المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كثرة حديثه وسعة علمه: - أبو هريرة راوية الإسلام

[محمد عجاج الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌[أبو هريرة راوية الإسلام]

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة:

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌تمهيد:

- ‌العرب ورسالة الإسلام:

- ‌حول السُنَّة:

- ‌السُنَّة ومكانتها من القرآن الكريم:

- ‌عدالة الصحابة:

- ‌حفظ السُنَّةِ وانتشارها:

- ‌1 - الإمام البخاري (194 - 256 ه

- ‌2 - الإمام مسلم (204 - 261 ه

- ‌3 - أبو داود السجستاني (202 - 275 ه

- ‌4 - الإمام الترمذي (209 - 279 ه

- ‌5 - الإمام النَسَائِي (215 - 303 ه

- ‌6 - الإمام ابن ماجهْ (209 - 273 ه

- ‌الباب الأول: أبو هريرة:

- ‌الفصل الأول: حياته العامة:

- ‌ نسبه والتعريف به:

- ‌هيئته وأوصافه الجسمية:

- ‌نشأته قبل الإسلام:

- ‌إسلامه وهجرته:

- ‌إسلام أمه:

- ‌ملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌التزام أبي هريرة السُنَّةَ:

- ‌فقره وعفافه:

- ‌كرم أبي هريرة:

- ‌ولايته في عهد عمر رضي الله عنه

- ‌أبو هريرة وفتنة عثمان:

- ‌أبو هريرة في عهد عَلِيٍّ رضي الله عنه

- ‌أبو هريرة أمير المدينة:

- ‌أبو هريرة والجهاد في سبيل الله:

- ‌مرح أبي هريرة ومُزاحه:

- ‌مرض أبي هريرة:

- ‌وفاته:

- ‌أسرته:

- ‌الفصل الثاني: حياته العلمية:

- ‌بين يدي الفصل:

- ‌حرصه على الحديث:

- ‌أمله علم لا يُنْسَى:

- ‌مجالسه ونشره الحديث:

- ‌كثرة حديثه وسِعَةِ علمه:

- ‌حفظ أبي هريرة:

- ‌حَضُّهُ على صيانة الحديث من الكذب:

- ‌أبو هريرة والقرآن الكريم:

- ‌أبو هريرة والفتوى:

- ‌أبو هريرة والقضاء:

- ‌شيوخه ومن روى عنه:

- ‌الصحابة الذين رَوَوْا عنه:

- ‌التابعون الذين رَوَوْا عنه:

- ‌عدة ما رُوِيَ عنه من الحديث:

- ‌ نماذج من مروياته

- ‌1 - مِمَّا أخرجه الإمام مالك في " الموطأ

- ‌2 - مِمَّا أخرجه الإمام أحمد:

- ‌3 - مِمَّا رواه البخاري:

- ‌4 - مِمَّا رواه الإمام مسلم:

- ‌5 - مِمَّا رواه الإمام أبو داود:

- ‌6 - مِمَّا رواه الإمام الترمذي:

- ‌7 - مِمَّا رواه الإمام النسائي:

- ‌8 - مِمَّا رواه الإمام ابن ماجه:

- ‌أصح الطرق عن أبي هريرة:

- ‌الثناء على أبي هريرة:

- ‌الباب الثاني: الرد على الشُبه التي أثيرت حول أبي هريرة:

- ‌أبو هريرة وبعض الباحثين:

- ‌مقدمة كتاب " أبو هريرة

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - نشأته وإسلامه:

- ‌3 - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - على عهد الخليفتين:

- ‌5 - على عهد عثمان: [ص 16 - 17]:

- ‌6 - على عهد عَلِيٍّ [صفحة 21 - 26]:

- ‌7 - على عهد معاوية [صفحة 26 - 31]:

- ‌أولاً - هل تشيَّع أبو هريرة للأمويِّين

- ‌ثانياً: هل وضع أبو هريرة الأحاديث كذباً على رسول الله

- ‌موقف الصحابة من أبي هريرة:

- ‌[أ] أبو هريرة وعمر بن الخطاب:

- ‌[ب] أبو هريرة وعثمان بن عفان:

- ‌[ج] أبو هريرة وعَلِيٌّ بن أبي طالب رضي الله عنهما

- ‌[د] أبو هريرة وعائشة:

- ‌[هـ] أبو هريرة وعبد الله بن عمر:

- ‌[و] أبو هريرة وابن عباس:

- ‌[ز] أبو هريرة والزبير:

- ‌[ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم:

- ‌هل كان أبو هريرة تلميذاً لكعب الأحبار

- ‌خاتمة:

- ‌أهم المصادر والمراجع:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌كثرة حديثه وسعة علمه:

تلميذه معمر بن راشد، ثم عبد الرزاق عن معمر ثم هَلُمَّ جَرًّا (1).

