الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حفظ السُنَّةِ وانتشارها:
لقد نزل القرآن الكريم مُنَجَّماً على محمد صلى الله عليه وسلم خلال ثلاثة وعشرين عاماً، والرسول الأمين يُبَلِّغُ قومه ومن حوله، يُبَيِّنُ أحكام القرآن، ويوضِّحُ آياته، ويفصل تعاليم الإسلام، ويطبِّقُ نظامه، فكان مُعلِّماً وحاكماً وقاضياً ومُفتياً وقائداً طيلة حياته عليه الصلاة والسلام، كان المرجع الأول والأخير في جميع أمور الأُمَّة وأحوالها، فكل ما يتعلَّقُ بالأمَّة الإسلامية في جميع شؤونها، دقيقها وعظيمها، وكل ما يتناول الفرد والجماعة في مختلف نواحي حياتهم، مِمَّا لم يرد في القرآن الكريم فهو من السُنَّة، العمليَّة أو القوليَّة أو التقريرية، ومن ثَمَّ نجد بين أيدينا أحكاماً وآداباً وعبادات وقُرُبات شرعت وطبقت خلال ربع قرن، فلم توضع السُنَّة دُفعة واحدة - كما يتصوَّرُ بعضهم - كمجموعة من الشرائع الوضعية، أو الأحكام الخلقية، التي يمليها بعض الحكماء والوُعَّاظ، وإنما شرعت لتربية الأمَّة دينياً واجتماعياً وخُلُقياً وسياسياً في السلم والحرب، في الرجاء والشِدَّةِ، وتتناول النواحي العلميَّة والعمليَّة، فلم يكن من السهل أنْ ينقلب الناس آنذاك فجأة، ويتحوَّلوا بين عشيَّة وضُحاها عن تعاليمهم القديمة، وديانتهم وعاداتهم وتقاليدهم إلى الإسلام في نُظُمِهِ وعقائده وتعاليمه وعباداته.
لقد تدرَّج القرآن الكريم في انتزاع العقائد الفاسدة والعادات الضارة المستحكمة، ومحاربة المنكرات التي كان عليها الناس في الجاهلية، وثبت بالتدريج أيضاً العقائد الصحيحة، والعبادات والأحكام، ودعا إلى الآداب السامية، والأخلاق الفاضلة الحميدة، وشجَّع الذين التفُّوا حول الرسول الكريم يُبيِّنُ القرآن ويُفتي الناس، ويفصل بين الخُصُوم، ويُقيم الحدود، ويُطبِّقُ تعاليم القرآن، وكل ذلك سُنَّةٌ.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتَّخذ دار الأرقم مقرًّا له ولأصحابه حين كانت الدعون سِرِّيَةً، وفيها تلقَّى المسلمون تعاليم الإسلام الأولى، وحفظوا ما تنزَّل من القرآن، ثم ما لبث أنْ أصبح منزل الرسول
- صلى الله عليه وسلم في مكة معهد المسلمين الذي يتلقَّون فيه القرآن الكريم، وينهلون من معين السُنَّة على يَدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الصحابة يستظهرون آيات القرآن، ويتدارسونها فيما بينهم، ليثبتوا ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يتذاكرون تفسير ما تَلَقَّوْهُ، وما تفسيره إلَاّ شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحديث. فحفظ الحديث النبوي كان مُتمشِّياً جنباً إلى جنب مع حفظ القرآن الكريم من الأيام الأولى لظهور الإسلام.
ثم أصبح المسجد فيما بعد المكان المعهود للعمل والفتوى والقضاء إلى جانب العبادة وإقامة الشعائر الدينية، وعرض الأمور العامة على المسلمين، واستنفار الجيوش، واستقبال الوفود.
ومع هذا لم يقتصر تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم على مكان محدود ولا على مناسبة معيّنة، فقد كان يُسْتَفْتَى في الطريق فيُفتِي، ويسئل في المناسبات فيجيب، يُبَلِّغُ الأحكام في كل فرصة تسنح له، وفي كل مكان يتَّسع لذلك.
وإلى جانب هذا كانت له مجالس علميَّة كثيرة، يتخوَّلُ فيها أصحابه بالموعظة، فإذا جلس جلس إليه أصحابه حلقاً حلقاً (1) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «
…
إِنَّمَا كَانُوا إِذَا صَلَّوُا الْغَدَاةَ قَعَدُوا حِلَقًا حِلَقًا يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَعَلَّمُونَ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ» (2). ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضنيناً بالعلم على أصحابه، بل كان يكثر مجالستهم، يعلِّمُهُم ويزكيهم.
وكان الرسول الكريم مثالاً رائعاً في تربية الأُمَّة، يخاطب الناس بما يُدركونه، فيُفْهِمُ البدويَّ الجافي بما يناسب جفاءه وقسوته، ويفهم الحضري بما يلائم حياته وبيئته، كما كان يراعي تفاوت المدارك، وانتباه أصحابه، وقدرهم الفطرية والمكتسبة، ويستعمل من الأساليب النظرية والعمليَّة
(1 و 2) انظر " مجمع الزوائد ": ص 132 جـ 1.
ما يُحقِّقُ مقاصد رسالته. والأخبار في هذا كثيرة جداً منها: أنَّ فَتًى مِنْ قُرَيْش أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي في الزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ وَزَجَرُوهُ فَقَالُوا: مَهْ. مَهْ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا ". فَقَالَ: " أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ ". قَالَ: " أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟ " قَالَ: لَا. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ. قَالَ: " وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ ". ثم ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أخته ومعمَّته وخالته، وفي كل هذا يقول الفتى مقالته:" لَا. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ "، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ:" اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ " قَالَ الرَاوِي: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ (1).
