المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العرب ورسالة الإسلام: - أبو هريرة راوية الإسلام

[محمد عجاج الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌[أبو هريرة راوية الإسلام]

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة:

- ‌مقدمة الطبعة الأولى:

- ‌تمهيد:

- ‌العرب ورسالة الإسلام:

- ‌حول السُنَّة:

- ‌السُنَّة ومكانتها من القرآن الكريم:

- ‌عدالة الصحابة:

- ‌حفظ السُنَّةِ وانتشارها:

- ‌1 - الإمام البخاري (194 - 256 ه

- ‌2 - الإمام مسلم (204 - 261 ه

- ‌3 - أبو داود السجستاني (202 - 275 ه

- ‌4 - الإمام الترمذي (209 - 279 ه

- ‌5 - الإمام النَسَائِي (215 - 303 ه

- ‌6 - الإمام ابن ماجهْ (209 - 273 ه

- ‌الباب الأول: أبو هريرة:

- ‌الفصل الأول: حياته العامة:

- ‌ نسبه والتعريف به:

- ‌هيئته وأوصافه الجسمية:

- ‌نشأته قبل الإسلام:

- ‌إسلامه وهجرته:

- ‌إسلام أمه:

- ‌ملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌التزام أبي هريرة السُنَّةَ:

- ‌فقره وعفافه:

- ‌كرم أبي هريرة:

- ‌ولايته في عهد عمر رضي الله عنه

- ‌أبو هريرة وفتنة عثمان:

- ‌أبو هريرة في عهد عَلِيٍّ رضي الله عنه

- ‌أبو هريرة أمير المدينة:

- ‌أبو هريرة والجهاد في سبيل الله:

- ‌مرح أبي هريرة ومُزاحه:

- ‌مرض أبي هريرة:

- ‌وفاته:

- ‌أسرته:

- ‌الفصل الثاني: حياته العلمية:

- ‌بين يدي الفصل:

- ‌حرصه على الحديث:

- ‌أمله علم لا يُنْسَى:

- ‌مجالسه ونشره الحديث:

- ‌كثرة حديثه وسِعَةِ علمه:

- ‌حفظ أبي هريرة:

- ‌حَضُّهُ على صيانة الحديث من الكذب:

- ‌أبو هريرة والقرآن الكريم:

- ‌أبو هريرة والفتوى:

- ‌أبو هريرة والقضاء:

- ‌شيوخه ومن روى عنه:

- ‌الصحابة الذين رَوَوْا عنه:

- ‌التابعون الذين رَوَوْا عنه:

- ‌عدة ما رُوِيَ عنه من الحديث:

- ‌ نماذج من مروياته

- ‌1 - مِمَّا أخرجه الإمام مالك في " الموطأ

- ‌2 - مِمَّا أخرجه الإمام أحمد:

- ‌3 - مِمَّا رواه البخاري:

- ‌4 - مِمَّا رواه الإمام مسلم:

- ‌5 - مِمَّا رواه الإمام أبو داود:

- ‌6 - مِمَّا رواه الإمام الترمذي:

- ‌7 - مِمَّا رواه الإمام النسائي:

- ‌8 - مِمَّا رواه الإمام ابن ماجه:

- ‌أصح الطرق عن أبي هريرة:

- ‌الثناء على أبي هريرة:

- ‌الباب الثاني: الرد على الشُبه التي أثيرت حول أبي هريرة:

- ‌أبو هريرة وبعض الباحثين:

- ‌مقدمة كتاب " أبو هريرة

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - نشأته وإسلامه:

- ‌3 - على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌4 - على عهد الخليفتين:

- ‌5 - على عهد عثمان: [ص 16 - 17]:

- ‌6 - على عهد عَلِيٍّ [صفحة 21 - 26]:

- ‌7 - على عهد معاوية [صفحة 26 - 31]:

- ‌أولاً - هل تشيَّع أبو هريرة للأمويِّين

- ‌ثانياً: هل وضع أبو هريرة الأحاديث كذباً على رسول الله

- ‌موقف الصحابة من أبي هريرة:

- ‌[أ] أبو هريرة وعمر بن الخطاب:

- ‌[ب] أبو هريرة وعثمان بن عفان:

