الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ستاً فأنْ كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، فلذلك أتمنى الموت، أخاف أنْ يدركني: إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون الدم، وقطعت الأرحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشء يتَّخذون القرآن مزامير (1).
ولم يكن نصحه للناس فقط، بل كان يطبِّق هذا على نفسه وأهله، من ذلك أنَّ ابنته كانت تقول له: «يَا أَبَتِ
…
إِنَّ البَنَاتَ يُعَيِّرْنَنِي، يَقُلْنَ: لِمَ لَا يُحَلِّيكِ أَبُوكِ بِالذَّهَبِ؟»، فيقول:«يَا بَنَيَّةَ .. قُولِي لَهُنََّّ: إِنَّ أَبِي يَخْشَى عَلَيَّ حَرَّ اللَّهَبِ» (2). وأخباره في هذا الباب كثيرة، وأختم تمسُّكه بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما رواه سعيد بن المسيب عنه، قال: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ» (3).
…
فقره وعفافه:
كان أبو هريرة أحد أعلام الفقراء والمساكين، صبر على الفقر الشديد، حتى أنه كان يلصق بطنه بالحصى من الجوع، يطوي نهاره وليله من غير أنْ يجد ما يقيم صلبه، يروي أبو هريرة عن نفسه فيقول:«إِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِشَبَعِ بَطْنِي، حَتَّى لَاآكُلَ الخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسَ الحَبِيرَ، وَلَا يَخْدِمُنِي فُلَانٌ وَفُلَانَةٌ، وَإِنْ كُنْتُ لَاسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الآيَةَ مِنْ كِتَاِب اللهِ هِيَ مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي» (4)، ويقول: «وَكُنْتُ فِي سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الصُفَّةِ
(1)" حلية الأولياء ": ص 384، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 113، جـ 1. الجِلاوزة، بكسر الجيم: الشرطة. مفردها الجلواز: الشرطي. " القاموس المحيط " مادة (جلز).
(2)
" حلية الأولياء ": ص 380 جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 111، جـ 8.
(3)
" مسند الإمام أحمد ": ص 207، جـ 12، رقم 7217 بإسناد صحيح. واللابة: الحرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود الكثيرة. ما ذرعتها: ما أفزعتها.
(4)
" فتح الباري ": ص 77، جـ 8. وانظر " حلية الأولياء ": ص 376 و 379 جـ 1. وفي " صحيح البخاري ": في الاستئذان «إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ». والحبير - بفتح الحاء - من البرد ما كان مُوَشَّى مخطَّطاً، يقال بُرْدٌ حبير، وبُرْدٌ حِبِرَةٌ بوزن عنبة.
ما منهم رجل عليه رداء، إما بُرْدَةٌ، أو كساء قد ربطوها في أعناقهم (1). ويشتدُّ بهم الألم من الجوع، فيخرج من بيته إلى المسجد، لا يخرجه إلَاّ الجوع، فيجد نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ .. مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَيَقُولُ: «مَا أَخْرَجَنِي إِلَاّ الْجُوعُ» . فَقَالُوا: نَحْنُ وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنَا إِلَاّ الْجُوعُ. يقول أبو هريرة: فَقُمْنَا فَدَخَلْنَا عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا جَاءَ بِكُمْ هَذِهِ السَّاعَةَ؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ بِنَا الْجُوعُ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِطَبَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا تَمْرَتَيْنِ فَقَالَ: «كُلُوا هَاتَيْنِ التَّمْرَتَيْنِ وَاشْرَبُوا عَلَيْهِمَا مِنَ الْمَاءِ فَإِنَّهُمَا سَتَجْزِيَانِكُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَكَلْتُ تَمْرَةً وَجَعَلْتُ تَمْرَةً فِي حُجْرَتِي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لِمَ رَفَعْتَ هَذِهِ التَّمْرَةَ؟» ، فَقُلْتُ:«رَفَعْتُهَا لأُمِّي» . فَقَالَ: «كُلَّهَا فَإِنَّا سَنُعْطِيكَ لَهَا تَمْرَتَيْنِ» . فَأَكَلْتُهَا فَأَعْطَانِي لَهَا تَمْرَتَيْنِ.!! (2).
أقول: هكذا فليكن الأبناء، ونعم الابن أنت يا أبا هريرة. وكثيراً ما كان يؤلمه الجوع، فيخرُّ مغشياً عليه في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما بين منزل عائشة والمنبر، فيمرُّ به الرجل، فيظن به جنوناً، فيجلس على صدره، فيرفع أبو هريرة رأسه ليقول له:«لَيْسَ الَّذِي تَرَى، إِنَّمَا هُوَ الجُوْعُ» (3).