لقد اتَّبع الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوباً جعل الفتى يُدرك أثر الزنا في المجتمع، وكيف أنَّ الناس جميعاً لا يرضونه لأنفسهم وأهليهم كما أنه لا يرضاهُ هو لذويه، مِمَّا حمله على الاقتناع بالإقلاع عنه. وخير الأمور ما كان الدافع إليه من قرارة النفس.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التيسير دائماً، وينهى عن التنطع في العبادة، والتضييق في الأحكام، وكان في معاملته للمسلمين جميعاً أخاً رحيماً، ومُعلِّماً متواضعاً حليماً، ويظهر ذلك واضحاً من تتبُّع سيرته عليه الصلاة والسلام. عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت:«مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَاّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبَعْدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ إِلَاّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ بِهَا» (2).
بهذه الروح الطيِّبة، والنفس السامية، والصدر الرحب، والمنهج التربوي الصحيح كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمُ أصحابه
(1)" مجمع الزوائد ": ص 129، جـ 1.
(2)
" فتح الباري ": ص 385 - 386، جـ 7.
والمسلمين عامة أحكام الإسلام وتعاليمه وآدابه، ولم يكن بين الرسول الكريم والمسلمين حاجب كالملوك والقياصرة، بل كان المسجد معهده يُعَلِّمُ فيه المسلمين الشريعة، وقد يرونه في الطريق فيسألونه، فيبشُّ لهم ويجيبهم، وقد يعترضونه في مناسكه وحَجِّهِ، أو على راحلته، يستفتونه فيُفتيهم، والابتسامة لا تفارق ثغرهُ، وقد تكون إجابته لسائل عن مسألة وحوله جمع قليل أو كثير، وقد يكون على منبر مسجده يُبَلِّغُ الناس الإسلام وتعاليمه، ويُفَصِّلُ الأحكامَ ويشرحها .. فينقل السامعون ما تلقَّوْهُ إلى إخوانهم وذويهم
…
فإنْ سمع وشاهد ووعى ستبقى آثار ما تلقاه واضحة جلية في نفسه أمداً طويلاً، حتى إذا ما شك فيما سمع عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليزيل وَهُمَهُ، ويثبته على الصواب، ويردَّهُ إلى الحق.
وقد حرص الصحابة على مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقبلوا على تلقِّي السُنَّة وتطبيقها من قلوبهم صادقين مخلصين، بعد أنْ ذاقوا حلاوة الإيمان، وعرفوا عظمة الإسلام، ورأوا في القرآن المعجزة الكبرى والهداية العظمي، فامتلأت قلوبهم حُباً لله ورسوله، وتفانوا في سبيل دينهم ومبادئهم وحماية قائدهم ومُعَلِّمِهِمْ، وأخبار بذلهم وفدائهم تكلِّلُ جبين التاريخ وتُزَيِّنُهُ، وإنَّ التاريخ ليحفظ تلك المفاخر الخالدة من التضحيات العظيمة النادرة.
بهذه القلوب التي امتلأت بالإيمان، وبهذه الروح السامية والحيوية الدائمة أقدم الصحابة على تلقِّي العلم عن رسول الله الكريم، فكانوا يتعلَّمُون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم آيات معدُودات: يسْتَفِمُونَ معناها، ويتعلَّمُون فِقْهَهَا، ويطبِّقُونه على أنفسهم، ثم يحفظون غيرها، وفي هذا يقول أبو عبد الرحمن السُّلَمِي:«حدَّثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلَّمُوا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم تجاوزوها حتى يتعلَّمُوا فيها من العلم والعمل .. قالوا: فتعلَّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً» .
وكان الصحابة يحرصون على حضور مجالس رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حرصاً شديداً، إلى جانب قيامهم بأعمالهم المعاشية من الرعاية والتجارة وغيرها، وقد يصعب على بعضهم الحضور دائماً، فيتناوبون مجالسه عليه الصلاة والسلام، كما كان يفعل عمر رضي الله عنه، قال: «كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الأَنْصَارِ فِي بني أُمَيَّةَ بن زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ
…
» (1).
ولم يقتصر تعليمه صلى الله عليه وسلم على الصحابة وحدهم، بل كان يُعلِّمُ النساء أمور دينهم، ويعقد لَهُنَّ مجالسهُنَّ، ولم يكن ذلك صُدفة أو نادراً، بل خَصَّصَ لَهُنَّ أوقاتاً خاصة يَجْلِسْنَ فيها إليه ويتلقَّيْنَ عنه تعاليم الإسلام، ويسْأَلْنَهُ فيُجيبُهُنَّ، وفي هذا قالت عائشة رضي الله عنها:
وكان بعض الوفود يقيم عند الرسول صلى الله عليه وسلم، يتعلَّمُون أحكام الإسلام وعباداته، ثم يعودون إلى أقوامهم يُعَلِّمُونَهُمْ وَيُفَقِّهُونَهُمْ، من هذا ما أخرجه " البخاري " عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ:«أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا، فَقَالَ: " ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» (3).
إنَّ مثل هؤلاء الوافدين الذين أقاموا أياماً خالدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أنْ ينسوا ما تلقَّوْهُ منه، بل سيبقى ذلك ثابتاً قوياً في نفوسهم طوال حياتهم.
