الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة آل عمران
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية [آل عمران/ 7].
هذه الآية الكريمة تدل على أن من القرآن محكمًا ومنه متشابهًا.
وقد جاءت آية أخرى تدل على أن كله محكم، وآية تدل على أن كله متشابه. أما التي تدل على إحكامه كله فهي قوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود/ 1]، وأما التي تدل على أن كله متشابه فهي قوله تعالى:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر/ 23].
ووجه الجمع بين هذه الآيات: أن معنى كون كله محكمًا: أنه في غاية الإحكام، أي: الإتقان في ألفاظه ومعانيه وإعجازه، أخباره صدقٌ وأحكامه عدل، لا يعتريه وصمة ولا عيب، لا في الألفاظ ولا في المعاني.
ومعنى كونه متشابهًا: أن آياته يشبه بعضها بعضا في الحسن والصدق والإعجاز، والسلامة من جميع العيوب.
ومعنى كون بعضه محكمًا وبعضه متشابهًا: أن المحكم منه: هو واضح المعنى لكل الناس، كقوله:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الاسراء/ 32]، {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء/ 39]، والمتشابه: هو ما خفي علمه على غير الراسخين في العلم، بناء على أن الواو في قوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران/ 7] عاطفة. أو هو: ما استأثر
اللَّه بعلمه، كمعاني الحروف المقطعة في أوائل السور، بناء على أن الواو في قوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استئنافية لا عاطفة.
قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران/ 28].
هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء إذا لم يكن من دون المؤمنين لا بأس به، بدليل قوله:{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقًا، كقوله تعالى:{وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)} [النساء/ 89]،
وكقوله: {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الآية [المائدة/ 57].
والجواب عن هذا: أن قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لا مفهوم له.
وقد تقرر في علم الأصول: أن دليل الخطاب -الذي هو مفهوم المخالفة- له موانع تمنع اعتباره، منها: كون تخصيص المنطوق بالذِّكْر لأجل موافقته للواقع، كما في هذه الآية، لأنها نزلت في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها، بل موالاة الكفار حرام مطلقًا. والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. . .} الآية [آل عمران/ 38].
هذه الآية تدل على أن زكريا -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-
ليس عنده شكُّ في قدرة اللَّه على أن يرزقه الولد، على ما كان منه من كِبَر السِّنّ.
وقد جاء في آية أخرى ما يُوهِم خلاف ذلك، وهي قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران/ 40] الآية.
والجواب عن هذا بأمور:
الأول: ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي: من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران/ 39]، قال له الشيطان: ليس هذا نداء الملائكة، وإنما هو نداء الشيطان. فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من اللَّه:{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} [آل عمران/ 40]. ولذا طلب الآية من اللَّه على ذلك بقوله: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} الآية [آل عمران/ 41].
الثاني: أنَّ استفهامه استفهام استعلام واستخبار؛ لأنه لا يدري هل اللَّه يأتيه بالولد من زوجه العجوز، أو يأمره بأن يتزوج شابة، أو يردهما شابين.
الثالث: أنه استفهام استعظام وتعجب من كمال قدرة اللَّه تعالى.
واللَّه تعالى أعلم.
قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران/ 49].
هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم. ونظيرها قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} الآية [العنكبوت/ 17].
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن اللَّه هو خالق كل شيء، كقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر/ 49]، وقوله:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر/ 62]، إلى غير ذلك من الآيات.
والجواب ظاهر، وهو أن معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين هو: أخذه شيئًا من الطين وجعله إياه على هيئة -أي صورة- الطير، وليس المراد الخلق الحقيقي؛ لأن اللَّه متفرد به جلَّ وعلا. وقو له:{وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت/ 17] معناه: تكذبون. فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} الآية [آل عمران/ 55].
هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك: كقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء/ 157]، وقوله:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية [النساء/ 159] على ما فسرها به ابن عباس -في إحدى الروايتين- وأبو مالك والحسن وقتادة وابن زيد وأبو هريرة، ودلت على صدقه الأحاديث المتواترة، واختاره ابن
جرير، وجزم ابن كثير بانه الحق، من أن قوله:{قَبْلَ مَوْتِهِ} أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران/ 55] لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى. وهو متوفيه قطعًا يومًا ما. ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى. وأما عطفه {وَرَافِعُكَ} إلى قوله:{مُتَوَفِّيكَ} فلا دليل فيه؛ لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك.
وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثرُ للمحققين، وهو الحق، خلافًا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه.
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء، وقال: لم أجده في كتابه. وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي. حكاه عنه صاحب "الضياء اللامع".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بما بدأ اللَّه به" يعني: الصفا، لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب. وبيان ذلك هو ما قاله الفهري -كما ذكر عنه صاحب "الضياء اللامع"- وهو أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فكذلك لا تقتضي المنع منهما، فقد يكون العطف بها مع قصد
الاهتمام بالأول، كقوله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية [البقرة/ 158]، بدليل الحديث المتقدم. وقد يكون المعطوف بها مرتبًا كقول حسان:
* هجوتَ محمدًا وأجبتُ عنه *
على رواية الواو. وقد يراد بها المعية كقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت/ 15]، وقوله:{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة/ 9] ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل.
الوجه الثاني: إن معنى {مُتَوَفِّيكَ} أي: منيمك ورافعك إليَّ، أي في تلك النومة.
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام/ 60]، وقوله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر/ 42].
وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الحمد للَّه الذي أحيانا بعدما أماتنا. . . " الحديث.
الوجه الثالث: إن {مُتَوَفِّيكَ} اسم فاعل "توفاه" إذا قبضه وحازه إليه. ومنه قولهم: "توفى فلان دينه" إذا قبضه إليه. فيكون معنى {مُتَوَفِّيكَ} على هذا: قابضك منهم إليَّ حيًا. وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أيامًا ثم أحياه، فالظاهر أنه من
الإسرائيليات، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها.
قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} الآية [آل عمران/ 67].
هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لم يكن مشركًا يومًا ما؛ لأن نفي الكون الماضي في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي، كما دل عليه قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} الآية [الأنبياء/ 51].
وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك، وهو قوله:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} ، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} ، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام/ 76، 77، 78].
ومن ظن ربوبية غير اللَّه فهو مشرك باللَّه، كما دل عليه قوله تعالى عن الكفار:{وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)} [يونس/ 66].
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنه مناظر لا ناظر، ومقصوده التسليم الجدلي، أي: هذا ربي على زعمكم الباطل. والمناظر قد يسلِّم المقدمة الباطلة تسليمًا جدليًّا ليفحم بذلك خصمه.
فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر: الكوكب مخلوق لا يمكن أن
يكون ربًا. لقالوا له: كذبت، بل الكوكب رب.
ومما يدل لكونه مناظرًا لا ناظرًا قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} الآية [الأنعام/ 80].
وهذا الوجه هو الأظهر.
وما استدل به ابن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)} [الأنعام/ 77] لا دليل فيه على التحقيق؛ لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعًا وإظهارًا لالتجائهم إلى اللَّه، كقول إبراهيم:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم/ 35]، وقوله هو وإسماعيل:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} الآية [البقرة/ 128].
الوجه الثاني: أن الكلام على حذف همزة الاستفهام؛ أي: أهذا ربي؛ وقد تقرر في علم النحو: أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز. وهو قياسي عند الأخفش مع "أم" ودونها، ذكر الجواب أم لا.
فمن أمثلته دون "أم" ودون ذكر الجواب قول الكميت:
طربت وما شوقًا إلى البيض أطْرَبُ
…
ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب
يعني: أو ذو الشيب يلعب؟
وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد:
رَفَوني وقالوا يا خويلد لم تُرَعْ
…
فقلتُ وأنكرتُ الوجوه همُ همُ
يعني: أهم هم؟ كما هو الصحيح، وجزم به الألوسي في "تفسيره"، وذكره ابن جرير عن جماعة، ويدل له قوله: وأنكرت الوجوه.
