الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«آمِينَ» ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَنَحْنُ نَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا لَا يُنْسَى، فَقَالَ:«سَبَقَكُمْ بِهَا الْغُلَامُ الدَّوْسِيُّ» (1).
…
مجالسه ونشره الحديث:
كان أبو هريرة يُحَدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وفي مكة المكرمة، كما حَدَّثَ في دمشق، وحفظ عن أهلها، وحَدَّثَ في العراق والبحرين، وكان يُحَدِّثُ حيثما حل، ويفتي الناس بما سمع من الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ومن يتتبَّع حديثه يرى أنه قد جعل بيته معهداً للمسلمين يتردَّدُون إليه، ليسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، كما كان يستقبل طلاب العلم في أرضه بالعقيق (3)، ويُحدَّثُهُمْ ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم بما أنعم الله عليه من حُسن المعشر، ولطيف الخلق، وكثرة العلم والخير.
وكانت أكثر مجالسه في المسجد النبوي إلى جانب الحُجرة المشرفة، وقد عرف الناس فضله ومكانته، فكانوا يرجعون إليه في كثير من أمورهم، وكان يفتي بوجود علماء الصحابة، وكان بعض الصحابة كزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس يحيلون السائل عليه، لأنهم عرفوا علمه واتقانه، فعن معاوية بن أبي عياش الأنصاري، أنه كان جالساً مع ابن الزبير، فجاء محمد بن إياس بن بكير، فسأل عن رجل طلَّق ثلاثاً قبل الدخول، فبعثه إلى أبي هريرة، وابن عباس - وكانا عند عائشة - فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، قد جاءتك معضلة، فقال:«الْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا» (4).
(1)" تهذيب التهذيب ": ص 266، جـ 12 وفيه:«سألاك صاحبي» والتصحيح من " فتح الباري": ص 226، جـ 1. و " سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2. وانظر " حلية الأولياء ": ص 381، جـ 1. و " النهاية والبداية ": ص 111، جـ 8.
(2)
انظر " سنن أبي داود ": ص 568، جـ 1، باب في صوم يوم عرفة بعرفة، كتاب الصيام.
(3)
انظر " ذخائر الواريث ": ص 46، جـ 4 حديث (8421)، و " موطأ مالك ": كتاب الجامع.
(4)
" سير أعلام النبلاء ": ص 437، جـ 2. وانظر " سنن أبي داود ": ص 509، جـ 1.
ونقل لنا أبو داود عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِيَاسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، سُئِلُوا عَنِ الْبِكْرِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا؟ فَكُلُّهُمْ قَالُوا:«لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ» (1).
وروى أبو داود عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا، قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ» (2). لما رأى عمر الناس يتابعون إيقاع الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد، استشار الصحابة في أنْ يجيزوها ثلاثاً زجراً لهم. فأوقعها عمر ثلاثاً (3)، والظاهر من فتوى أبي هريرة أنها كانت بعد أنْ أجرى عمر رضي الله عنه إيقاع الثلاث زجراً للناس.
وكان حُبُّهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر من خلال حديثه عنه، فكان أحياناً يقول:«حَدَّثَنِي الصَّادِقُ المَصْدُوقُ» ، وأحياناً:«حَدَّثَنِي خليلي أبو ألقاسم» ، ومَرَّةً يقول:«حَدَّثَنِي حَبِيبِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم» ، وقد يقول:«قَالَ صلى الله عليه وسلم فَتَخْنَقُهُ عَبْرَةُ الذِّكْرَى وَيَنْهَضُ مِنْ مَجْلِسِهِ» (4).
وكان يبتدئ حديثه بحديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . روى عاصم بن كليب عن أبيه قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: - وكان يبتدئ حديثه بأنْ يقول -: قال رسول الله، أبو القاسم الصادق المصدوق:«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (5).
(1) انظر " سنن أبي داود ": ص 509، جـ 1.
(2)
" سنن أبي داود ": ص 509، جـ 1.