(1)" فتح الباري ": ص 195، جـ 1.
(2)
" فتح الباري ": ص 239، جـ 1.
(3)
" صحيح البخاري بحاشية السِنْدِي ": ص 52، جـ 4.
وإلى جانب هذه الوفود وتلك المجالس، كان المسلمون يتلقَّون السُنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه عِدَّةٍ. منها أنَّ بعض الحوادث التي تقع للرسول صلى الله عليه وسلم فيُبَيِّنُ حُكْمَهَا، وينتشر هذا الحُكم بين المسلمين، وبعض الحوادث كانت تقع للمسلمين فيسألون الرسول الأمين عنها فيجيبهم، ومن هذه الحوادث ما يتناول خصوصيات السائل نفسه، ومنها ما يتعلَّقُ بغيره، وجميعها من الوقائع التي تعرض للإنسان في حياته فنرى الصحابة لا يخجلون في ذلك كله، بل يسرعون إلى رائدهم ومُرَبِّيهِمْ ليقفوا على حقيقة تطمئنُّ قلوبهم إليها.
إنَّ هؤلاء الصحابة الذين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمورهم الشخصية التي قد يخجل منها غيرهم، كانوا لا يحجمون عن سؤاله في معاملاتهم وعباداتهم وعقائدهم وسائر أمورهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجيبهم على أسئلتهم هذه كلها ويحكم بينهم، ويُبَيِّنُ لهم الحق، وفي تلك الأجوبة والفتاوى والأقضية مادة كثيرة في مختلف أبواب كتب السُنَّة، وهي تؤلِّفُ جانباً كبيراً من الحديث النبوي. ويبعد أنْ ينسى هذه الحوادث من وقعت له وسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها جزء من حياة السائل، بل واقعة بارزة من وقائع عمره.
وهناك وقائع شاهد فيها الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - تصرُّفات الرسول صلى الله عليه وسلم، في صلاته وصيامه وحَجِّهِ وسفره وإقامته، فنقلوها إلى التابعين الذين بلَّغُوها من بعدهم، وهي تؤلِّف جانباً عظيماً من السُنَّة، وخاصة هديه صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات وسيرته
…
مِمَّا سبق اتَّضح لنا كيف تلقَّى المسلمون السُنَّة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرفنا الروح التي شملتهم، والدوافع القوية التي حثَّتهم على تلقِّي القرآن والسُنَّة وحفظهما، مِمَّا يسمح لنا أنْ نقول - ونحن واثقون مطمئنُّونَ -:
إنَّ السُنَّة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت محفوظة عند الصحابة جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم، وإنْ كان نصيب كل صحابي منها يختلف عن نصيب الآخر، فمنهم المكثر من حفظها، ومنهم المُقِلُّ، ومنهم المتوسط في ذلك، ومن ثَمَّ نستطيع تأكيد أنهم قد أحاطوا بالسُنَّة، وتكلفوا بنقلها إلى التابعين الذين نقلوها إلى من بعدهم طبقاً لقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يُسْمَعُ مِنْكُمْ» (1).
وقد انتشرت السُنَّة في عهده صلى الله عليه وسلم، بما كان له من جِدٍّ ونشاط في تبليغه، وبواسطة أصحابه، ولا ننس أثر أمهات المؤمنين في نشر السُنَّة بين النساء، وأثر بعوثه وولاته ورسله، وما كان لغزوة الفتح من أثر بعيد في نشر بعض السُنن، ثم ما كان لحَجَّةِ الوداع من أثر عظيم وبعيد في نشر كثير من الأحكام والسُنن، كما انتشرت السُنَّة بواسطة الوفود الكثيرة التي قدمت بعد الفتح الأعظم وحَجَّةِ الوداع. كل تلك العوامل كفيلة بنشر السُنَّة وتبليغها المسلمين في مختلف أرجاء الدولة الإسلامية آنذاك (2) ولم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلَاّ بعد أنْ انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وساد ربوعها، وملأ القرآن والسُنَّة صدور أهلها، مصداقاً لقوله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3).
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم حرص الصحابة والتابعون على الاقتداء بالرسول والتمسك بسُنَّته، وقوفاً عند وصيَّته عليه الصلاة والسلام:«تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي» واحتاطوا في رواية الحديث، وتتبَّعُوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأَبَوْا أنْ يخالفوها متى ثبتت عندهم، كما أَبَوْا أنْ ينحرفوا عن شيء، فارقهُم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتَّبعُوا كل سبيل يحفظ السُنَّة المُطَهَّرَةَ من الخطأ والتحريف، فآثروا الاعتدال في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشدَّدّ عمرُ في هذا خشية الخطأ،
(1)" مسند الإمام أحمد ": ص 74، جـ 2.
(2)
لقد فصَّلنا القول في هذا في كتابنا " السُنَّةُ قبل التدوين ".
(3)
[المائدة: 3].
لهذا نرى بعضهم - مع كثرة تحملهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يكثر من الرواية آنذاك، وكانوا يتورَّعُون من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان بعضهم تغرورق عيونهم بالدموع عندما يقولون:(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكثيراً ما كانوا يقولون بعد الحديث (أو كما قال)، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى:«أدْركْت مائَةً وَعشْرينَ من الأَنْصَار من أَصْحَاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْهُم أَحَدٌ يُحَدِّثُ بِِحَدِيثٍ إِلَاّ وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاهُ وَلَا يُسْتَفْتَى عَنْ شَيْء إِلَاّ وَدَّ أَََّنَّ أَخَاهُ كَفاهُ إِيَّاهُ» وَفِي رِوَايَة: «يُسْْأَلُ أَحَدُهُمْ الْمَسْأَلَةَ فَيَرُدَّهَا هَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إَِِلَى الأَوَّلِ» (1).
