الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روى البخاري عن عَلِيٍّ رضي الله عنه قوله: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (1).
أجل لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً من أبي هريرة، ولكنه كان حذراً، لا يُحَدِّثُ إلَاّ بما ينتفع به الناس، ويخشى أنْ يُتَقَوَّلَ عليه ما لم يقل، أو أنْ يضع السامعون ما يُحدِّثُ به في غير مواضعه، لذلك أبى أنْ يُمْلِي على مروان بن الحكم حديثه كله، عندما طلب منه مروان - في ولايته على المدينة - أنْ يكتب حديثه. وقال له: أبو هريرة: ارْوِ كما روينا، فلما أبى عليه تحيَّنَ له مروان فرصة مناسبة، وأقعد له كاتباً ثقفاً، ودعاه، فجعل أبو هريرة يُحَدِّثُهُ، ويكتب ذلك الكاتب، حتى استفرغ حديثه، ثم قال مروان:«تَعْلَمُ أَنَّا قَدْ كَتَبْنَا حَدِيْثَكَ أَجْمَعَ؟» ، قَالَ:«وَقدْ فَعَلْتَ!!؟» قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: «فَاقْرَؤُوْهُ عَلَيَّ» .فَقَرَأُوهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:«أَمَا إِنَّكُمْ قَدْ حَفِظْتُمْ، وَإِنْ تُطِعْنِي تَمْحُهُ، - قَالَ الراوي -: «فَمَحَاهُ» (2).
…
حفظ أبي هريرة:
رأيت أنَّ أُفْرِدَ هذه الفقرة، تحت عنوان «حفظ أبي هريرة» لنعرف ضبطه لما يرويه، ومقدار تثبُّته في حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَرُسُوخِ قدمه، وجلال قدره، وكان من الممكن إدراج هذا
=، ذُلْفَ الأُنُوفِ، حُمْرَ الخُدُودِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ» - وهو من حديث أبي هريرة في الجهاد، وباب قتال الترك - ويقول ناشر كتاب ابن تيمية " الرد على المنطقيين " وقد شاهد المصنِّف رحمه الله من وقائعهم، وشارك الجهاد معهم، وكتب عنهم كثيراً، انظر هامش الصفحة 446 من كتاب " الرد على المنطقيين "، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى» وقد خرجت هذه النار قبل مجيء أكثر الكفار إلى بغداد سَنَةَ خمس وخمسين وستمائة وتواتر خبرها، وللاستزادة راجع " فتح الباري "، و " تاريخ ابن كثير " و " شذرات الذهب " في السَنَةِ المذكورة، و " الرد على المنطقيِّين ": ص 445 - 446.
(1)
" فتح الباري ": ص 235، جـ 1.
(2)
" سير أعلام النبلاء ": ص 431، جـ 2، رواه عوف الأعرابي عن سعيد بن أبي الحسن.
فيما سبق مِمَّا ذكرته في كثرة حديثه وسِعَةِ علمه، إلَاّ أنَّ كثرة الحديث وسِعَةِ العلم قد لا تدلان على قوة الحفظ والاتقان، فقد يكون الراوي كثير الحديث غير ضابط لما يروى، فإذا اجتمع العلم الكثير، والحفظ المتقن، كان ذلكغاية ما يتمنَّى أولو العلم.
ونحن الآن بين يَدَيْ حفظ أبي هريرة راوية الإسلام، ومُحَدِّثِ الأُمَّة في القرن الأول، الذي حفظ على الأمَّة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عب الله بن عمر.
لقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفظ، وبسط له رداءً كان على ظهره، وحدَّثَهُ، ثم أمره أنْ يضُمَّهُ إليه، فلم ينس بعد ذلك مِمَّا حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، وكان أبو هريرة، يدعو الله أنْ يهبه علماً لا ينسى، فأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد عرفنا حرصه على الحديث النبوي، حُبَّهُ العظيم للرسول الكريم، الذي وجد عنده الخير كله، فانكبَّ على طلب العلم، من بيت العلم ومنزل الوحي، ومعين المعرفة، وتعلَّق بهذا طيلة حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، فكان يحاول أنْ يعي كُلَّ ما يُحَدِّثُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول أبو هريرة:«صَحِبْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَلاثَ سِنِينَ مَا كُنْتُ سَنَوَاتٍ قَطُّ أَعْقَلَ مِنِّي، وَلا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَعِيَ مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي فِيهِنَّ» (1).
فقد اجتمع لأبي هريرة عاملان عظيمان هُمَا حُبُّهُ للرسول الكريم وتعلقه به، واندفاعه وراءه في سبيل كلمة يعلِّمُهُ إياها، أو حكمة ينتفع بها، ونحن نعلم ما لهذا العامل النفسي من أثر بعيد في تثبيت تلك الأحاديث في نفس طالبها، والعامل الآخر هو دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، وتشجيعه إياه على ذلك، ونحن نعلم ما لأثر المُرَبِّي والمُعَلِّمِ في توجيه طلابه وتفوُّقهم ونجاحهم، فكيف يكون توجيه معلم الإنسانية وتشجيعه، وخاصة من حيث إنه رسول رب العالمين!!؟ فقد تعاضد
(1)" طبقات ابن سعد ": ص 54 قسم 2، جـ 4، رواه قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة.
هذان العاملان ليجعلا من أبي هريرة راوية الإسلام حافظ السُنَّة، وإني أومن بالأثر العظيم الذي تركه دعاؤه صلى الله عليه وسلم في نفس أبي هريرة على طلب الحديث بنفس صافية وعزيمة قوية، وهِمَّةٍ عاليةٍ، أومن بذلك إيمان اليقين، وإنَّ سيرته وحياته تؤكِّدان ذلك.
وما كان أبو هريرة ليكتفي بما يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، في نهاره أو ليله، بل كان يراجع حديثه عليه الصلاة والسلام، ويُكرِّرُ في المسجد، وفي الطريق، وفي بيته، ليلاً ونهاراً، لأنه يرى في ذلك نوعاً من أنواع العبادة، قال أبو هريرة رضي الله عنه:«جَزَأْتُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: ثُلُثًا أُصَلِّي، وَثُلُثًا أَنَامُ، وَثُلُثًا أَذَكَرُ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» (1).
وهذا عامل ثالث من عوامل تثبيت الحديث في صدر أبي هريرة وحفظه، وذاك غاية ما يفعله المتعطِّشُون للعلم المُحِبُّون له، الساعون وراءه، فكيف بأبي هريرة الذي عرفنا عزيمته وإقدامه على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟.
ويذكر لنا أبو الزعيزعة، كاتب مروان، ما يُثْبِتُ اتقانه وحفظه، فيقول:«دَعَا مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ، وَأَجْلَسَنِي خَلَفْ الْسَّرِيرِ، وَجَعَلْتُ أَكْتُبُ عَنْهُ، حَتَّىَ إِذَا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ، دَعَا بِهِ، فَأَقْعَدَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَمَا زَادَ وَلَا نَقَصَ، وَلَا قَدَّمَ وَلَا أَخَّرَ» (2)!!.
ومن هذا أيضاً أنه لقي رجلاً، فَقَالَ لَهُ: بِأَيِّ سُورَةٍ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَارِحَةَ فِي الْعَتَمَةِ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقُلْتُ: أَلَمْ تَشْهَدْهَا؟
(1)" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص 180: ب - 181: آ، وانظر " سنن الدارمي ": ص 82، جـ 1.
(2)
" البداية والنهاية ": ص 106، جـ 8، و " سير أعلام النبلاء ": ص 431، جـ 2، وقد جمعت بين الروايتين.