الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: بَلَى، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: " فَوُضِعَ لَهُ إِنَاءٌ
…
، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَدَهُ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ (1). وهذا الخبر صحيح يعارض الخبر السابق الضعيف. وإنَّ من الخطأ الذي لا يغتفر، أنْ ينساق المرء وراء ميوله وأهوائه، حتى ينتهي إلى ما يخالف به أصوله وسيرة قدوته. ويستشهد بما يطعن في مرشده ومعلمه، لقد ثبت تمسك عَلِيٍّ رضي الله عنه بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يعقل أنْ يخالف سُنَّة الرسول الكريم، لأنه يسيء الظن بأبي هريرة؟ لا يقول هذا أحد قط وإنْ قاله فهو من أعداء عَلِيٍّ رضي الله عنه لا من شيعته. فكان من الخير لعبد الحسين الذي يدَّعي أنه من أتباع المؤمنين أنْ يَعَضَّ على حجر، أو على جمرة حتى يحترق لسانه من أنْ يستشهد بما يخالف الحقيقة والتاريخ.
…
[د] أبو هريرة وعائشة:
لقد طال العهد بعائشة أم المؤمنين وبأبي هريرة، فاحتاج الناس إليهما كثيراً، فروى عنهما من الحديث ما لم يرو عن غيرهما، وقد كان أبو هريرة يُحَدِّثُ، فتستدرك عليه السيدة عائشة تارة، وتصدُّقه أخرى، كما كان يُحَدِّثُ مع غيره من الصحابة، فقد استدركت (2) على أبي بكر وعمر وعثمان وعَلِيٍّ، وعلى ابن عمر، وعلى أبي هريرة
…
وكل ذلك كان من باب التفاهم والسؤال عن الحديث، أو الدليل في المسألة التي يفتي بها المسؤول، كما استدرك غيرها عليها، كما أنها كانت توجه من يسألها أحياناً إلى من هو أعرف منها في تلك المسألة، وقد ثبت أنها وجَّهت من سألها عن مسح الخف إلى عَلِيٍّ رضي الله عنهما (3)، وفي كل هذا لم يشعر
(1)" مسند الإمام أحمد ": ص 49، جـ 2 رقم 625. بإسناد صحيح.
(2)
جمع الإمام بدر الدين الزركشي كتاباً في ذلك تحت عنوان " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ".
(3)
قال شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَسْحِ (على الخفين) فَقَالَتْ: «اِئْتِ عَلَيًّا فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي» قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَالَ: فَقَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلاثًا» . انظر " مسند الإمام أحمد ": 2/ 175 رقم 906 ورواه الإمام مسلم.
الصحابة بغضاضة أو حرج، لأنَّ هدفهم واحد، وهو تطبي الشريعة، وما كان الصحابة يُكَذِّبُ بعضهم بعضاً. إلَاّ أنَّ من جاء بعدهم من أهل الأهواء استغلوا ما دار بين الصحابة من النقاش العلميِّ، أو التثبت في الحديث، وجعلوا منه مادة طيبة ينفذون من خلالها إلى مآربهم، ويحقِّقُون غاياتهم. ولكنهم لم يفلحوا، لأنَّ الأمَّة لم تعدم العلماء المخلصين، والساهرين النابهين، الذي بَيَّنُوا الحق من الباطل، ووضعوا كل شيء في موضعه.
ومِمَّا أخذه النظَّام على أبي هريرة حديث: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلَا صِيَامَ لَهُ» (1) وإليكم الحديث كما رواه مسلم قال:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ (2)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، يَقُصُّ (و) يَقُولُ فِي قَصَصِهِ:«مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ» . قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ (فَذَكَرَهُ)(3) - لأَبِيهِ - فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما، فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، ثُمَّ يَصُومُ» قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ (4)، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَاّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ: قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،
(1)" تأويل مختلف الحديث ": ص 28 وقد استشهد به عَبْدُ الحُسَيْن شرف الدين في كتابه " أبو هريرة ": ص 275 واستشهد بذلك أَبُو رِيَّة في كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 165 و 176.
(2)
" صحيح مسلم بشرح النووي ": ص 220، جـ 7 وأبو بكر هو ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
(3)
في " صحيح مسلم " لم يذكر (فذكره) أثبتها من كتاب " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " وهو أسلم للسياق، انظر صفحة: 124 من المرجع المذكور.