هكذا تشدَّدَ الصحابة في الحديث، وأمسك بعضهم عن روايته كراهية التحريف، أو الزيادة والنقصان في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنَّ كثرة الرواية كانت في نظر كثير منهم مظنة الوقوع في الخطأ، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى رسول الله عن الكذب عليه، وعن رواية ما يُرَى أنه كذب، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وفي رواية: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ» (2).
وكان الصحابة يخشون أنْ يقعوا في الكذب عامة، فكيف يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ..
وفي هذا يقول الإمام عليٌّ رضي الله عنه: «إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْه
…
» (3).
وقد طبع جميع الصحابة هذا المنهج، حرصاً منهم على حفظ القرآن والسُنَّة، ومخافة أنْ يشتغل الناسُ برواية الحديث عن القرآن الكريم، وهو
(1)" مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول ": ص 13.
(2)
مقدمة " التمهيد " لابن عبد البر: ص 11.
(3)
" مسند الإمام أحمد ": ص 45، جـ 2.
دستور الأمَّة، فأرادوا أنْ يحفظ المسلمون القرآن جيِّداً، ويعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن قد دُوِّنَ كله في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كالقرآن الكريم، فنهجوا منهج التثبت العلمي ولم يكثروا من الرواية مخافة الوقوع في الخطأ، وقد تشدَّدَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تطبيق هذا المنهج، وعرف إتقان بعض الصحابة وحفظهم الجَيِّدَ فسمح لهم بالتحديث.
ويجب ألَاّ يفهم من هذا أنَّ الصحابة امتنعوا عن رواية الحديث، أو عن تبليغه، إنما أَبَوْا أنْ يكثِرُوا من الرواية عند عدم الحاجة، ومفهوم أنه لا يكون إكثار إلَاّ عند عدم الحاجة إلى الإكثار، فكانوا جميعاً يتثبَّتون في الحديث، ويتأنَّوْنَ في قبول الأخبار وأدائها، وكانوا لا يُحدِّثُون بشيء إلَاّ وهُمْ واثقون من صِحَّةِ ما يَرْوُونَ، وقد حرصوا على المحافظة على الحديث بكل وسيلة تُفضِي إلى ذلك، فاتَّبعُوا منهجاً سليماً يمنع الشوائب من أنْ تدخل السُنَّة النبوية فتُفسدها. وقد اهتمُّوا اهتماماً كبيراً بالسُنَّة النبوية ونشرها، وإنَّ الأخبار التي تُروَى عنهم في هذا الشأن كثيرة جداً، فكان يسأل بعضُهُم بعضاً عن الحديث ويرحلون من أجله، قال ابن عباس: «إِنَّهُ كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ، وَهُوَ قَائِلٌ (1)، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، تُسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكَ، أَلَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ، فَأَقُولُ: أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ، فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ
…
» (2).
وروى بعض الصحابة عن بعض ولم يكتفوا بدراسة الأحاديث فيما بينم، بل حَثُّوا على طلبه وحفظه وحضُّوا التابعين على مجالسة أهل العلم والأخذ عنهم، ولم يتركوا وسيلة لذلك إلَاّ أفادوا منها. من هذا ما رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه قال:«تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا» (3) وقال: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَالسُّنَّةَ كَمَا تَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ» (4).
(1) أي هو في نوم الظهيرة، من القيلولة والقائلة.
(2)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 24، جـ 1، وانظر ص 24: ب منه.
(3)
" فتح الباري ": ص 175، جـ 1.
(4)
" جامع بيان العلم وفضله ": ص 34، جـ 2.
وكان أبو ذَرٍّ مثلاً رائعاً لنشر الحق وتبليغ سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى " البخاري " بسنده عنه أنه قال:«لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ - السيف الصارم - عَلَى هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ - ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لأَنْفَذْتُهَا» (1)، وما كان أبو ذر بِدَعاً من الصحابة، إنما كان أحد الألوف الذين ساهموا في حفظ السُنَّة ونشرها. وقال أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب:«تَزَاوَرُوا وَتَذَاكَرُوا الْحَدِيثَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَا تَفْعَلُوا يَدْرُسُ» (2).
ووقف عمرو بن العاص على حلقة من قريش فقال: «مَا لَكُمْ قَدْ طَرَحْتُمْ هَذِهِ الأُغَيْلِمَةَ؟ لَا تَفْعَلُوا، وَأَوْسِعُوا لَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَسْمِعُوهُمُ الْحَدِيثَ، وَأَفْهِمُوهُمْ إِيَّاهُ، فَإِنَّهُمْ صِغَارُ قَوْمٍ أَوْشَكَ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ، وَقَدْ كُنْتُمْ صِغَارَ قَوْمٍ فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ كِبَارُ قَوْمٍ» (3).
وازداد النشاط العلمي في عصر الصحابة والتابعين، وانتشرت حلقات العلم في جميع المساجد، في مختلف الأمصار الإسلامية، حتى إنَّ حلقات أبي الدرداء في جامع دمشق كانت تَضُمُّ نيفاً وخمسمائة ألف طالب (4)، قال أنس بن سيرين:«قَدِمْتُ الْكُوفَةَ قَبْلَ الْجَمَاجِمِ، فَرَأَيْتُ فِيهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ» (5)، وزاد في رواية فقال:«وَأَرْبَعَمِائَةٍ قَدْ فَقِهُوا» (6).