‌كثرة حديثه وسِعَةِ علمه:

كان أبو هريرة من أوعية العلم ، ومن كبار أئمة الصحابة في الحديث، مع الجلالة والعبادة، والتواضع والورع، ولم يكن أحد أكثر منه حديثاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَاّ عبد الله بن عمرو بن العاص، كما قال أبو هريرة نفسه:«مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَاّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ» (1). إلَاّ أنَّ ظروف عبد الله بن عمرو وتنقُّلهُ مع أبيه بين الحجاز ومصر والشام، وعدم استقراره، وانشغاله في العبادة عن التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل ما رُوِيَ عنه أقل مِمَّا رُوِيَ عن أبي هريرة بكثير (3).

وقد استكثر بعض الصحابة حديث أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين كانت سياسة الصحابة الإقلال من حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام كيلا ينصرف الناس عن القرآن، وخوفاً من الخطأ والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر أنه أمره بالإقلال من الرواية عن رسول الله، إلَاّ أنه عاد فسمح له حين عرف علمه ومكانته وورعه (4).

وكان أبو هريرة يُبَيِّنُ أسباب كثرة حديثه فيقول:

«إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاللهُ الْمُوعِدُ، وَيَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ لَا يُحَدِّثُونَ عَنْ

رَسُولِ اللهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ؟ وَإِنَّ أَصْحَابِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَتْ تَشْغَلُهُمْ

(1) انظر " صحيفة همام بن منبه ": ص 20.

(2)

" فتح الباري ": ص 217، جـ 1. و " مسند الإمام أحمد ": ص 119، جـ 13 رقم 7383، رواه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو كثير: انظر رقم: 6510، 6802، 6930، 7018.

(3 و 4) سأتعرَّضُ لهذا بالتفصيل في الباب الثاني من هذا الكتاب.

ص: 117

أَرْضُوهُمْ وَالْقِيَامُ عَلَيْهَا، وَإِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مِسْكِينًا، (أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَلْءِ بَطْنِي)(1) وَكُنْتُ أُكْثِرُ مُجَالَسَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَحْضُرُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنَا يَوْمًا فَقَالَ:«مَنْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ حَدِيثِي، ثُمَّ يَقْبِضُهُ إِلَيْهِ، فَلَا يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي أَبَدًا» فَبَسَطْتُ ثَوْبِي، - أَوْ قَالَ: نَمِرَتِي - ثُمَّ قَبَضْتُهُ إِلَيَّ، فَوَاللهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ (2).

وكان يقول: «وَايْمُ اللهِ، لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ أَبَدًا، ثُمَّ يَتْلُو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ}» (3).

وكان يدعو الناس إلى نشر العلم، وعدم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال:«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (4) وعنه أيضاً: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (5).

وكان أبو هريرة يقول: «مَنْ كَتَمَ عِلْماً يُنْتَفَعُ بِهِ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» (6).

(1) ما بين قوسين من رواية الزُهري في " مسند الإمام أحمد ": ص 267، جـ 12 رقم 7573.

(2)

" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 52 و " فتح الباري ": ص 224، جـ 1. و " مسند الإمام أحمد: ص 270، جـ 12. و " حلية الأولياء ": ص 378، جـ 1. و " تاريخ الإسلام ": ص 334 جـ 2. «وَاللهُ الْمُوعِدُ»: قال القاضي عياض في " المشارق ": ص 290، جـ 1 أي عند الله المجتمع أو إليه، أي الموعد عنه .. انظر هامش الصفحة: 270 من الجزء 12 من " مسند الإمام أحمد ". وفي " طبقات ابن سعد ": ص 56، جـ 24 «فَبَسَطْتُهُ، فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثم قال: «ضُمَّهُ» ، فَضَمَمْتُهُ».

(3)

" فتح الباري ": ص 224، جـ 1. و " مسند الإمام أحمد: ص 270، جـ 12 رقم 7274 وفيه:«لولا آيتان» - والآية [البقرة: 159].

(4)

" فتح الباري ": ص 212، جـ 1 من حديث طويل.

(5)

" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 56 و 57.