(4)
يتبيَّنُ من عودتهم إلى مروان بن الحكم أنَّ ذلك كان في إمارته على المدينة.
قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا: فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ.
فهل هذا ينتقص من عدالة أبي هريرة؟ إنَّ عائشة وأم سلمة لم تقولا فيه شيئاً بل رَوَتَافعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصومه.
ثم إنَّ أبا هريرة عندما بَلَّغُوهُ قول عائشة وأم سلمة، تأكد منهم «أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟» ، لم يتأخَّر عن أن يقول:«هُمَا أَعْلَمُ» ويُبَيِّنُ لهم مِمَّنْ سمع ذلك. فأبو هريرة أمين في ذلك كله، إنه لم يُصَّرِّحْ في حديثه قط أنه سمع (1) ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يقص على الناس ويفتيهم، ومع هذا فإنَّ لقول أبي هريرة وجهات يمكن أنْ أبيِّنها.
أولاً: أنْ يكون قوله محمولاً على النسخ، وذلك أنَّ الجماع كان في أول الإسلام محرماً على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل أنْ يغتسل أنْ يصوم ذلك اليوم، لارتفاع الحظر، وكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل على الأمر الأول، ولم يعلم بالنسخ، فلما سمع من عائشة وأم سلمة صار إليه (2).
ثانياً: أنْ يكون حديث أبي هريرة هذا خاصاً بمن تجنَّب من الجماع
(1) لقد روى هذا الحديث وما في معناه من طرق أخرى عنه، مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيها أنه سمعه من الفضل، وكلها بمعنى («مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ» .
فتحتمل تلك الرويات على أنها لا صوم كامل لمن أدركه الفجر وهو جنب، أو أنه مما نسخ كما هو مُبَيَّنٌ في المناقشة، ورفعه تارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم رفعه أخرى لا يطعن فيه لأنهم أحياناً لا يذكرون الإسناد، ولم يكن بعضهم يُكَذِّبُ بعضاً، فإذا سئل صحابي مِمَّنْ سمعت قول كذا؟ عزاه من غير تردُّدٍ
…
وإن كان فيه رأياً بيَّنَهُ، وكانوا أورع من أنْ يكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2)
" الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 125 وهو قول ابن المنذر، ويروى أنه أحسن ما سمع في ذلك، وانظر " أخبار أهل الرسوخ في الفقه والتحديث بمقدار المنسوخ من الحديث ": ص 29.
بعد طلوع الفجر فإنه يؤمر بالإمساك، ولا يعتدُّ له بصوم ذلك اليوم (1).
ثالثاً: حمل حديث أبي هريرة على كمال الصوم، وأنه إرشاد إلى الافضل وهو الاغتسال قبل الفجر، وقد تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك في حديث عائشة وأم سلمة، لبيان الجواز (2).
وبالرأي الأول أقول وإليه أذهب، وإني أراه أقوى الأوجه علماً بأنَّ الرأي الثالث يوفق بين الحديثين من غير أنْ يكون هناك ناسخ ومنسوخ. ذلك هو الحديث ووجهه، إلَاّ أنَّ أَبَا رِيَّة، بعد أنْ ذكر قول عائشة رضي الله عنها، ورجوع أبي هريرة. قال:«فلم يسعه إزاء ذلك إلَاّ الإذعان والاستحذاء!! وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعته من الفضل بن العباس، فاستشهد ميتاً، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن قتيبة في " تأويل مختلف الحديث "» (3).
نأخذ على أَبِي رِيَّة في هذا التعليق أمرين:
الأول: لم يستشهد أبو هريرة ميتاً بل ثبت أنه عزا الحديث إلى الفضل بن العباس، وإلى أسامة بن زيد (4)، في رواية. وأسامة بن زيد توفي سَنَةَ [54] وفي قول [58 أو 59] والحادثة وقعت في ولاية مروان على المدينة، وكانت قبل سنة [57]، فمن المحتمل أنْ تكون وقعت في حياة أسامة بن زيد قبل سَنَةِ [54]، وإن كانت وفاته على الرواية الثانية فإنها تؤكِّدُ لنا وقوع الحادثة في حياة أسامة، فلا يكون أبو هريرة قد استشهد ميتاً، كما قال أَبُو رِيَّة.
