الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه الأفضلية لأبي هريرة يشكر عليها، لأنه تمسَّك بالحق وعدل عن رأيه. ثم إنَّ السيدة عائشة لم تكن معارضة لأبي هريرة دائماً بل ناصرته في مواقف كثيرة، قالت:«صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ» ، وقد مَرَّ بنا شيء من هذا في ترجمته وسَيَمُرُّ بعض ذلك فيما يلي.
…
[هـ] أبو هريرة وعبد الله بن عمر:
عَنْ عَامِرٍ بْنِ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ الله بن عُمَرَ، إِذْ طَلَعَ خَبَّابٌ صَاحِبُ المَقْصُورَةِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ الله بن عُمَرَ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أبو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لَهُ مِنْ الأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ» . فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ خَبَّابًا إِلَى عَائِشَةَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ أبي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِمَا قَالَتْ، وَأَخَذَ ابْنُ عُمَرَ قَبْضَةً مِنْ حَصَى الْمَسْجِدِ يُقَلِّبُهَا فِي يَدِهِ، حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: «صَدَقَ أبو هُرَيْرَةَ» . فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ بِالْحَصَى الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ الأَرْضَ ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ» (1).
وضاق أهل الأهواء ذَرْعاً بحديث أبي هريرة، وحاولوا جَرْحَهُ بكل وسيلة إلَاّ أنهم لم يفلحوا في ذلك. من هذا ما رواه أبو القاسم البلخي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ إِلَاّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ ، أَوْ كَلْبَ صَيْدٍ» فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ» . قَالَ: «إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» (2).
واستشهد بهذا صاحب كتاب " أبو هريرة "(3) مُستدلاًّ به على نقد الصحابة لأبي هريرة.
(1)" الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 117. رواه الشيخان. وفي رواية " البخاري " فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَكْثَرَ عَلَيْنَا أَبُو هُرَيْرَةَ» ، فَبَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلَهَا، فَصَدَّقَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ.
(2)
" قبول الأخبار ": ص 57 أورده طعناً على أبي هريرة فلم يوفق.
(3)
" أبو هريرة ": ص 277.
وذكر الأستاذ أحمد أمين هذا الحديث في معرض كلامه عن عدم توسُّع المُحَدِّثِينَ في النقد الداخلي للأحاديث، وعدم تعرُّضهم كثيراً لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع، وعدم تَعَرُّضِهِمْ كثيراً لبيئة الراوي الشخصية، وما قد يحمله منها على الوضع وهكذا
…
ثم قال: ومن هذا القبيل (1) ما يروى عن ابن عمر وساق الحديث: «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَاّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ انتََقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» قالوا: كان أبو هريرة يروي هذا الحديث هكذا «إِلَاّ كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ» فيزيد كلب زرع.
فَقِيلَ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «أَوْ كَلْبَ زَرْعٍ» . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» ، وهو نقد من ابن عمر لطيف في الباعث النفسي. وهناك أشياء منثورة من هذا القبيل، ولكنها لم تبلغ من الكثرة والعناية مبلغ النقد الخارجي» (2).
لقد تسرَّع هؤلاء في الحكم على أبي هريرة وعلى حديثه، وحملوا كلام ابن عمر على أنه طعن في أبي هريرة، والواقع غير ما ذهبوا إليه، وليس في قول ابن عمر تكذيب لأبي هريرة، فكل ما في الأمر أنَّ أبا هريرة حفظ هذا الحديث لأنَّ عنده زرعاً. وهذا ما ذهب إليه النووي في شرحه للحديث.
