وسلم تنفي ما زعمه المؤلف من «أنَّ أبا هريرة إنما اعترف لعبد الله في أوائل أمره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين لم يكن مفرطاً هذا الإفراط الفاحش، فإنه إنما تفاقم إفراطه وطغى فيه على عهد معاوية
…
». وإنَّ قلة مرويات عبد الله بن عمرو لم تعد تثير أي شك، أو تدخل أية شبهة على مرويات ابي هريرة الكثيرة بالرغم من تصريحه عن كثرة حديث ابن عمرو، بعد أنْ عرفنا تلك الأسباب التي كان لها أثر بعيد في قلة مروياته ..
…
= أنه كان قد رَدَّ على معاوية بعد صِفِّينْ رَدًّا قوياً، رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: إِنِّي لأُسَايِرُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَمُعَاوِيَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو لِعَمْرٍو:«سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " - يَعْنِي عَمَّارًا -» فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: «اسْمَعْ مَا يَقُولُ هَذَا» ، فَحَدَّثَهُ، فَقَالَ:«أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ؟ إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ جَاءَ بِهِ» !! راجع " مسندا لإمام أحمد ": ص 64، جـ 10. وص 155 و 156، جـ 11 بإسناد صحيح.
(1)
" مسندا لإمام أحمد ": ص 172، جـ 11 رقم 6952 بإسناد صحيح.
(2)
المرجع السابق: ص 172، جـ 11 رقم 6865 بإسناد ضعيف.