ص: 118

هكذا كان يشعر أبو هريرة أنَّ من واجبه أنْ يُفَقِّهَ الناس، ويعلمهم ما سمعه من الصادق المصدوق، ويرى هذا لزاماً عليه، لذلك لم يتوان في هذا المضمار ولم يقصر فيه، بل كان في طليعة المعلمين، سعى لنشر العلم، وأفتى الناس أكثر من عشرين سَنَةً، وكان طلاب العلم وأصحاب المسائل لا ينقطعون عنه، لعلمه الجم، وحفظه الجَيِّدِ، فقد كان من أعلم الصحابة بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر لنا ذلك فيما حدث له مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أَخَذَتِ النَّاسَ رِيحٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَاجٌّ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنِ الرِّيحِ؟ فَلَمْ يُرْجِعُوا إِلَيْهِ شَيْئًا، فَبَلَغَنِي الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَاسْتَحْثَثْتُ رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا، فَلَا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا» (1).

ومن هذا ما رواه الوليد بن عبد الرحمن أنَّ أبا هريرة حَدَّثَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا وَتَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ» فقال عبد الله بن عمر: «انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ، فَإِنَّكَ تُكْثِرُ مِنَ الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، فأخذ بيده، فذهب به إلى عائشة فسألها عن ذلك، فقالت:«صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ!!» ثم قال: «يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، إِنَّمَا كَانَ يَهُمُّنِي كَلِمَةٌ من رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنِيهَا، أَوْ لُقْمَةٌ يُطْعِمُنِيهَا» (2). وفي رواية: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي

(1)" مسند الإمام أحمد ": ص 52، جـ 14 رقم 7619 بإسناد صحيح ونحوه في " الأدب المفرد ": ص 312 وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وهذا الحديث دليل قاطع على قناعة عمر رضي الله عنه بحفظ أبي هريرة بالرغم من كثرة حديثه. وسأتعرض لهذا في الباب الثاني من البحث.

(2)

" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 57 وروى نحوه بإسناد صحيح الإمام أحمد في " مسنده ": ص 175، جـ 12 رقم 7188.

ص: 119

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَرْسُ بِالوَادِي وَصَفْقٌ بِالأَسْوَاقِ (1). فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَنْتَ أَعْلَمُنَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْفَظُنَا لِحَدِيثِهِ» (2).

وقد شهد له إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة سماعه وأخذه عن رسول الله. وهذه الشهادات تدفع كل ريب أو ظن حول كثرة حديثه، حتى إنَّ بعض الصحابة رَوَوْا عنه لأنه سمع من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوا. من هذا أنَّ رجلاً جَاءَ إِلَى طَلْحَةَ (3) بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَرَأَيْتُكَ هَذَا اليَمَانِيَّ - يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ - أَهُوَ أَعْلَمُ بِحَدِيْثِ رَسُوْلِ اللهِ مِنْكُم؟ نَسْمَعُ مِنْهُ أَشْيَاءَ لَا نَسْمَعُهَا مِنْكُم؟ قَالَ: «أَمَّا أَنْ قَدْ سَمِعَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ نَسْمَعْ فَلَا أَشُكُّ، سَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّا كُنَّا أَهْلَ بُيُوْتَاتٍ وَغَنَمٍ وَعَمَلٍ، كُنَّا نَأْتِي رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَي النَّهَارِ، وَكَانَ مِسْكِيْناً ضَيْفاً عَلَى بَابِ رَسُوْلِ اللهِ، يَدُهُ مَعَ يَدِهِ، فَلَا نَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَلَا تَجِدُ أَحَداً فِيْهِ خَيْرٌ يَقُوْلُ عَلَى رَسُوْلِ اللهِ مَا لَمْ يَقُلْ» (4). وقال في رواية: «قَدْ سَمِعْنَا كَمَا سَمِعَ، وَلَكِنَّهُ حَفِظَ وَنَسِينَا» (5).

وَرَوَى أَشْعَثُ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ (الأَنْصَارِي) يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَقَالَ:«إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَإِنِّي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي مَا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ -» (6).

(1)" البداية والنهاية ": ص 107، جـ 8. و " طبقات ابن سعد: 2: 2/ 118.

(2)

المراجع السابقة: ورَوَى نحو قول ابن عمر هذا الترمذي ونصه: «كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْرَفَنَا بِحَدِيثِهِ» . وقال الترمذي: حسن. راجع " فتح الباري ": ص 225، جـ 1.