- ‌[ج] أبو هريرة وعَلِيٌّ بن أبي طالب رضي الله عنهما

- ‌[د] أبو هريرة وعائشة:

- ‌[هـ] أبو هريرة وعبد الله بن عمر:

- ‌[و] أبو هريرة وابن عباس:

- ‌[ز] أبو هريرة والزبير:

- ‌[ح] أبو هريرة ومروان بن الحكم:

- ‌هل كان أبو هريرة تلميذاً لكعب الأحبار

- ‌خاتمة:

- ‌أهم المصادر والمراجع:

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌العرب ورسالة الإسلام:

‌العرب ورسالة الإسلام:

منذ أربعة عشر قرناً، بينما كان يعيش العالم كله في ظلام فكري، وتأخر علمي، وظلم اجتماعي، أشرقت في أرض الجزيرة العربية شمس الهداية، وعلت في الأفق تطارد ذاك الظلام، تنير للعالم سبيله، وترسم له طريق التقدم والرقي والنجاح.

تلك الشمس شمس النبوة التي حملها محمداً صلى الله عليه وسلم، إذ بعثه الله عز وجل. {بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1){وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (2).

وشرفه بالرسالة السامية الخالدة، إلى الناس كافة ..

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3).

وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (4)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (5). [سبأ: 28]

وأمره أنْ يبلِّغ أحكام الإسلام وتعاليمه فقال:

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (6).

ومن فضل الله على الأمَّة العربية أنْ بعث فيهم: {رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (7).

(1)[البقرة: 119]، [فاطر: 24].

(2)

[الأحزاب: 46].

(3)

[الأعراف: 158].

(4)

[الأنبياء: 107].

(5)

[سبأ: 28].

(6)

[المائدة: 67].

(7)

[الجمعة: 2].

ص: 11

فأمره أن يدعو أهله وعشيرته، فقال:

{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1).

وقال عزَّ من قائل:

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (2).

أمره أن يدعو قومه إلى سبيل الرشاد، ليحملوا عبء تبليغ الرسالة إلى الأمم الأخرى، فيكون لهم شرف المُبَلِّغ الهادي، ويخلد اسمهم أبد الدهر، كما أراد الله للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وللأمَّة العربية التي تلقَّت الرسالة، وانطلقت تحرر العالم من الظلم والطغيان، وتوجه مركب الإنسانية إلى شاطئ السلام، وتخرجه من الظلمات إلى النور، سالكة سبيل الهداية والحق، حاملة لواء التحرير

بعد أنْ تنكب الناس الصراط المستقيم، وتخبَّطُوا في غياهب الجهالة والضلال.

إلَاّ أنَّ هداية العرب لم تكن سهلة، بل تحمل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في سبيلها المشاق الكثيرة، وأوذي في جسمه وماله، وأهله وأصحابه ووطنه، وكان يدعو ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً، ويسأل الله السداد والرشاد، متطلِّعاً إلى هداية قومه ليحملوا الرسالة ويؤدُّوا الأمانة.

لقد أوحى الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقومه على دين آبائهم، وثنية وأصنام، يسودهم النظام القبلي، وتربط بينهم صلة القرابة والدم، لا يحكمهم نظام عام، بل يخضعون للعادات والأعراف، يدفعهم الشرف والمفاخرة بالأنساب إلى المنافسة في المكارم والمروءات، يعيشون في حلقة الأسرة والقبيلة، في إطار الجزيرة العربية.

وكان لحياته تلك أثر بعيد في صفاء نفوسهم، ومحافظتهم على أمجادهم وعاداتهم، وتفانيهم في سبيل مثلهم الأعلى، حتى كانوا يسرفون في ذلك كله، فهم كرام يبذلون ما يستطيعون للضيف، فيبلغون في ذلك حد الإسراف.

(1)[الشعراء: 214، 215].

(2)

[الشورى: 7].

