الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في شكر أياديهم) وسَنَرُدُّ هذين الاتِّهامين بنقض حُجَجِهِ، وبيان وجه الحق في ذلك فنبدأ بِرَدِّ الشبهة الأولى.
أولاً - هل تشيَّع أبو هريرة للأمويِّين
؟:
إنَّ أهل العلم جميعاً يعلمون أنَّ أبا هريرة كان مُحبًّا لأهل البيت ولم يناصبهم العداء قط، ومشهور عنه أنه تمسَّك بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان يحب من أحبه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو هريرة هو الذي كشف عن بطن الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال:«أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ» ، وَقَبَّلَ سُرَّتَهُ (1).
ثم إنَّ أبا هريرة لم يكن دائماً على صلة حسنة بمعاوية، فقد كان يعزله عن المدينة ويُعَيِّنُ مروان بن الحكم، ومن العجيب أنْ يدَّعِي إنسان نهل من العلم بعضه أنَّ أبا هريرة يكره عليًّا وأهله، بعد أنْ سمع ما دار بين مروان بن الحكم وأبي هريرة، حين أراد المسلمون دفن الحسن مع النبي صلى الله عليه وسلم. فكان مِمَّا قاله: «وَاللَّهِ مَا أَنْتَ بوالٍ، وَإِنَّ الْوَالِيَ لَغَيْرُكَ فَدَعْهُ، وَلَكِنَّكَ تَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، إِنَّمَا تُرِيدُ بِهَذَا إِرْضَاءَ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْكَ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ
…
»!! (2) ولكن الكاتب المتحامل على أبي هريرة والذي امتلأ قبله ضغناً وحِقداً عليه يرى هذا مُجَرَّدَ رياءٍ ومُؤامرة مُدَبَّرَةٍ بينهما.!! (3) ونرى أبا هريرة ينكر على مروان بن الحكم في مواضع عِدَّةٍ، فهل هذا الإنكار أيضاً من باب المؤامرات التي يُدَبِّرُها مرواة وأبو هريرة لمخادعة العامة - كما زعم مؤلف كتاب " أبو هريرة "؟، لقد أنكر عليه عندما رأى في داره تصاوير فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقول الله عز وجل: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ
(1)" مسند الإمام أحمد " 13/ 195، رقم 7455.
(2)
" البداية والنهاية ": 8/ 108.
(3)
انظر " أبو هريرة " لعبد الحسين: ص 40 - 41.
كَخَلْقِي! فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً» (1) وأبطأ مروان بن الحكم يوماً بالجمعة فقام إليه أبو هريرة فقال له:«أَتُظَلُّ عِنْد ابْنَة فُلَانٍ تُرَوِّحَُِك بِالمَرَاوِحِ وَتَسْقِيَك الْمَاءَ الْبَارِدَ، وَأَبْنَاء الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يُصْهَرُونَ مِنَ الْحَرِّ؟ لََقََدْ هَمَمْتُ أََنْ أَفْعَلَ وَأَفْعَلَ» ، ثُم قَال:«اسْمَعُوْا مَن أَمِيرِكُمْ» (2).
فهل هذا موقف المُتشيِّع لبني أمية، النازل على رغباتهم في الحديث، الدَّاعي لهم!! أم أنَّ هذا موقف ملتزم الحق؟ إنه أنكر على الأمير تأخُّرهُ، وحفظ له حقه فأمر المسلمين بالسماع إليه. وهذا دليل آخر على مكانة أبي هريرة بين المسلمين. فلو كان حقيراً مهيناً ما سمع منه المسلمون وما تحمَّله مروان. ومع هذا فإنَّ المؤلف لكتاب " أبو هريرة " قد يرى في هذه القصة لوناً جديداً من المؤامرات لتثبيت ملك الأمؤيِّين كما يتخيَّلُ المؤلفُ أبا هريرة في تفكيره وعلمه وذوقه الفنيَّ، واستنتاجه واستقرائه .. !!
وكان يجدر بالمؤلف أنْ يتَّهِمَ أبا هريرة بالتشيُّع لأهل البيت، لما رُوِيَ عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناقبهم ومدحهم مِمَّا ورد في صحاح السُنَّة المُطَهَّرَةِ (3)، وهذا أولى له من أنْ يتتبَّع الأحاديث الضعيفة، والموضوعة على أبي هريرة في مدح الأمويِّين، ليتَّهمه بموالاتهم وتأييدهم، بالرغم من وضوح وضع تلك الأحاديث، ومعرفة الكَذَبَةِ الواضِعِين لها. وجلاء أمرها ..
ولو كان أبو هريرة مُتَشَيِّعاً للأمويِّين لأَبَى أنْ يروي بعض فضائل أهل البيت، وبوجه خاص فضائل أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه، ولكن شيئاً من هذا لم يقع، وكان أبو هريرة أسمى وأعلى من أنْ يكتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لميل أو هوى، وأرفع من أنْ يكذب على حبيبه الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم، وإننا
(1)" مسند الإمام أحمد ": 12/ 148، رقم 7166 بإسناد صحيح ورواه البخاري.
(2)
" العقد الفريد ": 1/ 42.
(3)
انظر " مسند الإمام أحمد ": ص 129، رقم 7392. وص 195، رقم 7455، جـ 13. و ص 69، حديث 7636. و ص 260، حديث 7892، جـ 14. و " فتح الباري ": ص 76 و 95، جـ 8. وقد ذكرت هذا مِمَّا حضرني، وليس على سبيل الحصر.
نراه يروي في فضائل عَلِيٍّ ما لا يخفى، من هذا ما أخرجه الإمام مسلم في " صحيحه " بسنده عن أبي هريرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ» . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَاّ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَتَسَاوَرْتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ:«امْشِ، وَلَا تَلْتَفِتْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ» . قَالَ: فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: «قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَاّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» (3).
إننا نرى المُنصفين من أهل العلم لم يتَّهِمُوا أبا هريرة - لروايته هذا الحديث - بالتشيُّع لعليٍّ رضي الله عنه، وبالعداء لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأبو هريرة لا يتحزَّبُ لأحد ولا يمالئ أحداً، ولا يسير وراء هوى مُتَّبعٌ أو شهوة جامحة، إنما هو ذلك الصحابي العظيم الذي عرفنا استقامته وعدالته، وتقواه وورعه وأمانته.
وقد تصوَّر المؤلف جميع ما بين يدي أبي هريرة من نعمة وخير هي أفضال الأمويِّين عليه، وإكرام منهم له، لما بذله في سبيل تدعيم مُلْكِهِمْ!! ونسي أو تناسى أنَّ أبا هريرة كان يحب العمل إلى جانب حبه للعلم، ونسي ما كان له من أعطيات وتجارة، كما نسي أنه ولي البحرين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وَبَيَّنَ له مورد ماله الذي جاء به، بل رأى أنَّ جميع ما بين يديه من منح بني أميَّة له، فهم الذين كَسَوْهُ الخزَّ، وألبسوه الكتان، وبنوا له في العقيق قصراً، وهو الذين زوَّجُوهُ بُسرةَ بنت غزوان، أخت الأمير عُتبة بن غزوان، ويستشهد لذلك بما رواه مضارب بن حزن
(1) فتساورت لها: معناه تطاولت لها، أي حرصت عليها، أي أظهرت وجهي وتصدَّيتُ لذلك ليتذكَّرني. انظر " صحيح مسلم "، ص 1872، هامش 1، جـ 4.
(2)
" صحيح مسلم ": ص 1871، حديث 33، جـ 4.