(3)
انظر بسط أقوال الأئمة من الصحابة والتابعين وأهل العلم من بعدهم في «الطلاق ثلاثاً» في " نيل الأوطار " للشوكاني: ص 245 - 248، جـ 6.
(4)
انظر " البداية والنهاية ": ص 107، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 440، جـ 47.
ويصف لنا مُحَمَّدٌ بنِ عُمَارَةَ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ مَجْلِساً لأَبِي هُرَيْرَةَ فَيَقُولُ: أَنَّهُ قَعَدَ فِي مَجْلِسٍ فِيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَفِيْهِ مَشْيَخَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالحَدِيْثِ، فَلَا يَعْرِفُهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ يَعْرِفُهُ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ مِرَاراً. قَالَ:«فَعَرَفْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّهُ أَحْفَظُ النَّاسِ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (1).
وقد وثق الناس بأبي هريرة وعرفوا مكانته، فكانوا يتواعدون لينطلقوا إليه، فيسمعوا حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما رواه مكحول قال:«تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قُبَّةٍ من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة، فحدَّثهُم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح» (2).
وعن محمد بن سيرين «أنَّ أبا هريرة كان يقوم كل خميس فيُحَدِّثَهُمْ» (3).
وعن عاصم بن محمد عن أبيه قال: «رأيت أبا هريرة يخرج يوم الجمعة، فيقبض على رمانتي المنبر، ويقول: «حَدَّثَنَا أَبُو القَاسِمِ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ» ، فلا يزال يُحَدِّثُ حتى يسمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام فيجلس» (4).
وقد عرف الصحابة والتابعون سعة علمه، ومكانته من الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا لا يرونه في مكان إلَاّ اجتمعوا حوله ينهلون من علمه، ولم يقتصر ذلك على المدينة فحسب، بل تعدَّاهُ إلى الشام والعراق، روى الإمام أحمد عن سفيان بن عُيينة قال: قال إسماعين بن أبي خالد،
(1)" سير أعلام النبلاء ": ص 444، جـ 2. وقد أخرجه البخاري في " تاريخه " والبيهقي في " المدخل ". انظر " فتح الباري ": ص 225، جـ 1.
(2)
انظر " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 114، و " سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2. و " البداية والنهاية ": ص 106، جـ 8.
(3)
انظر " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 113: ب.
(4)
" سير أعلام النبلاء ": ص 446 - 447، جـ 2.
عَنْ قَيْسٍ،قَالَ: نَزَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِالكُوفَةِ، - قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَانَا قَرَابَةٌ، قَالَ سُفْيَان وَهُوَ مَوْلَى لأَحْمَس - فَاجْتَمَعَتْ أَحْمَس، قَالَ قَيْس: فَأَتَيْنَاهُ نُسَلِّمُ عَلَيْهِ - وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً: فَأَتَاهُ الْحَيُّ -، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَؤُلَاءِ أَنْسِبَاؤُكَ أَتَوْكَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْكَ، وَتُحَدِّثُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِمْ وَأَهْلاً، صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ سِنِينَ، لَمْ أَكُنْ أَحْرَصَ عَلَى أَنْ أَعِيَ الْحَدِيثَ مِنِّي فِيهِنَّ، حَتَّى سَمِعْتُهُ يَقُولُ:«وَاللهِ لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَأْكُلَ وَيَتَصَدَّقَ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلاً أَغْنَاهُ اللهُ عز وجل مِنْ فَضْلِهِ، فَيَسْأَلَهُ، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ» (1).
وكان أبو هريرة حريصاً جداً على تبليغ العلم ونشره، وبيان السُنَّة في أية فرصة تسنح له، من هذا ما رواه ابن ماجه بسنده عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ يَمْشِي فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:«أَمَّا هَذَا، فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم» (2).