(3)

في " سير أعلام النبلاء «طليحة» والصواب طلحة كما في " فتح الباري ": ص 225، جـ 1.

(4)

" سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2. و " البداية والنهاية ": ص 109، جـ 8.

(5)

" فتح الباري ": ص 77، جـ 8.

(6)

" البداية والنهاية ": ص 109، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 436، جـ 2.

ص: 120

ثم إنَّ جرأة أبي هريرة في سؤال الرسول عليه الصلاة والسلام، أتاحت له أنْ يعرف كثيراً مِمَّا لم يعرفه أصحابه، فكان لا يتأخَّرُ عن أنْ يسأله عن كل ما يعرض له، حيث كان غيره لا يفعل ذلك. قال أُبَيْ بن كعب:«كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَرِيئاً عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ لَا نسَأَلُهُ عَنْهَا» (1). كما كان يسأل أصحابه الذين سبقوه إلى الإسلام.

فكان لا يتأخر عن طلب العلم، بل كان يسعى إليه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، وهو الذي يُرْوَى عنه عليه الصلاة والسلام:«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» (2). وقد رأينا أبا هريرة يحب الخير ويعمل من أجله، فما أظنه عن خير من هذا النوع، وهو الذي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلمة يعلمه إياها، ولحكمة يعظه بها.

ونراه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجالس أصحابه يسألهم ويسألونه، حتى إنه كان يأتي إلى كل من يظن عنده بعض العلم، فقد جَاءَ إِلَى كَعْبٍ يَسْأَلُ عَنْهُ. وَكَعْبٌ فِي الْقَوْمِ. فَقَالَ كَعْبٌ:«مَا تُرِيدُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي لَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكُونَ أَحْفَظَ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي» . فَقَالَ كَعْبٌ: «أَمَا إِنَّكَ لَمْ تَجِدْ طَالِبَ شَيْءٍ إِلا سَيَشْبَعُ مِنْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ إِلا طَالِبَ عِلْمٍ أَوْ طَالِبَ دُنْيَا» . فَقَالَ: «أَنْتَ كَعْبٌ؟» . فَقَالَ: «نَعَمْ» . فَقَالَ: «لِمِثْلِ هَذَا جِئْتُكَ» (3).

وَلَقِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ كَعْبَ الأَحُبَارِ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ، وَيَسْأَلُهُ، فَقَالَ كَعْبٌ:«مَا رَأَيْتُ أَحَداً لَمْ يَقْرَأِ التَّوْرَاةَ أَعْلَمَ بِمَا فِيْهَا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» .

وكان أبو هريرة واسع العلم كثير الحديث، يُحَدِّثُ إخوانه وطلابه،

(1)" سير أعلام النبلاء ": ص 451، جـ 2.

(2)

" مسند الإمام أحمد ": ص 180، جـ 2، رقم 7193 ورواه الشيخان.

(3)

" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 57. و " سنن الدارمي ": ص 86، جـ 1. وكعب تابعي عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، توفي سَنَة َ 32 هـ.

(4)

" سير أعلام النبلاء ": ص 432، جـ 2.

ص: 121

وَقَدْ يَقُوْلُ لَهُمْ: «رُبَّ كِيْسٍ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَفْتَحْهُ - يَعْنِي: مِنَ العِلْمِ -» (1).

وقال أبو هريرة: «حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ» (2).

وَكَانَ يَقُولُ: «لَوْ أَنْبَأْتُكُمْ بِكُلِّ مَا أَعْلَمُ لَرَمَانِي النَّاسُ بِالْخَرْقِ وَقَالُوا أَبُو هُرَيْرَةَ مَجْنُونٌ» (3). وفي رواية: «لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا فِي جَوْفِي لَرَمَيْتُمُونِي بِالْبَعْرِ» . وَقَالَ الْحَسَنُ - رَوِاي الحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -: «صَدَقَ وَاللَّهِ .. لَوْ أَخْبَرَنَا أَنَّ بَيْتَ اللَّهِ يُهْدَمُ وَيُحْرَقُ مَا صَدَّقَهُ النَّاسُ» (4).

وفي رواية قال: «يَقُولُونَ أَكْثَرْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَنْ لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَرَمَيْتُمُونِي بِالْقَشْعِ - يَعْنِي بِالْمَزَابِلِ - ثُمَّ مَا نَاظَرْتُمُونِي» (5).

وأبو هريرة في هذا لا يكتم علماً ينتفع به، ويشهد على ذلك قوله السابق «مَنْ كَتَمَ عِلْماً يُنْتَفَعُ بِهِ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، وهو الذي قال:«لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ» (6).