الثاني: أنَّ أَبَا رِيَّة عزا الرواية إلى ابن قتيبة، إلَاّ أنَّ القائل هو النَظَّام،
(1)" الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 126. و " أخبار أهل الرسوخ: ص 29 أي كمن طلع عليه الفجر وهو يجامع.
(2)
" الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 126.
(3)
" أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 168.
(4)
شهد بذلك أَبُو رِيَّة نفسه، انظر هامش صفحة [168] من كتابه " أضواء على السُنَّة المحمدية ".
وابن قتيبة بريء من أنْ يفتري على أبي هريرة، إنما ساق قول النَظَّام ليرد عليه:(انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 28) ومن يتهاون في نسبة الآراء إلى أصحابها على هذا النحو - هل يؤتمن في قول؟ أو يقبل قدحه في أبي هريرة؟!.
وأما قول مروان لعبد لرحمن: «عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَاّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ» . فإنَّ مروان يريد أنْ ينتقم ويثأر لنفسه من أبي هريرة، الذي رَدَّ عليه رَدًّا مُفحماً، حين عارض في دفن الحسن إلى جوار جده، ولعله أراد أنْ يرده إلى الصواب والحق.
وليس في كل ما سبق ذكره أي دليل على تكذيب أبي هريرة رضي الله عنه، ومنها أنه روى حديثاً في النهي عن المشي بالخف الواحد فبلغ ذلك عائشة فمشت بخف واحد، وقالت:«لأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (1).
فالحديث احتجَّ به النظَّام ليطعن في أبي هريرة، وَرَدَّ ابن قتيبة عليه افتراءه. وقد ذكر أبو القاسم البلخي هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها دخلت في خفها حسكة فمشت في خف واحد وقالت: «لأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
…
إِنَّهُ يَقُولُ لَا يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَا خُفٍّ وَاحِدٍ» (2).
هذه الرواية تبيِّنُ سبب مشيها في الخف الواحد. وأما قولها: «لأُحَنِّثَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» فإنه لا يتجاوز باب المزاح والمرح، الذي عُرِفَ به الصحابة.
وقد أخرج حديث (النهي عن المشي في خف أو نعل واحدة) الشيخان، كما رواه مسلم عن جابر. ورواه الإمام أحمد عن أبي هريرة (3).
ويُرْوَى عن عائشة من طريق مندل بن علي بن ليث بن أبي سليم: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ (4) نَعْلِهِ فَمَشَى فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ» ، ومندل وليث ضعيفان لا حُجَّة فيما نقلا منفردين (5).
(1)" أبو هريرة ": ص 274 عن " تأويل مختلف الحديث ": ص 27.
(2)
" قبول الأخبار ": ص 57 و 59.
(3)
" مسند الإمام أحمد ": ص 69، جـ 13 رقم 7343 بإسناد صحيح وانظر الهامش.
(4)
الشسع: أحد سيور النعل.
(5)
" الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 140.
وقد رُوِيَ عنها أنها مشت في خف واحد وقالت: «لأُخُشَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ» (1) فعائشة لم تُكَذِّبْ أبا هريرة، وإنْ صحَّ عنها ما روي من مخالفته فهو مجرد رأي، والرأي لا يعارض السُنن، ثم إنَّ أبا هريرة لم يتفرَّدْ بالحديث.
ومن هذا ما رواه ابن شهاب أنَّ عُروة بن الزبير حدَّثه أنَّ عائشة قالت: «أَلَا يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ؟ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي، يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُسْمِعُنِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ أُسَبِّحُ (2) فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ» (3) كأنها تنتقد أبا هريرة في سرعة إلقائه وعدم تَرَيُّثِهِ.
إنَّ إنكار عائشة رضي الله عنها على أبي هريرة لم يكن مُوَجَّهاً إلى ما يُحَدِّثُ به، إنما أنكرت عليه أنْ يسرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويظهر هذا فيما رُوِيَ عنها: إِنَّمَا «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ حَدِيثًا، لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ» (4).
ولو أنكرت عائشة عليه غير سرده للحديث لقالت وبيَّنَتْ، وهي الجريئة الصريحة، فأبو هريرة لم يَكْذِبْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يخطئ أثناء تحديثه حتى تُكَذِّبَهُ عائشة، فكل ما كان منه أنه كان يسرد الحديث ويكثر منه في مجلسه، فأي شيء يضير أبا هريرة إذا كان مُتَيَقِّظاَ متنبِّهاً عارفاً لما يروي؟!.
