الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هَذَا وَأَشْبَاهِهِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمًا جَمًّا وَمَقَالاً» (1).
فلم يعد مروان لمثل ذلك، بل كان يخافه ويخاف جوابه.
…
حرصه على الحديث:
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَاذَا رَدَّ إِلَيْكَ رَبُّكَ فِي الشَّفَاعَةِ؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِي، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْعِلْمِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا يَهُمُّنِي مِنَ انْقِصَافِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ (2)، أَهَمُّ عِنْدِي مِنْ تَمَامِ شَفَاعَتِي، وَشَفَاعَتِي لِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ مُخْلِصًا، يُصَدِّقُ قَلْبُهُ لِسَانَهُ، وَلِسَانُهُ قَلْبَهُ» (3)، وفي رواية:«أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَاّ الله خَالِصاً مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ» (4).
لقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه بحرصه على الحديث، فنعم تلك الشهادة، وهنيئاً لمن شهد له بذلك، وشهد بعض الصحابة بأنه كان جريئاً يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يسأله غيره، من هذا قول أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:«أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ جَرِيئًا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَشْيَاءَ لَا نَسْأَلُهُ عَنْهَا» (5).
وَكَانَ يَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ (6). وكان يُصَرِّحُ بهذا إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ
(1)" البداية والنهاية ": ص 108، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 435، جـ 2.
(2)
معنى «انْقِصَافِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ» القصف بفتح القاف وسكون الصاد المهملة ثم الفاء، هو الكسر والدفع الشديد، لفرط الزحام، حتى يقصف بعضهم بعضاً. قال ابن الأثير:«يعني استسعادم بدخول الجنة وأنْ يتم ذلك، أهم عندي من أنْ أبلغ أنا منزلة الشافعين المُشفعين، لأنَّ قبول شفاعته كرامة له. فوصولهم إلى مُبتغاهم آثر عنده من نيل هذه الكرامة، لفرط شفقته على أُمَّته» " هامش مسند الإمام أحمد ": ص 208، جـ 15.
(3)
" مسند الإمام أحمد ": ص 208، حديث 8056، جـ 15. ونحوه في " فتح الباري": ص 203، جـ 1.
(4)
" فتح الباري": ص 203، جـ 1.
(5)
ابن عساكر: ص 477، جـ 47.
(6)
أخرجه الترمذي: كتاب المناقب.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويؤكِّدُ له سروره وفرحه بحضور مجالسه صلى الله عليه وسلم.
من هذا ما رواه الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. فَقَالَ:«كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ» قَالَ: قُلْتُ: أَنْبِئْنِي عَنْ أَمْرٍ إِذَا أَخَذْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: «أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطْعِمِ الطَّعَامَ، وَصِلِ الأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، ثُمَّ ادْخُلِ الْجَنَّةَ بِسَلامٍ» (1).
لقد كان أبو هريرة يشعر بدافع داخلي ذاتي، وإحساس ضمني نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي تطيب نفسه برؤيته عليه الصلاة والسلام، وينشرح صدره لحديثه، لهذا كثيراً ما نرى أبا هريرة يبذل جهده في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه كان يحمل له الماء لقضاء حاجته، وهو في هذا كله ينهل من المعين الصافي، الكثير الطيب، يسأل الرسول تارة، ويسمع منه أخرى، ويجالسه حيناً، ويراه أحياناً؛ فيتعلم دقيق أحكام الشريعة وعظيمها، من هذا ما أخرجه أبو داود بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ، فَتَحَيَّنْتُ فِطْرَهُ بِنَبِيذٍ صَنَعْتُهُ فِي دُبَّاءٍ (2) ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِهِ فَإِذَا هُوَ يَنِشُّ (3)، فَقَالَ:«اضْرِبْ بِهَذَا الْحَائِطَ، فَإِنَّ هَذَا شَرَابُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ» . أحب أبو هريرة أنْ يقدم للرسول صلى الله عليه وسلم ساعة
(1)" مسند الإمام أحمد ": ص 72، حديث 7919، جـ 15.
(2)
الدباء: القرع، الواحدة منها دباءة. كانوا يُجَفِّفُونَ القرع ويجعلونه كالآنية.
(3)
ينش: أي يغلي من نفسه لتخمُّره.
(4)
" سنن أبي داود ": ص 301، جـ 2. كانوا يطلقون اسم النبيذ على نقيع التمر أو الزبيب، لأنهم كانوا ينبذونها في الماء ريثما يصير حلواً، عن السَيِّدَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها -عَنْ، قَالَتْ: «كُنَّا نَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي سِقَاءٍ، فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً، وَعَشِيَّةً، فَيَشْرَبُهُ غُدْوَةً». قالت: «وَكُنَّا نَغْسِلُ السِّقَاءَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً مَرَّتَيْنِ فِي اليَوْمِ» . أخرجه الخمسة والإمام مالك. انظر ص 167، جـ 2 من " تيسير الوصول ". فالنبيذ عندهم هو ما نسمِّيه «الخشاف» في عصرنا، وأما النبيذ المعروف الآن، وغيره من المسكرات فهي حرام، لا يجوز تناولها. فقد أخرج أصحاب السُنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» وغيره مِمَّا يثبت حرمة جميع المسكرات. انظر " تيسير الوصول ": ص 163، جـ 2.
الإفطار، ما يثلج صدره، ويطفئ ظمأه فصنع له (خشافاً) كهذا الذي نصنعه في رمضان من التمر والتين، إلَاّ أنَّ نبيذ (خشاف) أبي هريرة تخمَّر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرحه.
إنَّ مثل هذه الوقائع التي كانت تقع لأبي هريرة ولغيره، لا يمكن أنْ ينساها لأنها تمثل جزءًا من حياته، بل تمثِّل فترة بارزة من عمره، عاش فيها مع الرسول الكريم، ورأى بعينه، وسمع بأذنه، ووعى بقلبه. وقد شعر أبو هريرة بالسعادة تخالط نفسه، وبالإيمان يملأ قلبه لملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كثيراً ما يشكر الله تعالى على هذه النعمة فيقول:«الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَى أَبَا هُرَيْرَةَ للإِسْلام، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَّمَ أَبَا هُرَيْرَةَ الْقُرْآنَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» (1). هنيئاً لك يا أبا هريرة بهذا كله وهنيئاً لجميع المسلمين به أيضاً، بل لتهنأ الإنسانية برسول الإنسانية العظيم، وبرسالته الخالدة التي أرادها الله رحمة للعالمين.
وكان أبو هريرة من أكثر الصحابة حرصاً على الحديث، روى الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي خَمْسَ خِصَالٍ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟» قَالَ: قُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا» ثُمَّ قَالَ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» (2).
وفي الحقيقة رأينا هذا الحديث ينطبق تماماً على أبي هريرة حينما عرضنا بعض أخبار التزامه للسُنَّة، والحرص عليها، وتأسِّيه دائماً بالرسول، والامتثال لأوامره، وطبعي أنْ يكون أبو هريرة أحد أعلام الصحابة
(1)" تاريخ ابن عساكر ": ص 511، جـ 47.
(2)
" مسند الإمام أحمد ": ص 228، حديث 8081، جـ 15، وروى نحوه الترمذي وابن ماجه من عدة طرق، والبيهقي، وانظر " الجامع الكبير ": ص 16، جـ 1.