وكان أبو هريرة دقيقاً ضابطاً لما يحفظ عن الرسول صلى الله عليه وسلم يعزو ما يُحَدِّثُ به عن رسول الله إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، ويعزو قول غيره إلى قائله، وإذا قال في شيء برأيه قال:«هَذِهِ مِنْ كَيْسِي» (3). وقد ثبت هذا بأدلة كثيرة، وأخبار عدَّة منها ما رواه بكير بن الأشج قال: قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة، فيُحَدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَيُحَدِّثُنَا عن كبعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا، يجعل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كعب،
(1)" مسند الإمام أحمد ": ص 143، حديث 7973، جـ 15، وانظر ابن عساكر: ص 454، جـ 47.
(2)
" سنن ابن ماجه ": ص 242، حديث 733، جـ 1. وأخرجه الإمام مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي في كتاب الصلاة.
(3)
" إعلام الموقعين ": ص 64، جـ 1.
وحديث كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاتقوا الله وتحفظو امن الحديث (1)
وقد يؤكِّدُ أحياناً صحة ما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «يَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَدَمُهُ» (2) لأنه على يقين مِمَّا يقول، فقد سمع بأذنه، ووعى قلبه وذكر بلسانه.
وقد يسأله بعض الحضور: أسمعت هذا من رسول الله؟ فيقول: نعم. ويُبَيِّنُ أنَّ ذلك ليس رأيه، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو القارئ، قال: سمعت أبا هريرة يقول: لَا وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، مَا أَنَا قُلْتُ:«مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا يَصُومُ» .. «مُحَمَّدٌ وَرَبِّ الْبَيْتِ قَالَهُ، مَا أَنَا نَهَيْتُ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، مُحَمَّدٌ نَهَى عَنْهُ وَرَبِّ الْبَيْتِ» (3).
وربما جلس إلى حُجرة عائشة، فيُحَدِّثُ ثم يقول: يا صاحبة - وفي رواية يا أمه - أتنكرين مِمَّا أقول شيئاً؟ قال ابن عباس: فلما قضت صلاتها، لم تنكر ما رواه، لكن قالت: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ الْحَدِيثَ سَرْدَكُمْ (4). فلم تنكر عليه حفظه، أو سماعه عن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أنكرت سرده الحديث.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يُبَيِّنُ أهمية فهم ما يسمعه المرء، ومكانة الفقه من الدين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي الدِّينِ» . قال أبو هريرة: «لأََنْ أَفْقَهُ سَاعَةً أَحَبُّ إِلَيَّ
(1)" البداية والنهاية ": ص 109، جـ 8 ونحوه في " سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2.
(2)
" مسند الإمام أحمد: ص 291، جـ 13 رقم 7555 بإسناد صحيح وقد قال هذا بعد أنْ ذكر الحديث التالي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنَعَتِ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا، وَمَنَعْتِ الشَّامُ مُدَّهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ» . يشهد على ذلك ..
(3)
" مسند الإمام أحمد: ص 117، جـ 13 رقم 7383 إسناده صحيح، ورواه البخاري.
(4)
" سير أعلام النبلاء ": ص 437، جـ 2. وقد اعتبر أعداء أبي هريرة قولها هذا تكذيباً لأبي هريرة، وسَنُفَنِّدُهُ في الباب الثاني إنْ شاء الله .. انظر فقرة (أبو هريرة وعائشة).
مِنْ أَنْ أُحْيِيَ لَيْلَةً أُصَلِّيهَا حَتَّى أُصْبِحَ، وَالْفَقِيهُ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ دِعَامَةٌ، وَدِعَامَةُ الدِّينِ الْفِقْهُ» (1).
وكان أبو هريرة يدعو الناس إلى طلب العلم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويُضْفِي إلى ذلك شيئاً من مرحة فتقبله النفوس، وتطمئنُّ له القلوب. من هذا ما رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ - (وقد هاله انشغال الناس في الدنيا) - فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ:«يَا [أَهْلَ السُّوقِ]، مَا أَعْجَزَكُمْ» !!.
قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: «ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَاهُنَا لَا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ؟» .
قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: «فِي الْمَسْجِدِ» فَخَرَجُوا سِرَاعًا [إِلَى الْمَسْجِدِ]، وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ:«مَا لَكُمْ؟» قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ:«أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟» قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ:«وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» (2).