ومِمَّا يقوله أبو هريرة: «إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ عَلَى طَرِيْقِهِمْ،
فَمَرَّ بِي أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ - مَا أَسْأَلُهُ إِلَاّ لِيَسْتَتْبِعَنِي (1) -، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَمَرَّ عُمَرُ، فَكَذَلِكَ، حَتَّى مَرَّ بِي رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَرَفَ مَا فِي وَجْهِي مِنَ الجُوْعِ، فَقَالَ:«أَبُو هُرَيْرَةَ» ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ البَيْتَ، فَوَجَدَ لَبَناً فِي قَدَحٍ، فَقَالَ:«مِنْ أَيْنَ لَكُم هَذَا؟» . قِيْلَ: أَرْسَلَ بِهِ إِلَيْكَ فُلَانٌ. فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ» . وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافَ الإِسْلَامِ، لَا أَهْلَ وَلَا مَالَ، إِذَا أَتَتْ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةٌ، أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئاً، وَإِذَا جَاءتْهُ هَدِيَّةٌ أَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيْهَا، فَسَاءنِي إِرْسَالُهُ إِيَّايَ، فَقُلْتُ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أُصِيْبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ!!
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُوْلِهِ بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا مُجِيبِينَ. فَلَمَّا جَلَسُوا، قَالَ:«خُذْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَأَعْطِهِمْ» . فَجَعَلْتُ أُعْطِي الرَّجُلَ، فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، وَنَاوَلْتُهُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ مُتَبَسِّماً، وَقَالَ:«بَقِيْتُ أَنَا وَأَنْتَ» . قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:«فَاشْرَبْ» ، فَشَرِبْتُ، قَالَ:«اشْرَبْ» فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ:«اشْرَبْ» فَأَشْرَبُ، حَتَّى قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا، قَالَ: فَأَخَذَ فَشَرِبَ مِنَ الْفَضْلَةِ. (2).
وإليكم عِفَّةَ نفس أبي هريرة والجوع يُقَطِّعُ أمعاءه، يقول: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقُمْتُ لَهُ وَهُوَ يُسَبِّحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَانْتَظَرْتُهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ دَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي، وَمَا أُرِيدُ إِلَّا الطَّعَامَ، قَالَ: فَأَقْرَأَنِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَلَمَّا
(1) كنت ذكرت استقراءه بعض الصحابة الآية من القرآن وهي معه. انظر " فتح الباري: ص 77، جـ 8. فضائل (جعفر بن أبي طالب).
(2)
" سير أعلام النبلاء ": ص 477، جـ 2. رواه البخاري مطوَّلاً في كتاب الدعوات. باب (كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتخليهم عن الدنيا). انظر " صحيح البخاري بحاشية السندي ": ص 122، جـ 4.
بَلَغَ أَهْلَهُ دَخَلَ وَتَرَكَنِي عَلَى الْبَابِ فَأَبْطَأَ، فَقُلْتُ: يَنْزِعُ ثِيَابَهُ ثُمَّ يَأْمُرُ لِي بِطَعَامٍ، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ، قُمْتُ فَمَشَيْتُ فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ خُلُوفَ فَمِكَ اللَّيْلَةَ لَشَدِيدٌ!!؟» فَقُلْتُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ ظَلَلْتُ صَائِمًا، وَمَا أَفْطَرْتُ بَعْدُ، وَمَا أَجِدُ مَا أُفْطِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى بَيْتَهُ فَدَعَا جَارِيَةً لَهُ سَوْدَاءَ. فَقَالَ: «آتِينَا بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ» . قَالَ: فَأَتَتْنَا بِقَصْعَةٍ فِيهَا وَضَرٌ مِنْ طَعَامٍ - أُرَاهُ شَعِيرًا - قَدْ أُكِلَ وَبَقِيَ فِي جَوَانِبِهَا بَعْضُهُ - وَهُوَ يَسِيرُ - فَسَمَّيْتُ وَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ، فَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ» (1).
وقال إمام التابعين سعيد بن المسيب (13 - 93 هـ): رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَطُوفُ بِالسُّوقِ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ، فَيَقُولُ:«هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟» فَإِنْ قَالُوا: لَا، قَالَ:«فَإِنِّي صَائِمٌ» (4).
فلم يكن أبو هريرة نهماً ذا بطنة، وما كان في يوم عبداً لشهوة بطنه، بل كان يكتفي بما يعلِّلُ به نفسه، أو يمسك عليه رمقه، فإذا ما أصبح لديه خمس عشرة تمرة، أفطر على خمس، وتسحَّر بخمس، وأبقى خمساً لفطره (5).
لقد صبر على الفقر طويلاً حتى أفضى به إلى الظل المديد، والخير الكثير، وبارك الله له في ماله، فكان كثير الشكر لله، يذكر دائماً أيام
(1)" حلية الأولياء ": ص 378، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 111، جـ 8.
(2)
العقبة، أي نوبة ركوبه.
(3)
" طبقات ابن سعد ": 4: 2/ 53. و " تذكرة الحفاظ ": ص 32، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 110، جـ 8. و " سير أعلام النبلاء ": ص 440، جـ 2.
(4)
" حلية الأولياء ": ص 381، جـ 1.
(5)
" حلية الأولياء ": ص 384، جـ 1. و " البداية والنهاية ": ص 112، جـ 8. وانظر الباب الثاني في الرد على الشُبه التي أثارها بعض أعداء أبي هريرة.