الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرح أبي هريرة ومُزاحه:
لم يكن أبو هريرة جافاً قاسي القلب، خشن الطباع، سيء المعشر، بل كان طيِّب النفس، حسن الخلق، صافي السريرة، وربما كان الفقر والصبر عليها هُما اللذان جعلا منه الإنسان المرح، يُسَرِّي عن نفسه بمزاحه أحياناً همومها ومُصابها، ومع هذا فقد كان يعطي لكل شيء حقَّهُ، لا يخاف في الله لومة لائم، سواء أكان أميراً أم فرداً من الرعية فقيراً، فقد نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها، فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء، بل أظهرت تواضعه وحُسن خلقه.
وربما استخلفه مروان على المدينة، فيركب حماراً، قد شدَّ عليه برذعة، وفي رأسه خلبة من ليف، يسير فيلقى الرجل، فيقول:«الطَّرِيقَ .. قَدْ جَاءَ الأَمِيرُ» (1).
ويمر أبو هريرة في السوق، يحمل الحطب على ظهره - وهو يومئذٍ أمير لمروان - فَيَقُولُ لِثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ:«أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلأَمِيرِ يَا ابْنَ أَبِي مَالِكٍ، فَيَقُولُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ .. يَكْفِي هَذَا!! فَيَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةُ: أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلأَمِيرِ وَالْحِزْمَةُ عَلَيْهِ!!» (2).
نعم الأمير أنت يا أبا هريرة، وليخلد الإسلام الذي سَوَّى بين أميره وفقيره، حتى أنَّ أحد أفراد الرعية، ينازع الأمير طريقه، ويلزمه بما يكفيه ليمر والحطب على ظهره، فهل بعد هذا عدالة وتواضع؟ وهل وراء ذلك صفاء سريرة وطيب نفس!!؟
وكأنِّي أرى أبا هريرة - وقد فهم نفسية الأطفال، وعرف أنَّ من
(1)" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 60، 61. و " قبول الأخبار ": ص 59، 60. إلَاّ أنه يوردها طعناً عليه، والخلبة: الحلقة.
(2)
" حلية الأولياء ": ص 385، جـ 1. و " تاريخ الإسلام ": ص 334، جـ 2. و " النهاية والبداية ": ص 113، 114، جـ 8.
حاجاتها الأولى المداعبة والمزاح - يتيح لهم ذلك، بل يداعبهم ليضحكهم، ويدخل السرور إلى نفوسهم، يوم لم يعرف التاريخ الطرق التربوية المعاصرة، وقبل أنْ يخلق رواد التربية الحديثة بعشرة قرون، وقبل أنْ تجمع مجلدات التربية نظريات (موننوسوري) و (جون ديوي) وغيرهما
…
فقد يرى الصبية يعلبون في الليل لعبة الغراب، فيتسلَّلُ بينهم، وهم لا يشعرون، حتى يلقي بنفسه بينهم، ويضرب برجليه (الأرض) كأنه مجنون، يريد بذلك أنْ يضحكهم، فيفزع الصبيان منه، ويفرُّون هَهُنَا وهَهُنَا، يتضاحكون (1).
كان يحب مداعبة أصحابه، بلطف وأدب، دعابة تقبلها النفوس الطيبة وترى فيها ما يجدد النشاط، وما يدخل عليها السرور والحبور، فهو في ذلك يروِّح عن نفسه وعن غيره، من غير أنْ يمس شعور الآخرين بما يسيء إليهم.
من ذلك ما يرويه لنا ابو رافع فيقول: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل، فيقول:«دَعِ الْعُرَاقَ لِلأَمِيرِ» ، فَأَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ ثَرِيدٌ بِالزَيْتٍ (2)!!.
…
قبسٌ من أخلاقه:
كَانَ مَرْوَانُ يَسْتَخْلِفُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَيَكُونُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأُمُّهُ فِي بَيْتٍ وَهُوَ فِي آخَرَ. فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ وَقَفَ عَلَى بَابِهَا فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكِ
(1)" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 60، 61. و " البداية والنهاية ": ص 113، جـ 8. و " قبول الأخبار ": ص 59، 60. و " تاريخ الإسلام ": ص 238، جـ 2.
(2)
انظر " البداية والنهاية ": ص 114، جـ 8. و " طبقات ابن سعد ": 4: 4/ 61. و " تاريخ الإسلام ": ص 38، جـ 2. والعُرَاقُ: العظم الذي نزع عنه اللحم وبقي عليه قليل منه.