ومن أمثلته دون "أم" مع ذكر الجواب، قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ثمَّ قالوا: تحبها؟ قلت: بَهْرًا
…
عدد النجم والحصى والتراب
يعني: أتحبها؟ على القول الصحيح.
وهو مع "أم" كثير جدًّا، ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي، وأنشده سيبويه لذلك:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا
…
شعيثُ بن سهمٍ أم شعيثُ بن مِنْقَرِ
يعني: أشعيث بن سهم؟
وقول ابن أبي ربيعة المخزومي:
بدا لي منها معصمٌ يوم جَمَّرَتْ
…
وكفٌّ خضيبٌ زُيِّنَتْ ببنان
فواللَّه ما أدري وإني لحاسبٌ
…
بسبعٍ رميت الجمر أم بثمان
يعني: أبسبع؟
وقول الأخطل:
كَذَبَتْكَ عينُك أم رأيت بواسطٍ
…
غَلَسَ الظلام من الرباب خَيالا
يعني: أكذبتك عينك؟ كما نص سيبويه على جواز ذلك في بيت
الأخطل هذا، وإن خالف الخليل زاعمًا أن "كذبتك" صيغة خبرية، وأن "أم" بمعنى "بل"، ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى بالرجوع عند البلاغيين.
وقول الخنساء:
قذًى بعينيك أم بالعين عُوَّارُ
…
أم أَقْفَرتْ إذ خَلَتْ من أهلها الدار
تعني: أقذًى بعينيك؟
وقول أُحيحة بن الجلاح الأنصاري:
وما تدري وإن ذمَّرت سقبًا
…
لغيرك أم يكون لك الفَصِيلُ
يعني: ألغيرك؟
وقول امري القيس:
تَروحُ من الحيِّ أم تَبتكِرُ
…
وماذا عليك بأن تَنْتظِر
يعني: أتروح؟
وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علوُّ مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير اللَّه، وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك.
والآية على هذا القول تشبه قراءة ابن محيصن: "سواء عليهم أنذرتهم". ونظيرها على هذا القول قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} [الأنبياء/ 34] يعني: أفهم الخالدون؟ ، وقوله تعالى:{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} [الشعراء/ 22] على أحد القولين، وقوله: {فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ (11)} [البلد/ 11] على أحد القولين.
وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما، كالقول بإضمار القول، أي: يقول الكفار: هذا ربي. فإنه راجع إلى الوجه الأول.
وأما ما ذكره ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أن إبراهيم كان ناظرًا يظن ربوبية الكوكب، فهو ظاهر الضعف؛ لأن نصوص القرآن ترده، كقوله:{وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)} [آل عمران/ 67]، وقوله تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل/ 123]، وقوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء/ 51].
وقد بيَّن المحقق ابن كثير في "تفسيره" رد ما ذكره ابن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها، والأحاديث الدالة على مقتضاها، كقوله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة" الحديث.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)} [آل عمران/ 90].
هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم، المزدادين كفرًا، لا يقبل اللَّه توبتهم إذا تابوا؛ لأنه عبر بـ "لن" الدالة على نفي الفعل في المستقبل.
مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن اللَّه يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها، كقوله تعالى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال/ 38]، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى/ 25]، وقوله:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام/ 158]، فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب.
وصرح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)} [آل عمران/ 86 - 89]، فالاستثناء في قوله:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} راجع إلى المرتدين بعد الإيمان، المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا.
ويدل له -أيضًا- قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} الآية [البقرة/ 217]؛ لأن مفهومه أنه إنْ تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقًا.
والجواب من أربعة أوجه:
الأول -وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع أبي العالية-: أن المعنى: أن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} ؛ لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهم على ارتكاب الضلال، وعدمُ قبولها حينئذ
ظاهرٌ.
الثاني -وهو أقربها عندي-: أن قوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} يعني: إذا تابوا عند حضور الموت.
ويدل لهذا الوجه أمران:
الأول: أنه تعالى بين في مواضع أخر أن الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت فيتوب في ذلك الوقت، كقوله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء/ 18]، فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء، وقوله تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآية [غافر/ 85]، وقوله في فرعون:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس/ 91].
فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيَّد بقيدِ تأخير التوبة إلى حضور الموت؛ لوجوب حمل المطلق على المقيد، كما تقرر في الأصول.
والثاني: أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} ، فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها.
ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني -الذي هو التقييد بحضور الموت- عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي.
الثالث: أن معنى {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} أي: إيمانهم الأول؛ لبطلانه بالردة بعده.
ونقل ابن جرير
(1)
هذا القول عن ابن جريج. ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن.
الرابع: أن المراد بقوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} : أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم.
ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء/ 137]، فإن قوله تعالى:{وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} يدل على أن عدم غفرانه لهم لعدم توفيقهم للتوبة والهدى، كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء/ 168 - 169]، وكقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)} الآية [يونس/ 96].
ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر/ 48] أي: لا شفاعة لهم أصلًا حتى تنفعهم، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} الآية [المؤمنون/ 117]؛ لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلًا، حتى يقوم عليه برهان أو لا يقوم عليه.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النُّظَّار بقولهم: السالبة لا تقضي بوجود الموضوع.
(1)
في الأصل المطبوع: ونقل خرجه ابن جرير.
وإيضاحه: أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين؛ لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحول، وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين:
الأولى: أن يكون الموضوع موجودًا، إلا أن المحمول منتفٍ عنه، كقولك: ليس الإنسان بحجر، فالإنسان موجود والحجرية منتفيةٌ عنه.
والثانية: أن يكون الموضوع من أصله معدومًا؛ لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الوجودي، لأن العدم لا يتصف بالوجود، كقولك: لا نظير للَّه يستحق العبادة. فإن الموضوع -الذي هو النظير للَّه- مستحيل من أصله، وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورةً.
وهذا النوع من أساليب اللغة العربية، ومن شواهده قول امرئ القيس:
على لاحبٍ لا يهتدى بمناره
…
إذا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جرجرا
لأن المعنى: على لاحبٍ لا منار له أصلًا حتى يهتدى به.
وقول الآخر:
لا تُفْزِعُ الأرنبَ أهوالُها
…
ولا ترى الضبَّ بها يَنْجَحِر
لأنه يصف فلاةً بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالُها الأرنبَ، أو ينجحر فيها الضب، أي: يدخل الجحر أو
يتخذه.
وقد أوضحت مسألة أنَّ السالبة لا تقتضي وجود الموضوع في أرجوزتي في المنطق في مبحث انحراف السور، وأوضحت فيها -أيضًا- في مبحث التحصيل والعدول: أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع، نحو: بحر من زئبق ممكن، والمستحيل معدوم. فإنها موجبتان، وموضوع كل منهما معدوم. وحررنا هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه.
وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته، ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر = لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء الأربعة وغيرهم، وهو مروي عن عليٍّ وابن عباس: من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته، واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية؛ لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط [لا في نفس المناط، والمتناظران قد يختلفان في تحقيق المناط][*] مع اتفاقهما على أصل المناط.
وإيضاحه: أن المناط مكان النوط، وهو التعليق. ومنه قول حسان رضي الله عنه:
وأنت زنيمٌ نِيطَ في آل هاشمٍ
…
كما نيط خلف الراكبِ القدحُ الفردُ
والمراد به: مكان تعليق الحكم، وهو العلة، فالمناط والعلة مترادفان اصطلاحًا، إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة، الذي هو المناسبة والاخالة، فإنه يسمى تخريج المناط، وكذلك في المسلك التاسع الذي هو تنقيح المناط.
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين زيادة من مجلة الجامعة الإسلامية
فتخريج المناط هو: استخراج العلة بمسلك المناسبة والإخالة. وتنقيح المناط هو: تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء صالح لها، ولا يدخل شيء غير صالح لها، كما هو معلوم في محله.