قال أبو حاتم بن حبان: «قَوْلُ عَائِشَةَ: " لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ " أَرَادَتْ بِهِ سَرْدَ
(1) أَخُشَنَّ من خَشَشْتُ فلاناً: شنأته ولمته في خفاء.
(2)
معنى أسبح: أي أصلِّي النافلة، وهي السُبحة، قيل المراد هنا صلاة الضُحى. انظر " فتح الباري ":ص 390، جـ 7.
(3)
" الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 135 وأخرجه مسلم في «باب ما يستحبُّ للمرء من ترك سرد الأحاديث» : ص 1940 حديث 2493، جـ 4. و " فتح الباري ": ص 390، جـ 7.
(4)
" فتح الباري ": ص 389، جـ 7.
الْحَدِيثِ لَا الحَدِيثَ نَفْسَهُ» (1). قال ابن حجر: واعتذر «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ فَكَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَهَلِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحْدِيثِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ أُرِيدُ أَنْ أَقْتَصِرَ فَتَتَزَاحَمُ الْقَوَافِي عَلَى فِيَّ» (2).
ومن العجيب أنَّ بعض الكُتَّابِ الذين ناصبوا أبا هريرة العداء، يستشهدون ببعض الأخبار الضعيفة أو الثابتة التي تدل على خلاف بين أبي هريرة والصحابة، ولا يتعرَّضون للروايات التي تُبَيِّنُ صدقه وأمانته وثناء الصحابة عليه، فهم دائماً ينظرون إليه من جانب واحد ويتناسون الجانب الآخر الذي يُبَيِّنُ علمه ومنزلته بين أصحابه. وجميع ما استشكله هؤلاء قد أجيب عنه إجابة علمية مقنعة، ولولا ضيق المقام، لذكرت جميع ما دار بين عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما، فحديث «إِنَّمَا الطِّيَرَةُ فِي الْمَرْأَةِ» حَلَّلَهُ وأجاب عنه الزركشي وبَيَّنَ الأحاديث المروية في ذلك وبَيَّنَ أنَّ أبا هريرة لم ينفرد به، بل ذكر أيضاً ما يعارضه وبَيَّنَ أنه لا مأخذ على أبي هريرة (3) كما بَيَّنَ قول أبي هريرة «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا اغْتَسَلَ وَمَنْ حَمَلَهُ تَوَضَّأَ» (4).
ولا بد لي من أنْ أُنْهِي هذه الفقرة عن موقف عائشة من أبي هريرة بمناقشة صاحب كتاب " أضواء على السُنَّة " فيما قاله، قال: «ولما قالت له (لأبي هريرة) عائشة: إنك لتُحَدِّثُ حديثاً ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أجابها بجواب لا أدب فيه، ولا وقار: إذ قال لها - كما رواه ابن سعد والبخاري وابن كثير وغيرهم: شغلك عنه صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة! وفي رواية - ما كانت تشغلني
(1)" صحيح ابن حبان ": ص 261، جـ 1، وإلى هذا ذهب ابن كثير، انظر " البداية والنهاية ": ص 107، جـ 7.
(2)
" فتح الباري ": ص 390، جـ 7.
(3)
انظر " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 125 - 129.
(4)
انظر " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ": ص 125 - 126.
عنه المكحلة والخضاب ولكن أرى ذلك شغلك!!! على أنه لم يلبث أنْ عاد فشهد بأنها أعلم منه وأنَّ المرآة والمكحلة لم يشغلاها» (1).
إنَّ القصة التي يشير إليها الكاتب رواها ابن سعد عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: «إِنَّكَ لَتُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ» . فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «يَا أُمَّهْ! طَلَبْتُهَا وَشَغَلَكِ عَنْهَا الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَمَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْهَا شَيْءٌ» (2).
وروى الذهبي القصة من طريق إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: دَخَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهُ:«أَكْثَرْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ» . قَالَ: «إِيْ - وَاللهِ - يَا أُمَّاهُ، مَا كَانَتْ تَشْغَلُنِي عَنْهُ المِرْآةُ وَلَا المُكْحُلَةُ وَلَا الدُّهْنُ» . قَالَتْ: «لَعَلَّهُ» (3). وروى نحو هذا ابن عساكر وابن كثير (4).