يَا أُمَّتَاهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَتَقُولُ: وَعَلَيْكَ يَا بُني وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَيَقُولُ: رَحِمَكِ اللَّهُ كَمَا رَبَّيْتِنِي صَغِيرًا. فَتَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ كَمَا بَرَرْتَنِي كَبِيرًا، ثُمَّ إِذَا أراد أن يدخل صنع مثله (1).
قال محمد بن سيرين: كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي هُرَيْرَةَ، وَلأُمِّي، وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُمَا» قَالَ مُحَمَّدٌ: «فَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُ لَهُمَا؛ حَتَّى نَدْخُلَ فِي دَعْوَةِ أَبِي هريرة» (2).
لقد امتثل لحديث رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حين سأله رجل فقال: مَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «بَرَّ أُمَّكَ» ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ:«بَرَّ أُمَّكَ» ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ:«بَرَّ أُمَّكَ» ، ثُمَّ عَادَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ:«بَرَّ أُمَّكَ» ثُمَّ عَادَ الخَامِسَةَ فَقَالَ: «بَرَّ أَبَاكَ» (3). ولازم أبو هريرة أمَّهُ ولم يَحُجَّ حتى ماتت لصُحبتها (4).
وكان يدعو الناس إلى الخير ويحملهم على حُسن الأخلاق، من ذلك ما رواه البخاري عنه أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ لأَحَدِهِمَا:«مَا هَذَا مِنْكَ؟» فَقَالَ: أَبِي، فَقَالَ: «لا تُسَمِّهِ بِاسْمِهِ، وَلَا تَمْشِ أَمَامَهُ، وَلَا تَجْلِسْ قَبْلَهُ
» (5).
وكان يقول: «مَنْ لَقِيَ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ حَائِطٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» (6)، كما قال:«أَبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلامِ، وَإِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ وَإِنَّ أَعْجَزَ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ بِالدُّعَاءِ» (7).
وكان يدعو إلى صلة القربى، وينهى عن قطع الرحم من هذا ما رواه البخاري عن أبي أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ - مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - قَالَ جَاءَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: «أُحَرِِّجُ عَلَى كُلِّ قاطِع رحِم لمَا قَامَ من
(1)" الأدب المفرد ": ص 18.
(2)
المرجع السابق: ص 28 رقم 37.
(3)
" الأدب المفرد ": ص 16.
(4)
ابن عساكر: ص 516 و 517، جـ 47.
(5)
" الأدب المفرد ": ص 30.
(6)
" الأدب المفرد ": ص 349.
(7)
" الأدب المفرد ": ص 359.
عندِنْا. فلم يَقُم أحدٌ حتى قال ثَلَاثًا: فَأَتَى فَتًى عَمَّّةً لَهُ قَدْ صرَمَها منذُ سَنَتَيْنِ. فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: لَهُ يَا ابن أَخِي! مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَسَلْهُ لمَ قَالَ ذَاكَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَض عَلَى اللَّهِ تبارك وتعالى عشيةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلَا يقبلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ» (1).
وكان يحرص على ألَاّ يسيء إلى إنسان، فكان يعامل إخوانه وجُلساءَهُ معاملة حسنة، وبرفق وبلطف، لا يجرح أحداً بكلمة نابية، أو عبارة قاسية، حتى إِذَا اسْتَثْقَلَ جَلِيسًا لَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ وَأَرِحْنَا مَنْهُ فِي عَافِيَةٍ» (2).
وكان يحض الناس على التسامح والتجاوز عن أخطاء بعضهم وعيوب غيرهم من ذلك قوله: «يَبْصُرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الجَذَلَ - أَوْ الجَذَعض - فِي عَيْنِ نَفْسِهِ» (3).
وكان متواضعاً، ومن حسن أخلاقه يؤاكل الصبيان (4) ويعطف عليهم.
ومن تواضعه أنه ما كان يمشي على البساط بنعله، فقد عقد الخطيب البغدادي فقرة في كتابه الجامع تحت عنوان (استحباب المشي على البساط حافياً) وذكر سبب ذلك، وقال: وذلك أيضاً من التواضع وحسن الأدب
…
ثم روى بسنده عن عقبة بن أبي حسناء اليمامي قال: «دَعَوْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ إِلَى مَنْزِلِي، وَفِي مَنْزِلِي بِسَاطٌ مَبْسُوطٌ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى خَلَعَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ مَشَى عَلَى الْبِسَاطِ» (5).
…
(1)" الأدب المفرد ": ص 35، 36.
(2)
" روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ": ص 54.
(3)
" الأدب المفرد ": ص 207.
(4)
انظر ابن عساكر: ص 524، جـ 47.
(5)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "، بتحقيقي:ص 260 و 261.