كما كانت حلقات العلم تعقد في حِمص وحلب والفسطاط والبصرة والكوفة واليمن، إلى جانب حلقات ينبوع الإسلام في مكة والمدينة، فقد كانت في المدينة كالروضة يختار منها طالب العلم ما يشاء (7).
(1)" فتح الباري ": ص 170، جـ 1.
(2)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 99.
(2)
" شرف أصحاب الحديث ": ص 89: ب.
(3)
" التاريخ الكبير "(تهذيب) لابن عساكر: ص 69.
(5)
" المحدث الفاصل ": ص 81: أ. ووقعة الجماجم مشهورة، كانت بين الحَجَّاجِ وعبد الرحمن بن الأشعث سنة (82 هـ)، وفيها قتل عبد الرحمن وكثير من القُرَّاء. انظر " تاريخ الطبري ": 5/ 157، ودير الجماجم بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها، على طرف البر للسالك إلى البصرة. " معجم البلدان ": 4/ 131.
(6)
" المحدث الفاصل ": ص 135: ب.
(7)
انظر " المحدث الفاصل ": ص 9: ب.
وكان التعليم في تلك الحلقات يعتمد على أسُس تربوية هامة، تعتبر من أبرز الأسس في التربية الحديثة (1). ثم ما لبثت أنْ ظهرت دُورُ الحديث في العصور التالية، في معظم البلدان الإسلامية.
وفي عهد التابعين وأتباعهم ازداد النشاط العلمي لانتشار الصحابة في الأمصار الإسلامية، ثم ما لبث التابعون أنْ تصدَّرُوا للرواية، وسلكوا سبيل الصحابة، وساروا على نهجهم، فكانوا على جانب عظيم
من الورع والتقوى، وليس بعيداً ما نقول لأنهم تخرَّجُوا من مدارس الصحابة تلامذة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتثبَّتُوا في قبول الحديث وروايته، وكانت أمام عيونهم وصية الصحابة وكبار التابعين:«إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» ، ولهذا كانوا يرون الأمانة في الذهب والفضة أيسر من الأمانة في الحديث. فنسمع سليمان بن موسى يقول لطاوُوس:«إنَّ رَجُلاً حَدَّثَنِي بَكَيْتٍ وَكَيْتٍ، فَيَقُولُ لَهُ: إِنْ كَانَ مَلِياً فَخُذْ مِنْهُ» (2)، وكان ابن عون يقول:«لَا يُؤْخَذُ هَذَا الْعِلْمُ إلَاّ مِمَّنْ شُهِدَ لَهُ بِالطَّلَبِ» (3).
وكان يزيد بن أبي حبيب مُحَدِّثُ الديار المصرية يقول: «إِذا سَمِعْتَ الحَدِيثَ فانْشُدْهُ كَمَا تُنْشَدُُ الضَالَّةُ، فَإِنْ عُرِفَ، وَإِلَاّ فَدَعْهُ» (4).
وكانوا لا يأخذون الحديث إلَاّ عن العُدُول الثقات، ولا يأخذون الحديث عن غير أهله، ولا عَمَّنْ لا يعرف ما يُروَى، قال الإمام مالك:«لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنْ أَرْبَعَةٍ، وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ سِوَى ذَلِكَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ صَاحِبِ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ، وَلَا مِنْ سَفِيهٍ مُعْلِنٌ بِالسَّفَهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَرْوَى النَّاسِ، وَلَا مِنْ رَجُلٍ يَكْذِبُ فِي أَحَادِيثِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَتَّهِمُهُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مِنْ رَجُلٍ لَهُ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ إِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا يُحَدِّثُ» (5) وقال الإمام الشافعي:
(1) انظر النشاط العلمي في عصر الصحابة والتابعين في كتابنا " السُنَّة قبل التدوين ".
(2)
" الجرح والتعديل ": ص 27، جـ 1.
(3)
" الجرح والتعديل ": ص 28، جـ 1.
(4)
" الجرح والتعديل ": ص 19، جـ 1.
(5)
" المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ": ص 79: أ - ب. " الجرح والتعديل ": ص 32، جـ 1.
لهذا اعتنى رضي الله عنهم بمعرفة أحوال الرُواة وبُلدانهم وسماعاتهم، وسألوا عنهم، وتكلَّمُوا في الجرح والتعديل، قال السخاوي:«وأما المتكلمون في الرجال فخلق من نجوم الهدى، ومصابيح الظلام المستضاء بهم في دفع الردى، لا يتهيَّأ حصرهم في زمن الصحابة، سرد ابن عدي في مقدمة كاملة خلقاً إلى زمنه (277 - 365 هـ)، فالصحابة الذين أوردهم: عمر، وعليٌّ، وابن عباس، وعبد الله بن سلَاّم، وعُبادة بن الصامت، وأنس، وعائشة، رضي الله عنهم .. وسرد من التابعين عدداً كالشعبي، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وابن جُبير، ولكنهم فيهم قليل بالنسبة لمن بعدهم لقلة الضعف في متبوعهم، إذ أكثرهم صحابة عدول، وغير الصحابة من المتبوعين أكثرهم ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين ضعيف إلَاّ الواحد بعد الواحد، كالحارث الأعور والمختار الكذَّب» (2). وكان رضي الله عنهم يبيِّنون أحوال الرُواة وينقدونهم ويُعَدِّلُونهم حسبة لله، لا تأخذهم خشية أحد ولا تتملَّكُهم عاطفة، فليس أحد من أهل الحديث يُحَابِي في الحديث أباهُ ولا أخاهُ ولا ولده، سئل زَيْدٌ بْنَ أَبِي أُنَيْسَةَ عن أخيه فقال:«لَا تَأْخُذُوا عَنْ أَخِي» (3)، وسئل علي بن المديني عن أبيه فقال:«سَلُوا عَنْهُ غَيْرِي» ، فأعادوا المسألة، فأطرق، ثم رفع رأسه فقال:«هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ» (4).