وأما تحقيق المناط -وهو الغرض هنا- فهو: أن يكون مناط الحكم متفقًا عليه بين الخصمين، إلا أن أحدهما يقول: هو موجود في هذا الفرع، والثاني يقول: لا. ومثاله: الاختلاف في قطع النباش، فإن أبا حنيفة -رحمه اللَّه تعالى- يوافق الجمهور على أن السرقة هي مناط القطع، ولكنه يقول: لم يتحقق المناط في النباش؛ لأنه غير سارق، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز.
فإذا حققت ذلك، فاعلم أن مراد القائلين أنه لا تقبل توبته: أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته، وأنه ليس تائبًا في الباطن
(1)
توبة نصوحًا، فهم موافقون على أنَّ التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا، ولكن يقولون: أفعال هذا الخبيث دلت على عدم تحقيق المناط.
ومن هنا اختلف العلماء في توبة الزنديق، أعني: المستسر بالكفر، فمن قائل: لا تقبل توبته، ومن قائل: تقبل، ومن مفرق بين إتيانه تائبًا قبل الاطلاع عليه وبين الاطلاع على نفاقه قبل التوبة، كما هو معروف في فروع مذاهب الأئمة الأربعة؛ لأن الذين يقولون:
(1)
في الأصل المطبوع: الباطل. وهو خطأ.
"يقتل ولا تقبل توبته" يرون أن نفاقه الباطن دليل على أن توبته تَقِيَّةٌ لا حقيقة، واستدلوا بقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة/ 160]، فقالوا: الإصلاح شرط، والزنديق لا يُطَّلع على إصلاحه؛ لأن الفساد إنما أتى مما أسره، فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه.
والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقًا أظهر وأقوى، كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه:"هلا شققت عن قلبه"، وقوله للذي سارَّه في قتل رجل:"أليس يصلي؟ " قال: بلى. قال: "أولئك الذين نهيت عن قتلهم"، وقوله لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة:"إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس". وهذه الأحاديث في الصحيح. ويدل لذلك -أيضًا- إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر، واللَّه يتولى السرائر.
وقد نص تعالى على أن الأيمان الكاذبة جُنَّةٌ للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة/ 16]، وقوله:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة/ 95]، وقوله:{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} الآية [التوبة/ 56]، إلى غير ذلك من الآيات.
وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة، فيجاب عنه بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولًا لمسيلمة:"لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك". فقتله ابن مسعود تحقيقًا لقوله صلى الله عليه وسلم، فقد روي أنه قتله لذلك.
فإن قيل: هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها؛ لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر، فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد، والدليل على الأعم ليس دليلًا على الأخص؛ لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص.
فالجواب: أن القرآن دل على قبول توبة من تكرر منه الكفر إذا أخلص في الإنابة إلى اللَّه.
ووجه دلالة القرآن على ذلك أنه تعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [النساء/ 137]، ثم بين أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)} الآية [النساء/ 138].
ودلالة الاقتران وإن ضعفها الأصوليين
(1)
فقد صححتها جماعة من المحققين، ولا سيما إذا اعتضدت بدلالة القرينة عليها، كما هنا؛ لأن قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)} فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية، بل كونُها في خصوصهم قال به جماعةٌ من العلماء.
فإذا حققت ذلك، فاعلم أن اللَّه تعالى نص على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب اللَّه عليه، بقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
(1)
كذا في الأصل المطبوع. والجادة: الأصوليون. إلا أن تكون قد سقطت كلمة "بعض" قبلها.
وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء/ 145 - 147].
وقد كان مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل اللَّه فيهم قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة/ 65 - 66] فتاب إلى اللَّه بإخلاص، فتاب اللَّه عليه، وأنزل اللَّه فيه:{إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} الآية [التوبة/ 66].
فتحصَّل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة، يعنون الأحكام الدنيوية، ولا يخالفون في أنه إذا أخلص التوبة إلى اللَّه قبلها منه؛ لأن اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم. والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية [آل عمران/ 102].
هذه الآية تدل على التشديد البالغ في تقوى اللَّه تعالى.
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16].