هل خرج أبو هريرة عن حدود الأدب مع السيِّدة عائشة رضي الله عنها!؟ إنه يدافع عن نفسه عندما استكثرت ما يُحَدِّثُ به، فبيَّن لها أنه كان يطلب الحديث وأنها شغلت عما استكثرته من أبي هريرة بحياتها المنزلية، وهو شأن كل امرأة في بيت الزوجية، عليها مسؤوليات كثيرة لا تتيح لها أنْ تسير مع زوجها في كل مكان، أو ترافقه في جميع أنواع حياته.
(1)" أضواء على السُنَّة المحمدية ": ص 166 - 167.
(2)
" طبقات ابن سعد ": 2: 2/ 119 وإسناده عن الوليد بن عطاء بن الأغر وأحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي المَكِّيَانِ. قالَا أخبرنا عمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جده. وهؤلاء كلهم ثقات: الوليد بن عطاء ذكره ابن حبان في " الثقات ". " تهذيب التهذيب ": 11/ 142، وأحمد بن محمد بن الوليد ثقة:" تهذيب التهذيب ": 1/ 79، عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية روى عن جده (سعيد بن عمرو) ثقة:" تهذيب التهذيب ": 8/ 118 ونحوه بإسناد آخر من طريق عمرو بن يحيى أيضاً: " المحدث الفاصل ": ص 133: ب.
(3)
" سير أعلام النبلاء ": ص 435، جـ 2.
(4)
انظر " تاريخ دمشق ":ص 497، جـ 47، و " البداية والنهاية ": ص 108، جـ 8.
فلم تُكَذِّبْهُ السيِّدة أم المؤمنين، بل قالت:«لَعَلَّهُ» . ونرى الروايات تعيد الضمير في قوله: (شغلك عنه) إلى كثرة الحديث ولكن أَبَا رِيَّةَ أعاده للرسول صلى الله عليه وسلم، لِيُصَوِّرَ شناعة قول أبي هريرة وكيف رأى أدبه خروجاً على الأدب والوقار؟ وهذا لا يليق بالبحث العلمي.
أما قوله بعد ذلك (أنه لم يثبت أنْ عاد فشه بأنها أعلم منه). فهذا غير صحيح ولا يقوله إلَاّ متحامل، لأنه لا يوجد أي تعارض بين الروايتين، فهذه القصة تتناول حفظ أبي هريرة وكثرة حديثه، ولم يتراجع أبو هريرة عما رواه، بل سَمِعَتْ منه عائشة دفاعه عن نفسه واقتنعت بما قال.
وهناك ما يثبت أنَّ السيِّدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لم تنكر على أبي هريرة رضي الله عنه كثرة ما يَرْوِي بل صَدَّقَتْهُ، فقد روى الرامهرمزي بسنده عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ:«أَدْنُوهُ مِنِّي» ، فَأَدْنُوهُ فَقَالَتْ:«أَذَكَّرْتَنِي شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ (1).
وأما القصة الثانية «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ» وتراجع أبي هريرة فقد بيَّنتُ فيما سبق وجهتها، ولا شك أنَّ عائشة أعلم بهذا منه، لأنَّ هذا خاص لم يطَّلِعْ عليه أبو هريرة، فهل في دعوته عن رأيه تكذيب من عائشة له؟ ثم من تعمق في البحث يجد أنَّ أبا هريرة عاد عن فتواه التي بناها على ما أخبره به الفضل بن العباس في رواية وأسامة بن زيد في رواية أخرى. وأنَّ رجوعه هذا لم يكن رجُوعاً عن حديث حَدَّثَ به (2).
(1)" المحدث الفاصل " بتحقيقي ف 748.
(2)
ومِمَّا ذكره المؤلف ص [276] والطاعنون على أبي هريرة: (أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَتَى اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الإِنَاءِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ». فأنكرت عائشة عليه، فلم تأخذ به وقالت: «كَيْفَ نَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟» ليست عائشة بل أحد أصحاب عبد الله بن مسعود واسمه (قين الأشجعي) وقد ذكر الدكتور مصطفى السباعي تحقيقه في ذلك وأورد أقوال العلماء في كتابه " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي " الصفحة: 285 - 287.