وكانوا يأمرون طلابهم وإخوانهم أنْ يُبَيِّنُوا أحوال الرُواة، قال عبد الرحمن بن مهدي: «سَأَلْتُ شُعْبَةَ وَابْنَ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيَّ وَمَالِكَ بْنَ أَنَسٍ
(1) مقدمة " التمهيد ": ص 10: ب.
(2)
" الإعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ التاريخ ": ص 163.
(3)
" صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 121، جـ 1.
(4)
" الإعلان بالتوبيخ لمن ذَمَّ التاريخ ": ص 66.
عَنِ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، فَقَالُوا: انْشُرْهُ فَإِنَّهُ دِينٌ» (1). وقال يحيى بن سعيد: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكًا، وَابْنَ عُيَيْنَةَ، عَنِ الرَّجُلِ لَا يَكُونُ ثَبْتًا فِي الْحَدِيثِ، فَيَأْتِينِي الرَّجُلُ، فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ، قَالُوا:«أَخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ» (2).
وكان النقاد يُدَقِّقُون في حكمهم على الرجال، يعرفون لكل محدث ما له وما عليه، قال الشعبي:«وَاللهِ لَوْ أَصَبْتُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ مَرَّةٍ وَأَخْطَأْتُ مَرَّةً لَعَدُّوا عَلَيَّ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ» (3).
وكانت المظاهر لا تغريهم، وكل ما يهمُّهُم أنْ يخلصوا العمل لله، ويصلوا إلى الحق الذي ترتاح عنده ضمائرهم، لخدمة الشريعة، ودفع ما يشوبها، وبيان الحق من الباطل، قال يحيى بن معين:«إِنَّا لَنَطْعَنُ عَلَى أَقْوَامٍ لَعَلَّهُمْ قَدْ حَطُّوا رِحَالَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ» (4). قال السخاوي: «أَيْ أُنَاسٌ صَالِحُوْنَ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ» (5).
هكذا بَيَّنَ جهابذة علم الحديث - منذ صدر الإسلام إلى عهد التدوين والتصنيف - أحوال الرُواة: المقبول منهم والمتروك، وأُلِّفَتْ مُصنَّفاتٌ ضخمة في الرُواة وأقوال النُقَّادِ فيهم، حتى إنه لم يعد يختلط الكذَّابون والضعفاء بالعدول الثقات، كما ألِّفت مُصنَّفات ومعاجم خاصة بالضعفاء والمتروكين، وأصبح من السهل جداً على أصحاب الحديث أنْ يُمَيِّّزُوا الخبيث من الطيِّب في كل عصر، وقد بنى النُقَّادُ حكمهم في الرُواة على قواعد دقيقة، فقدَّمُوا للحضارة الإنسانية أعظم إنتاج في هذا المضمار، يفخر به المسلمون أبد الدهر، وتعتزُّ به الأمَّة الإسلامية التي شهد لها كبار العلماء بأياديها البيضاء في خدمة السُنَّة الشريفة، قال المستشرق الألماني «شبرنجر»
(1) مقدمة " التمهيد ": ص 12: ب.
(2)
" صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 92، جـ 1.
(3)
" تذكرة الحُفاظ ": ص 77، جـ 1.
(4)
" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 160: أ.
(5)
" الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ: ص 52.
في تصدير كتاب " الإصابة " لابن حجر - طبع كلكتا سنة 1852 - 1864 م -: «لم تكن فيما مضى أُمَّةٌ من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أُمَّةٌ من الأمم المعاصرة أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشؤونهم .. » .
وقد ظهرت تلك المُصَنَّفاتُ منذ أواخر القرن الهجري الثاني وطلائع القرن الثالث.
وإلى جانب هذا فقد التزم العلماء رواية الحديث بأسانيده، وكانوا يتثبَّتُون من صحة الأحاديث بالارتحال إلى الصحابة وكبار التابعين، ويقارنون بين طرق الأحاديث، ومتونها، ويعرفون زيادات الرُواة فيهما، كما قسَّمُوا الأحاديث درجات يعرف بها المقبول من المردود، والقوي من الضعيف.
فلم تصلنا الأحاديث في أمهات مصادرها إلَاّ بعد جهود عظيمة بذلها أسلافنا العظام، الذين خدموا السُنَّة خدمة جليلة، وتفانوا في سبيل حفظها وصيانتها.