وقال ابن عساكر: «قَوْلٍ ابْنِ عُمَرَ هَذَا (إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا) لَمْ يُرِدْ بِهِ التُّهْمَةَ لأََبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنََّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَفِظَ ذَلِكَ لأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ، وَصَاحِبُ الحَاجَةِ أَحْفَظُ لَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا
…
أَبُو سُلَيْمَانَ أَحْمَدَ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ قَالَ: قَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَسُرُّهُ فِي قَوْلِهِ ولَمْ يُوَفَّقْ بِحُسْنِ الْظَّنِّ بِسِعَة، أَنَّ ابْنِ عُمَرَ إِنَّمَا أُخْرِجَ قَولُهُ هَذَا مَخْرَجً الْطَّعَنِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَّهُ ظَنَّ بِهِ الْتَّزَيُّدَ فِي الرِّوَايَةِ لِحَاجَةٍ كَانَتْ إِلَى حِرَاسَةٍ الزَّرْعِ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرْوِيهِ لَا يَذْكُرُ فِيْهِ كَلْبَ الزَّرْعِ، قَالَ أَبُوْ سُلَيْمَانَ:
…
وَإِنَّمَا ذَكَرَ
ابْنُ عُمَرَ هَذَا تَصْدِيْقاً لِقَوْلِ أَبِيْ هُرَيْرَةَ، وَتَحْقِيقاً لَهُ، وَدَلَّ بِهِ عَلَىَ صِحَّةِ رِوَايَتِهِ وَثُبُوْتِهَا، إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ صَدَقْتَ حَاجَتَهُ إِلَىَ شَيْءٍ كَبُرَتْ عِنَايَتُهُ بِهِ وَكَثُرَ سُؤَالُهُ عَنْهُ، يَقُولُ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ جَدِيْرٌ بِأَنْ يَكُوْنَ عِنْدَهُ هَذَا الْعِلْمُ وَأَنْ يَكُوْنَ قَدْ سَأَلَ رَسُوْلَ الْلَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ لِحَاجَةٍ كَانَتْ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ صَاحِبَ زَرْعٍ. يَدُلُّ عَلَىَ صِحَّةِ ذَلِكَ فُتْيَا ابْنِ عُمَرَ بِإِبَاحَةِ اقْتِنَاءِ كَلْبِ الزَّرْعِ بَعْدَمَا تَبِعَهُ خَبَرُ أَبِي هُرَيرَةَ» (1).
وإذا أبى الباحثون هذا التفسير، فماذا يقولون في رواية ابن عمر نفسه التي ذكر فيها كلب الزرع؟؟!!
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي الْحَكَمِ الْبَجَلِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا غَيْرَ كَلْبِ زَرْعٍ أَوْ ضَرْعٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» فَقُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: «إِنْ كَانَ فِي دَارٍ وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ؟ قَالَ: هُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ الَّذِي يَمْلِكُهَا» (2).
وفي رواية: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: «وَكَلْبَ حَرْثٍ» ؟ فَقَالَ ابْنِ عُمَرُ: «أَنَّى لأََبِِي هُرَيْرَةَ حَرْثٌ!؟» (3) فابن عمر لم يتَّهم أبا هريرة بأنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَّ عنده زرعاً، بل هذه الرواية تنفي ما ذهب إليه أحمد أمين، ومع هذا فقد ثبت عن ابن عمر قوله:«إِنَّ لأِبي هُرَيْرَةَ زَرْعًا» ولكنه لم يذهب بقوله مذهب الطاعن المُكَذِبَ بل ثبت روايته برواية أبي هريرة لأنَّ أبا هريرة حفظ تلك الرواية التي تشمل بعض أحواله.
وهذا الحديث رواه الإمام مسلم من طريق الإمام مالك، ورواه أيضاً من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وفي آخره:«قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (يَعْنِي ابْنِ عُمَرَ): قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ» ورواه من طريق
(1) ابن عساكر: ص 491 و ص 492، جـ 47.
(2)
" مسند الإمام أحمد ": ص 29، جـ 7، رقم 4813 بإسناد صحيح، وأبو الحكم البجلي هو عبد الرحمن بن أبي نعيم كوفي عابد ثقة.
(3)
" مسند الإمام أحمد ": ص 222، جـ 6، رقم 4478.