ص: 12

ويأبون العار ولو أدى بأعزِّ ما لديهم إلى الردى، ولهذا وَأَدُوا بناتهم خشية الفقر والزلل. ويحبون الأمجاد والبطولات فتغنَّوا بها ولكنهم ضلوا الطريق، وحرموا العقيدة الموصلة إلى ذلك، ترى العفة والكرامة من أخلاقهم، والكرم والشجاعة من سجاياهم، والحمية والثأر تسير في عروقهم، رضعوا هذا مع لبنهم، وفطروا ونشأوا عليه، فهم لا ينامون على ضيم، ولا يرضون ذلاًَّ أو هواناً، وويل لمن غضب عليه العرب، إذ كانوا يثورون لأتفه الأسباب، يكفي أنْ يستفز القبيلة فرد أهينت كرامته، فتنطلق جميعها كباراً وصغاراً تدفع عنه ما أصابه، لأنَّ كرامة الفرد من كرامة القبيلة، وإلى هذا يمكننا أنْ نردَّ أكثر الغزوات والغارات التي كانت بين القبائل قبل الإسلام.

وقد حفظت ذاكرتهم القوية أشعارهم وأنسابهم التي كانت بمثابة سجل تاريخي لهم، وكان كل ذلك من المؤهِّلات التي أعدَّتهم لحمل الرسالة الإسلامية فيما بعد.

وإذا كان العرب قد عبدوا الأوثان آنذاك، فإنهم لم يعبدوها على أنها هي الخالقة المدبرة لأمور الكون وشؤونه، بل رأوا فيها التقرب إلى الله:

{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1)

ولم تكن عقائدهم معقَّدة مركبة، كما كانت عليه عقائد سكان البلاد المجاورة من الفرس والهند والروم، بل كانوا أصفياء النفوس، ويمكننا أنْ نقول: إنَّ عندهم فراغاً عقدياً - إذا صح هذا التعبير - تستره تلك العبادات والمعتقدات الأولية، التي لم تقف على قدميها أمام عقيدة الإسلام المتماسكة الكاملة، ولهذا كان العرب يمتازون عن غيرهم من الأمم بتلك الصفات التي أهلتهم فيما بعد لأنْ يكونوا رجال الإسلام، وحملة لوائه إلى العالم.

ومع هذا لم يكن من السهل أنْ يستجيب العرب جميعاً إلى دعوة الرسول الكريم بادئ ذي بدء، إذ كان من الصعب أنْ يتركوا دين

(1)[الزمر: 3].

ص: 13

آبائهم وأجدادهم، فإذا ما دعاهم إلى الله قال له أقرب الناس إليه: تبّاً لك!! إلهذا دعوتنا؟ وأوذي صلى الله عليه وسلم في سبيل دعوته كثيراً، وقاسى الصعاب، ولم يؤمن به إلَاّ نفر قليل: زوجه، وبعض ذويه، وقليل من أهله. وكان لا يفتر عن دعوتهم، ويسخرون منه فيزداد نشاطاً وحيوية وراء أمله، ويصوِّرُهم الله في قوله:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (1)، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (2).

إلَاّ أنَّ الباطل لا يقوى أمام الحق، فسرعان ما يتقوَّض، ويظهر ضعفه، كما يتلاشى الظلام حين يكون وراءه النور الساطع.

ومضى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في دعوته، وصبر الصبر الجميل مُضْطَهَداً حيناً، مستهزَءاً به أحياناً، ومع هذا كان يتمنَّى لقومه الهداية والرشاد، فيطيب اللهُ خاطره، ويُخفِّفُ عنه، مُبيِّناً أنَّ هدايتهم بيده عز وجل، فيقول:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (3).

ويصوِّرُ الله تعالى ضيقه صلى الله عليه وسلم في سبيل هداية قومه، فيقول:

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} (4).

ويؤكِّدُ له أنه على حق، ولا بد من أنْ ينتصر، فيشحذ عزيمته بقوله عز وجل:

{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5).

(1)[البقرة: 170].

(2)

[المائدة: 104].

(3)

[القصص: 56].

(4)

[الكهف: 6].

(5)

[الزخرف: 43].

ص: 14

وهكذا بدأ الإسلام يستولي على القلوب في مكة رُويداً رُويداً، ثم انتشر بين بعض سكان يثرب (المدينة المنورة)، وازدياد إيذاء المشركين للمسلمين واضطروهم إلى هجر وطنهم فراراً بدينهم.