وقد هيَّأ الله عز وجل لحفظ شريعته حفاظاً متقنين ضابطين، نقلوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظوا على الأُمَّة شريعتها ودينها، في مختلف العصور منذ عصر الصحابة إلى ما بعد التدوين وظهور مُصنَّفات الحديث العظيمة، وقد وهب الله تعالى لهؤلاء الحُفاظ حوافظ قويَّة، وإنَّ التاريخ يروي لنا ما كان يحفظه أبو هريرة، وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك، وعائشة أم المؤمنين التي كانت آية من آيات الذكاء والحفظ، وعبد الله بن عباس الذي اشتهر بسرعة حفظه، حتى إنه كان يحفظ الحديث من مَرَّةٍ واحدةٍ، وقد سمع قصيدة لابن أبي ربيعة عِدَّتُهَا ثمانون بيتاً فحفظها من المَرَّةِ الأولى، وفي الصحابة أمثاله كزيد بن ثابت الذي حفظ معظم القرآن قبل بلوغه، وتعلَّم لغة اليهود في سبعة عشر يوماً، وجابر بن عبد الله، وَأًبِي سعيد الخُدري وغيرهم من أعلام الصحابة في الحفظ والضبط والإتقان.
وفي التابعين نافع مولى عبد الله بن عمر الذي لم يخطئ فيما حفظ وأجمع النُقَّادُ على دقَّة حفظه، وفيهم محمد بن سيرين، وسعيد بن المسيب وابن شهاب الزُهري حفاظ عصرهم، وعامر الشعبي ديوان زمانه، وقتادة بن دعامة السَدُسِيِّ مضرب المثل في سرعة الحفظ والضبط والإتقان، وغيرهم من التابعين.
وأما في عهد أتباع التابعين ومن بعدهم فقد كثر الحفاظ كثرة عظيمة، واتَّسع النشاط العلمي حتى إنه ما كانت تخلو مدينة من كبار الحفاظ الذين تُشَدُّ الرحال إليهم، أمثال سفيان الثوري، والإمام مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، والإمام أحمد، والإمام البخاري، ومسلم، وأبي حاتم الرازي، وأبي زُرعة الرازي وغيرهم من أئمة الحديث وحُفَّاظه.
وقد ساهمت الأقلام والدفاتر في حفظ الحديث إلى جانب حفظه في الصدور، فمنذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفته الصادقة بين يديه صلى الله عليه وسلم، كما سمح لغيره مِمَّنْ لا يحفظ بالكتابة كسماحه (لأبي شاه) اليَمَنِي، كما أنَّ كُتَّاب الرسول صلى الله عليه وسلم كتبوا بين يديه الكريمتين بعض الأحكام إلى أمرائه ووُلَاّته في البلدان.
وأما ما ورد من نهي عن الكتابة فقد كان خشية التباس القرآن بالسُنَّة، وخوفاً من أنْ ينشغل الناس آنذاك عن القرآن الكريم، وقد سمح الرسول لبعض المتقنين بالكتابة، كما سمح لمن لا يقدر على الحفظ أنْ يكتب، ثم أبيحت كتابة الحديث، ولهذا كان كثير من التابعين يكتبون بين يَدَيْ الصحابة، كما كان عند بعض الصحابة بعض الصُحُفِ التي فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالصحيفة التي كانت في قائم سيف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، والصحيفة التي وجدت في قائم سيف أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، والكتاب الذي كتبه أبو بكر الصِدِّيقُ لأنس بن مالك في الصدقات التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان عند
سعد بن عُبادة الأنصاري (- 15 هـ) كتاب أو كتب فيها طائفة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مثل ذلك عند أبي رافع مولى الرسول الكريم، وعند غيره، وإنَّ المقام يضيق عن حصر ما كتب في عهد الصحابة والتابعين (1)، ومع هذا لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ صحيفة عبد الله بن عمرو، وهي " الصحيفة الصادقة " قد دُوِّنَتْ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر ما دُوِّنَ في عصر الصحابة " صحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري "(16 ق هـ - 78 هـ) ولعلَّ بعضها دُوِّنَ في عهده صلى الله عليه وسلم، و " الصحيفة الصحيحة " التي أملاها أبو هريرة على همام بن منبه وغيرها من الصحف التي كانت عند عروة بن الزبير، وخالد بن معدان الكلاعي، وأبي قلابة والحسن البصري، وكثرت كتب العلماء حتى بلغت كتب الصحابي الجليل عبد الله بن عباس حِمْلَ بعير، وقد نقلت كتب الزُهري بعد مقتل الوليد بن يزيد الأموي (88 - 126 هـ) من خزائنه على الدواب، وقد شاع التدوين في مطلع القرن الهجري الثاني بين العلماء، وأصبح من النادر ألا ترى لأحدهم تصنيفاً أو جامعاً فيه بعض أبواب الحديث.
وقد تبنَّت الدولة رسمياً في عهد عمر بن عبد العزيز تدوين الحديث، فكتب إلى الأمصار يأمر العلماء بجمعه وتدوينه، وكان فيما كتبه لأهل المدينة:«انْظُرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبُوهُ فَإِنِّي قَدْ خِفْتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابَ أَهْلِهِ» ، وكتب إلى أمير المدينة، أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ (- 117 هـ):«اكْتُبْ إِلَيَّ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَكَ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِحَدِيثِ عَمْرَةَ، فَإِنِّي خَشِيتُ دُرُوسَ الْعِلْمِ وَذَهَابِ أَهْلَهُ» .
كما أنَّ ابن شهاب الزُهري (- 124 هـ) وغيره بجمع السُنن، فكتبوها له، وكان ابن شهاب أحد الأعلام الذين شاركوا في جمع الحديث والكتابة، قال:«أَمَرَنَا عُمَرُ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِجَمْعِ الْسُّنَنِ، فَكَتَبْنَاهَا دَفْتَراً دَفْتَراً، فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ أَرْضٍ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٍ دَفْتَراً» .