والجواب بأمرين:
الأول: أن آية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ناسخة لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ
حَقَّ تُقَاتِهِ}. وذهب إلى هذا القول سعيد بن جبير، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وزيد بن أسلم، والسدي، وغيرهم. قاله ابن كثير.
الثاني: أنها مبينة للمقصود بها.
والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران/ 103].
هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا، مع أنهم كانوا أهل فترة، واللَّه تعالى يقول:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]، ويقول:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية [النساء/ 165].
وقد بين تعالى هذه الحجة بقوله في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)} [طه/ 134]. والآيات بمثل هذا كثيرة.
والذي يظهر في الجواب -واللَّه تعالى أعلم-: أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت، كما بيَّنه تعالى بقوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} الآية [هود/ 17].
وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين تلزمهم بها الحجة، فهو جواب باطل؛ لأن نصوص القرآن مصرحة بانهم لم يأتهم نذير، كقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ
آبَاؤُهُمْ} [يس/ 6]، وقوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [السجدة/ 3]، وقوله:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص/ 46]، وقوله:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} الآية [المائدة/ 19]، وقوله تعالى:{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)} [سبأ/ 44].
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران/ 123].
وصف اللَّه المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر.
وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة، وهي قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون/ 8]، ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد.
والجواب ظاهر، وهو: أن معنى وصفهم بالذلة هو قلة عَدَدهم وعُدَدهم يوم بدر، وقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} نزل في غزوة المريسيع، وهي غزوة بني المصطلق، وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين وكثر عَدَدهم وعُدَدهم.
مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر، وهو: أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العَدَد والعُدَد، والعزة باعتبار نصر اللَّه وتأييده، كما يشير إلى هذا قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ
قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال/ 26]، وقوله:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران/ 123]، فإن زمان الحال هو زمان عاملها، فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة. فظهر أن وصف الذلة باعتبار، ووصف النصر والعزة باعتبار آخر، فانفكت الجهة. والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} الآية [آل عمران/ 124].
هذه الآية تدل على أن المدد من الملائكة يوم بدر من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف.
وقد ذكر تعالى في سورة الأنفال أن هذا المدد ألفٌ بقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} الآية [الأنفال/ 9].
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أنه وعدهم بألف أولًا، ثم صارت ثلاثة آلاف، ثم صارت خمسة، كما في هذه الآية.
الوجه الثاني: أن آية الأنفال لم تقتصر على الألف بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في آل عمران، ولا سيما في قراءة نافع {من الملائكة مُرْدِفِينَ} بفتح الدال على صيغة المفعول، لأن معنى (مُرْدَفِينَ): متبوعين بغيرهم. وهذا هو الحق.
وأما على قول من قال: إن المدد المذكور في آل عمران في يوم
أُحد، والمذكور في الأنفال في يوم بدر، فلا إشكال على قوله إلا في أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد من الملائكة.
والجواب: أن إتيان المدد فيها -على القول به- مشروط بالصبر والتقوى في قوله: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} الآية [آل عمران/ 125]، ولما لم يصبروا ويتقوا لم يأت المدد. وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم. قاله ابن كثير.
قوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} الآية [آل عمران/ 153].
قوله تعالى: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} أي: غمًّا على غم. يعني: حزنًا على حزن. أو أثابكم غمًّا بسبب غمكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعصيان أمره. والمناسب لهذا الغم -بحسب ما يسبق إلى الذهن- أن يقول: لكي تحزنوا. أما قوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا} فهو مشكل؛ لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه.
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أن قوله: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا} متعلق بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران/ 152]. وعليه، فالمعنى: أنه تعالى عفا عنكم؛ لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل والجراح، وفوت الغنيمة والظفر، والجزع من إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله المشركون.
الوجه الثاني: أن معنى الآية: أنه تعالى غمكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر، فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل؛ لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثر عليه.
الوجه الثالث: أن "لا" صلةٌ، وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية -إن شاء اللَّه تعالى- في الجمع بين قوله تعالى:{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد/ 1]، وقوله:{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين/ 3].