وكان أبو هريرة حين يعقد حلقات الحديث، يسمح لبعض طلابه بالكتابة عنه، ويكننا أنْ نعتبر هذه الحلقات التي يكتب فيها طلاب أبي هريرة عنه - مجالس إملاء الحديث، التي كثرت في العصور التالية: وقد ثبت أنه أملى على التابعي الثقة بشير بن نهيك السدوسي البصري بعض حديثه، وقرأ بشير ما كتبه عن أبي هريرة عليه قبل أنْ يفارقه (3).
ويحفظ لنا التاريخ وثيقة تاريخية علمية قيِّمة، لما أملاه أبو هريرة على تلميذه همام بن منبه، المولود سَنَةَ أربعين هجرية، والمتوفَّ سَنَةَ
(1)" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " بتحقيقي ف 1364. رواه الطبراني مرفوعاً وهو ضعيف. انظر " مجمع الزوائد ": ص 121، جـ 1.
(2)
" مجمع الزوائد ": ص 123، جـ 1، رواه الطبراني في " معجمه الأوسط "، وإسناده حسن.
(3)
انظر " طبقات ابن سعد ": ص 162، جـ 7، و " كتاب العلم " لزهير بن حرب: ص 193: ب. و " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 137: ب. و " المُحدث الفاصل ": ص 128: آ.
إحدى وثلاثون ومائة، فقد لقي همام بن منبه أحد أعلام التابعين الثقات الصحابي الجليل أبا هريرة رضي الله عنه، وكتب عنه كثيراً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعه في صحيفة أو صحف أطلق عليها اسم " الصحيفة الصحيحة "(1). وربما سَمَّاهَا بالصحيحة على مثال " الصحيفة الصادقة " لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وحق لهَمَّام أنْ يُسَمِّهَا بالصحيحة، لأنه كتبها عن صحابي خالط رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنين، وروى عنه الكثير.
وقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملة، كما رواها ودَوَّنَهَا همَّام عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد عثر على هذه الصحيفة الدكتور المُحقِّق محمد حميد الله في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين (2)، ووجدت لهذه الصحيفة نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية، تحت رقم (1981 حديث).
وتزداد ثقتنا بصحيفة همام حينما نعلم أنَّ الإمام أحمد قد نقلها بتمامها في " مسنده "، كما نقل الإمام البخاري عدداً كثيراً من أحاديثها في " صحيحه " في أبواب شتى.
ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية في تدوين الحديث الشريف، أنها حُجَّة قاطعة ودليل ساطع على أنَّ الحديث النبوي كان قد دُوِّنَ في عصر مُبَكِّرٍ خلافاً للخطأ الشائع: أنَّ الحديث لم يُدَوَّنْ إلَاّ في أوائل القرن الهجري الثاني، ذلك لأنَّ هَمَّاماً لقي أبا هريرة قبل وفاته، وقد توفي أبو هريرة سَنَةَ 59 للهجرة، فمعنى ذلك أنَّ هذه الوثيقة العلمية قد دُوِّنَتْ قبل هذه السَنَةِ، أي في منتصف القرن الهجري الأول، وبهذا يكون لأبي هريرة فضل كبير في تشجيع طلاب العلم على تدوين الحديث وحفظه، وتضم صحيفة همام هذه (138) حديثاً وقد ذكر ابن حجر أنَّ هماما سمع من أبي هريرة نحو أربعين ومائة حديث بإسناد واحد (3)، وهذا يزيدنا ثقة بهذه الصحيفة، لاتفاق عدد ما جاء فيها من الأحاديث وما ذكره العلماء. وقد رواها عن همام
(1) انظر أقدم تدوين في الحديث النبوي: " صحيفة همام ": ض 20.
(2)
انظر وصف الدكتور حميد الله للمخطوطتين في " صحيفة همام ": ص 21 - 23.
(3)
انظر " تهذيب التهذيب ": ص 67، جـ 11.