مِمَّا سبق يتبيَّنُ لنا أنَّ أبا هريرة قد بَثَّ في الناس وعاء مِمَّا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبث الوعاء الآخر خوفاً من أنْ يُكَذِّبَهُ الناس، أو يرموه بالقشع، أو يتهموه بالجنون .. وإنَّ المرء ليتساءل عن ذلك الوعاء الذي يحفظه أبو هريرة، ولا يُحدِّثُ منه، فما هو ذلك العلم الذي لم يبثه أبو هريرة؟ وترى هل خَصَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم دون الأُمَّة بذلك؟ نفهم من حديث أبي هريرة أنَّ الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حَمَّلَهُ نوعين من العلم، كل نوع لو كتبه إنسان لكان جراباً كبيراً،

(1) المرجع السابق: ص 430، جـ 2 رواه محمد بن راشد عن مكحول.

(2)

" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 57 و 2: 2/ 118. و " فتح الباري ": ص 227، جـ 1. و " حلية الأولياء ": ص 381، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 105، جـ 8. و " تذكرة الحُفاظ ": ص 34، جـ 1. و " سير أعلام النبلاء ": ص 430، جـ 2.

(3)

" طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2، جـ 4 و ص 119 قسم 2، جـ 2. والتخرق لغة التخلق من الكذب.

(4 و 5)" طبقات ابن سعد ": ص 57 قسم 2، جـ 4 و ص 119 قسم 2، جـ 2.

(6)

" فتح الباري ": ص 224، جـ 1. وانظر " مسند الإما أحمد ": ص 270، جـ 12.

ص: 122

أحدهما بثه والثاني لم يبثثه، أما أنْ يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اخْتَصَّ أبا هريرة بشيء من الأحكام، فغير معقول، لأنه ينافي تبليغ الرسالة، وأمر الله عز وجل في قوله:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (1).

وهل ما اختصه به من الآداب؟ فبعيد جداً لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ومنعه ذلك عن الأمَّة ينافي تبليغ الرسالة أيضاً، فليس من المتصور أنْ يلقن الرسول الكريم، بعض ما يتعلق بالأخلاق والآداب أبا هريرة، ويترك الأمَّة من غير أنْ يفيدها بشيء من هذا، من هنا يتأكد لنا أنَّ الوعاء الثاني الذي لم يبثثه أبو هريرة لم يكن فيه ما يتعلق بالأحكام ولا بالآداب والأخلاق ويُرَجَّحُ أنْ يكون بعض ما يتعلق بأشراط الساعة، أو بعض ما يقع للأمَّة من فتن، وما يليها من أمراء السوء، وَيُقَوِّي هذا عندي أنَّ أبا هريرة، كان يكني عن بعض ذلك، ولا يصرِّحُ به خوفاً على نفسه مِمَّنْ يسيئه ما يقوله كقوله:«أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السِّتِّينَ، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» (2) وقوله: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ» (3). كما كان يدعو «اللَّهُمَّ لَا تُدْرِكْنِي سَنَةُ سِتِّينَ» (4).

ولا بد من أنْ نُنَبِّهَ إلى أنه ليس في حديث أبي هريرة هذا، أي دليل على أنَّ للدين ظاهراً وباطناً، ولا يجوز لأحد أنْ يتَّخذه ذريعة لذلك، حتى ينتهي إلى التحلل من الدين ومخالفة أوامره.

وقد حرص أبو هريرة على أنْ يُحَدِّثَ الناس بما يعرفون، حتى لا يكذِّب اللهَ ورسولَهُ، إذا أخبر القوم بما لا تتصوَّره عقولهم (5)، وقد

(1)[المائدة: 67].

(2 و 3) انظر " فتح الباري ": ص 227، جـ 1، و " سير أعلام النبلاء ": ص 430، جـ 2. وانظر " البداية و النهاية ": ص 112، جـ 8. «وفيه ويلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شرٍ قَدِ اقْتَرَبَ، وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ، يَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِالْهَوَى وَيَقْتُلُونَ بِالْغَضَبِ».

(4)

انظر " ترتيب الثقات " لابن حبان: ص 171: ب، جـ 3.

(5)

من ذلك ما استشهد به ابن تيمية عن تنبُّو الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعض أمور تقع في المستقبل، وذكر منها في " الصحيحين ": «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا التُّرْكَ، صِغَارَ الأَعْيُنِ =

ص: 123