الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحقوقه الاجتماعية - أقول هذا بِغَضِّ الطرف عن مكانه وشرف الصُحبة - والحكم على إنسان مهما كان شأنه صعب يحتاج إلى روية، وبحث وتنقيب، وعقل وتفكير، لأننا إذا طعنَّا فيه يعني ذلك أننا حرمناه من جميع حقوقه الاجتماعية، والثقافية والسياسية وغيرها، ورفضنا كل ما يصدر عنه وتركنا كل ما رواه أو قاله، وإنْ حكمنا بعدالته نكون قد اعترفنا له بكل حقوقه وأقررنا وقبلنا مروياته، ولهذا وجب علينا أنْ نتجرَّد، لنرضي الله ونكون مع الحق الذي أمرنا باتِّباعه وتطبيقه، وإنْ كان في هذا غضب أصحاب الأهواء والغايات.
…
2 - نشأته وإسلامه:
قال الكاتب: «نشأ في مسقط رأسه (اليمن) وشب ثمة حتى أناف على الثلاثين، جاهلياً لا يستضئ بنور بصيرة، ولا يقدح بزناد فهم، صعلوكاً قد أخمله الدهر ويتيماً أزرى به الفقر، يخدم هذا وذاك وتي وتلك، مؤجراً نفسه بطعام بطنه حافياً عارياً. راضياً بهذا الهوان
…
»
أترك القارئ الأمين يحكم على هذا النص ويستنتج منه روح ونفسية الكاتب الذي وضع نفسه قاضياً أو حَكَماً لينصف الإسلام في شخصية أبي هريرة، ويضع أبا هريرة حيث يليق به.
أيها الناس .. هل من إنسان متجرِّد للحق وحده يقبل أنْ يقال في أبي هريرة هذا .. بعد أنْ رأى الصورة الصادقة التي لم يخالطها هوى، أو تعتريها رغبات نفس حقودة، أو طائفية موروثة!!؟؟.
نحن نقبل الذوق الفني والقياس العلمي الذي ادَّعَاهُ الكاتب في مقدمة كتابه، فنقول: متى كان الجهل يسقط العدالة؟ وهل كان جميع الناس في الجاهلية متعلِّمين أو علماء؟ ألم يكن كثير من الصحابة أُمِيِّينَ جاهلين قبل الإسلام فشرح الله صدورهم للإيمان، وثبته في قلوبهم، فغدوا سادات زمانهم، وعلماء عصرهم، وأساتذة أُمَّتِهِمْ.
وغريب كيف استنتج هذا الكاتب عدم فهم أبي هريرة؟ هل استعمل معه مقاييس الحفظ والذكاء؟ أم أنَّ هذا قدح ضمير وتحليق خبير؟ أم أنه إبداع بلا تفكير!!؟.
وما يضر أبا هريرة إذا لم ينتشر صيته في الآفاق، وهل كان وحده كذلك أم أنَّ أبا بكر وعمر وعثمان وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وأكثر الصحابة كانوا غير معروفين قبل الإسلام؟ وهل يجرؤ امرؤ أنْ يسلب عدالة هؤلاء وغيرهم لأنَّ شهرتهم لم تطر في مشارق الأرض ومغاربها قبل أنْ يكونوا مسلمين؟. أما أنه يرمي أبا هريرة بالتصعلك فهذا ما لا نرضاه منه ولا من غيره، فإن كان يريد بها ما يفهمه عوام عصرنا، من الدناءة والخِسَّةِ وانحطاط القدر والتطفُّل، فيكون قد حكم عليه من غير دليل ولا حُجَّةٍ، وإنْ كان يريد بها الفقر والفاقة - وهو المعنى اللغوي - فلا داعي لتكرار كلمة (الفقر) ثانية في جملة واحدة، وهذا لا يليق بمن يتصدَّرُ لكتابة والحكم، لأنَّ في الإطالة ما يصدُّ النفس، ويسيء إلى الذوق، والكاتب لا يحب أنْ يجرح أذواق قُرَّائِهِ، لأنه يحب الذوق الفني السليم، فتعيَّنَ أنَّ مراده المعنى الأول، وهو أَمَرُّ وَأَدْهَى.
أجل .. لم يكن أبو هريرة غنياً، ولا أرستقراطياً، إنه أحد ملايين الفقراء الذين عاشوا كراماً رغم الفاقة والحرمان. ومتى كان الفقر رذيلة أو عاراً؟ إننا لم نسمع في عصر من العصور بسقوط عدالة إنسان، أو احتقاره بسبب فقره، وأنَّ مثل هذا الحُكم لا يصدر إلَاّ في بيئة مادية، يعيش أبناؤها مُتْرَفِينَ مُبَذِرِينَ .. أو في مجتمع تحكمت به عادات الأرستقراطية وحفنة أعرافها وتقاليدها ..