وفتحت المدينة المنورة صدرها رحباً للمسلمين، وبدأت الدولة الإسلامية تنتظم أمورها برياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشر خبر الإسلام في أطراف الجزيرة، ولم تمنع أضاليل المشركين العرب من الدخول في دين الله، دين العدالة والمساواة، عقيدة سهلة سامية، إيمان بالله، وطاعة لرسول الله، وعبادات تدخل السعادة والطمأنينة إلى النفوس، نظام يضبط الجماعة ويؤمِّنُ حقوق الأفراد

كل هذا جعل القبائل العربية تتهافت إلى المدينة من كل حدب وصوب، يعلنون إسلامهم، وعمَّ الإسلام الجزيرة العربية بعد الفتح الأكبر، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وانقلبت مكة والمدينة بل الجزيرة العربية إلى موطن إسلامي متماسك تنبع منه أشعة الهداية لتنير العالم.

وقد تم ذلك للرسول الكريم خلال اثنتين وعشرين سنة وبضعة أشهر.

وهكذا خرج العرب باعتناقهم هذا الدين الحنيف من نطاق القبيلة الضيق المغلق إلى صعيد الإنسانية الواسع، ومن إطار الصحراء إلى العالم الشاسع، وانقلبت رابطة الدم والقرابة إلى الأخوَّة في الدين، وانتهى نظام القبيلة وحل مكانه نظام الدولة الإسلامية في مختلف مرافق الحياة، وانتقلت حميَّتُهُم للقبيلة إلى نصرة الحق، والأخذ بيد المظلوم وإنصافه، وأصبح اعتزازهم بالإسلام وبما يقدِّمُونه من تضحيات وخدمات في سبيل ذلك بدلاً من اعتزازهم بالأنساب، واتجه حبهم للأمجاد والبطولات صعداً إلى تحقيق ما يرضي الله ورسوله، وتحوَّلت شجاعتهم وجرأتهم المحصورة في النطاق القبلي إلى شجاعة وجرأة في سبيل نشر الدين الجديد، وتحوَّلَ كرمُهُم الذي بلغ حد السرف إلى إعانة الفقراء وإغاثة الملهوفين، وتزويد الجيوش للدفاع عن معتقداتهم وعن إخوانهم في الدين، وتحرير

ص: 15

الأمم من نير العبودية إلى الحرية وعبادة إله واحد

فكان الإسلام شرفاً عظيماً لهم، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (1).

والذكر هو الشرف العظيم، وكان العرب بحق كما قال الله تعالى:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2).

يتبيَّنُ لنا مما ذكرت أنَّ هؤلاء العرب الأشدَّاء، الذين فرضت عليهم الطبيعة الصحراوية حياة خاصة، قد انطوت نفوسهم على خصال طيِّبة، وصفات كريمة، وميول سامية، وراءها دوافع قوية، وحيوية فائقة، ولكنه كان ينقصهم العقيدة الصالحة، التي تُوجِّهُهُم في هذه الحياة، وتؤثر في جميع تصرُّفاتهم، كما كان ينقصهم النظام الحسن، فما أنْ وجدوهما في الإسلام دين الحنيفية السمحة، والفطرة الصافية، حتى كانوا خير حافظ لها، بعد أنْ آمنوا بها، وتجاوبوا معها، وأصبحوا أول داعٍ إليها، ومن ثم فتحوا قلوبهم للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، وأصغوا إليه، والتفُّوا حوله ينهلون من المعين الذي لا ينضب، ويتلقَّون تعاليم الإسلام من رائده، ليقوموا بدورهم في هداية الناس جميعاً، وهكذا تضافر العامل الفطري الذي تميَّز به العرب مع العامل المكتسب الجديد (الروحي)، فظهر الرعيل الأول الذي حمل مشعل النور والحق إلى العالم، وساهم في تحرير الإنسان من عبودية الظلم والجهل والفقر، وأخذ بيده إلى سبيل السداد والرشاد، ظهر ذلك الرعيل العظيم الذي نقل القرآن الكريم والسُنَّة الطاهرة بكل أمانة وإخلاص.

بعد هذا نتكلم عن السُنَّة وتعريفها ومكانتها من القرآن الكريم، وعن الصحابة وعدالتهم بما يُمَهِّدُ لنا السبيل إلى البحث.

(1)[الزخرف: 44].

(2)

[آل عمران: 110].

ص: 16