(1) بسطت القول في هذا في كتابي " السُنَّة قبل التدوين " تحت عنوان «أشهر ما دُوِّنَ في صدر الإسلام» .
وقد تبيَّن لي من متابعة بحث التدوين أنَّ عبد العزيز بن مروا والد عمر بن عبد العزيز حين ولي إمرة مصر - كتب إلى مُحَدِّثِ حِمْصْ التابعي الجليل كثير بن مُرَّة الحضرمي، الذي أدرك سبعين بدرياً من الصحابة - أنْ يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَاّ حديث أبي هريرة فإنه كان عنده، ولا يظن بكثير إلَاّ أن يستجيب لطلب الأمير، فيجتمع له بهذا ما كان عنده، ولا يظن بكثير إلَاّ أنْ يستجيب لطلب الأمير، فيجتمع له بهذا ما كان عنده من حديث أبي هريرة وما عند كثير. ويكون ما فعله الخليفة عمر بن عبد العزيز بعد هذا - من العناية بالحديث ومطالبة العماء في الأمصار المختلفة بكتابته والجلوس لمدارسته - ليس إلَاّ امتداداً لما شرع فيه أبوه من قبل.
ولم يلبث تيار النشاط العلمي، وكتابة الحديث أنْ يطالع العالم بمُدوَّنات حديثية مختلفة، على يدي علماء النصف الأول من القرن الهجري الثاني، وقد ظهرت هذه المُصنَّفات في أوقات متقاربة في مختلف مناطق الدولة الإسلامية.
وأول من صنَّف بالبصرة الربيع بن صُبيح (- 160 هـ)، وسعيد بن أبي عروبة (- 156 هـ)، وحماد بن سلمة (- 176 هـ)، وصنَّف سفيان بن سعيد الثوري (97 - 161 هـ) بالكوفة، ومعمر بن راشد (95 - 153 هـ) باليمن، والإمام عبد الرحمن عمرو الأوزاعي (88 - 157 هـ) بالشام، وعبد الله بن المبارك (118 - 181 هـ) بخراسان، وهُشَيْم بن بشير (104 - 183 هـ) بواسط، وجرير بن عبد الحميد (110 - 188 هـ) بالري، وعبد الله بن وهب (125 - 197 هـ) بمصر كما لا أشك في أنَّ الليث بن سعد المصري الفقيه الإمام المشهور (- 175 هـ) كان قد جمع وصنَّف، لما عرف عنه من نشاط علمي واسع وصلة دائمة بعلماء المشرق الإسلامي. ثم تلاهم كثير من أهل العلم في عصرهم في النسج على منوالهم، وقد كان هذا التصنيف بالنسبة إلى جمع الأبواب وضمِّها إلى بعضها في مؤلف.
أو مصنَّف أو جامع، وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد، فقد سبق إليه التابعي الجليل عامر بن شراحيل الشعبي (19 - 103 هـ).
وكان معظم تلك المُصنَّفات، والمجاميع يضم الحديث الشريف وفتاوى الصحابة والتابعين، كما هو واضح في " موطأ الإمام مالك بن أنس " الذي يضمًّ ثلاثة آلاف مسألة وسبعمائة حديث.
ثم رأى بعض الحفاظ أنْ تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مؤلفات خاصة، فأُلِّفتْ المسانيد، وهي كتب تضم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيدها، خالية من فتاوى الصحابة والتابعين، تجمع فيها أحاديث كل صحابي - ولو كانت في مواضيع مختلفة - تحت اسم مسند فلان، ومسند فلان، وهكذا.
وأول من ألف المسانيد أبو داود سليمان بن الجارود الطيالسي (133 - 204 هـ)، وتابعه بعض من عاصره من أتباع التابعين وأتباعهم، فصنَّف أسد بن موسى (- 212 هـ)، وعبيد الله بن موسى العبسي (- 213 هـ) وغيرهم، واقتفى آثارهم أئمة الحفاظ كأحمد بن حنبل (164 - 241 هـ) وإسحاق بن راهويه (161 - 238 هـ)، وعثمان بن أبي شيبة (156 - 239 هـ) وغيرهم.
ويعتبر مسند الإمام أحمد - وهو من أتباع أتباع التابعين - أَوْفَى تلك المسانيد وأوسعها. وكان هؤلاء الأئمة والحُفاظ قد جمعوا الحديث ودَوَّنُوهُ بأسانيده، واجتنبوا الأحاديث الموضوعة، وذكروا طُرُقاً كثيرة لكل حديث، يتمكَّنُ بها رجال هذا العلم وصيارفته من معرفة الصحيح من الضعيف، والقوي من المعلول، مِمَّا لا يتيسَّرُ لكل طالب علم، فرأى بعض الأئمة الحُفاظ أنْ يُصنِّفُوا في الحديث الصحيح فقط، فصنَّفُوا كتبهم على الأبواب، واقتصروا فيها على الحديث الصحيح، ومن أجل ذلك تكبَّدُوا عناء السفر، والرحلة في طلب الحديث والبحث، ولقاء الشيوخ العدول الثقات الضابطين، ومن يطَّلع على سير بعض أئمة الحديث وحفاظه يدرك الجهود العظيمة التي بذلت في سبيل حفظ السُنَّة. وهكذا ظهرت " الكتب الستة " في