وما كنا نظن أنْ يحكم الكاتب على أبي هريرة بالمهانة والازدراي لكونه فقيراً، لأننا على علم يقين بأنه ليس واحداً مِمَّنْ ذكرنا، وهو الذي قال في مقدمة كتابه:«إنما يحكم بما أمر الله ورسوله، ويتبع في بحثه الحق» ، فعلى أيِّ أساس بنى حكمه هذا!!؟ أو السُنَّة ما يجعل الفقر عيباً أو عاراً؟ .. كَلَاّ .. فها هو يجانب المنهج العلميَّ الذي وضعه لنفسه.
ثُمَّ هل في عمل أبي هريرة وسعيه - كي لا يكون عالةً على قومه - عيبٌ؟ وهل كان العمل في يوم من الأيام عاراً؟.
وأغرب من هذا أنه يأخذ على أبي هريرة (حفاه) ويَدّعِي (عُرْيَهُ) راضياً بهذا الهوان.
أقول هل كان جميع الناس ينتعلون الأحذية والنعال؟ ومتى كان مقياس العدالة الانتعال أو عدمه؟ ونحن في القرن العشرين ما سمعنا في يوم من الأيام بسقوط عدالة حاف، أو ثبوت عدالة منتعل!! والحُفاة كثيرون. فالناس سواء حفاتُهُم ومنتعلوهم، وإنما المفاضلة في التقوى وحُسْن الخُلُق، كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1).
وإني لأعجب من ادِّعائه (عُرْيَ) أبي هريرة، وأتساءل كيف استنتج هذا؟ ومن نقل إليه ذلك؟. ثم هل في كل ما سبق هوان وذُلٌّ لأبي هريرة رضي الله عنه.
ثم يقول الكاتب: «لكن لما أظهر الله أمر نبيه صلى الله عليه وآله في المدينة الطيِّبة بعد بَدْرٍ وَأُحُدْ والأحزاب وبعد اللتيا والتي. لم يكن لهذا البائس المسكين حينئذ مذهب عن باب رسول الله صلى الله عليه وآله فهاجر إليه بعد فتح خيبر فبايعه على الاسلام. وكان ذلك سَنَةَ سبع للهجرة بانفاق أهل الاخبار.
أما صحبته فقد صَرَّحَ أبو هريرة ـ في حديث أخرجه البخاري ـ بأنها كانت ثلاث سنين» [صفحة: 5].
لقد سبق أنْ بَيَّنْتُ أنَّ الفقر والمسكنة لا يحطان من قدر المرء ومكانته إلَاّ عند من أعمت المادة قلوبهم، ولم يكن دخول الجنة مشروطاً باللُّبس والبذخ. «رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ» (2).
ولعل المؤلف يَرُدُّ هذا الحديث لأنَّ راويه أبو هريرة.
ثم أنَّ أبا هريرة أسلم قبل خيبر على يد الطفيل بن عمرو (3) وإنما هاجر
(1)[الحجرات: 13].
(2)
" صحيح مسلم ": 4/ 2024 و 2191.
(3)
" الإصابة ": 3/ 287 وانظر في هذا الكتاب «إسلامه وهجرته» .
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام فتح خيبر، فأكرمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأسهم له كما في إحدى الروايات، وأشار أبو هريرة حينذاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يقسم لأبان بن سعيد بن العاص، لأنه قاتل ابن قوقل (1). وابن قوقل هو النعمان صحابي استشهد يوم أُحُدْ. فهذا دليل على أنَّ أبا هريرة كان قد أسلم قبل خيبر وكان يتتبَّعُ أخبار المسلمين قبل هجرته إلى المدينة، وأنه من ذوي الرأي يتقدَّمُون به غلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو سلَّمنا جدلاً بأنه أسلم يوم خيبر، أنعيبُ عليه إسلامه هذا؟ ألم يُسْلِمْ بعد خيبر خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وغيرهم؟.
وأما صُحبته ثلاث سنوات كما قال أبو هريرة نفسه، فهذا من باب التقريب لا من باب الحصر، فأبو هريرة لم يعلم أنه سيأتي في آخر الزمان من يُحْصِي عليه أيام صُحْبَتِهِ، ويتتبَّعَ مَنَاقِصَهُ ويزدريه لفقره، ويرى في هذا لوناً من الهوان والذُلِّ. وإذا عرفنا أنَّ غزوة خيبر كانت في (مُحَرَّمْ) من السَنَةِ السابعة، أيْ في أول تلك السَنَةِ واستمرَّت الغزوة نحو ثلاثين يوماً، وأنَّ أبا هريرة قدم المدينة على أشهر الروايات أيام فتح خيبر، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبها أي في العشر الأول في صفر، وأنَّ وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت يوم الاثنين (13 ربيع أول سنة 11 للهجرة الموافق 8 يونيو سنة 633 م)(2) - إذا عرفنا ذلك - تَبَيَّنَ أنَّ أبا هريرة قد تشرَّف بصُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع سنوات وثلاثة وثلاثين يوماً. وإذا أراد أبو هريرة من تصرحه بالسنوات الثلاث الحصر، يكون قد رفع من صُحبته وملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم ما قضاه في البحرين مع العلاء بن الحضرمي سَنَةَ ثمانٍ للهجرة.
…
(1)" فتح الباري ": 6/ 281 و " البخاري بشرح السندي ": 3/ 55.
(2)
نور اليقين: ص 274.