الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النور
قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)} [النور/ 3].
هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الأعفَّاءِ والعفائف، ويدل لذلك قوله:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء/ 25]، وقوله:{مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} الآية [النساء/ 24].
وقد جاءت آيات أخر تدل بعمومها على خلاف ذلك، كقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية [النور/ 32]، وقوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء/ 24].
والجواب عن هذا مختلفٌ فيه اختلافًا مبنيًا على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني.
فمن يقول: هو حرام. يقول: هذه الآية مخصصة لعموم {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ، وعموم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} .
والذين يقولون بعدم المنع -وهم الأكثر- أجابوا بأجوبة:
منها: أنها منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} .
واقتصر صاحب "الإتقان" على النسخ. وممن قال بالنسخ: سعيد بن المسيب والشافعي.
ومنها: أن النكاحَ في هذه الآية الوطءُ. وعليه فالمراد بالآية: أن
الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلا زانية مثله، أو مشركة لا ترى حرمة الزنا.
ومنها: أن هذا خاص؛ لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا؛ لأن ذلك هو سبب نزول الآية. فزعم بعضهم: أنها مختصة بذلك السبب، بدليل قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ} الآية، وقوله:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية.
وهذا أضعفها. واللَّه تعالى أعلم.
قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور/ 26].
هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رميت به. وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، من أن معناها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء. أي: فلو كانت عائشة رضي الله عنها غير طيبة لما جعلها اللَّه زوجة لأطيب الطيبين صلوات اللَّه عليه وسلامه.
وعلى هذا، فالآية الكريمة يظهر لمعارضها مع قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} إلى قوله: {مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} [التحريم/ 10]، وقوله أيضًا:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} الآية [التحريم/ 11].
إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين، وهما نوح ولوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها.
والجواب: أن في معنى الآية وجهين للعلماء:
الأول -وبه قال ابن عباس، وروي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك، كما نقله عنهم ابن كثير، واختاره ابن جرير-: أن معناه: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول، والطيبات من القول للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول.
أي: فما نسبه أهل النفاف إلى عائشة من كلامٍ خبيثٍ هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم، ولذا قال تعالى:{أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور/ 26].
وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلًا بين الآيات.
الوجه الثاني: هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد. وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات.
والذي يظهر لمقيده -عفا اللَّه عنه- أن قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} إلى آخره -على هدا القول- من العام المخصوص، بدليل
امرأة نوح ولوط وامرأة فرعون.
وعليه، فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب، مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيِّب كامرأة نوح ولوط، أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون؛ لحكمة بالغة، كما دل عليه قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُو} ، وقوله:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا} مع قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت/ 43].
فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء؛ وهي في تقييض الخبيثة للطيب: أن يبين للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان، وإنما ينفعه عمله. ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته، وأكرم الخلق على اللَّه رسله، فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار، كما قال تعالى:{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)} [التحريم/ 10] فيه أكبرُ واعظٍ وأعظمُ زاجرٍ عن الاغترار بالقرابة من الصالحين، والإعلامُ بأن الإنسان إنما ينفعه عمله، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} الآية [النساء/ 123].
كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يُعْلَمُ منه أن الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره، وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه، أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم، فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين، كامرأة نوح
ولوط، والطيب طيب وإن خالط الأشرار، كامرأة فرعون. ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختيارًا، كما دلت عليه أدلة أخر.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور/ 39].
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله: {جَاءَهُ} يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء؛ لأن وقوع المجيء على العدم لا يُعْقَل. ومعلومٌ أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين، فلا تدرك إلا بإدراكهما، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل وقع منه المجيء، وقوله تعالى:{لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى: {جَاءَهُ} .
والجواب عن هذا من وجهين ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية، قال: فإن قال قائل: وكيف قيل: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} ، فإن لم يكن السراب شيئًا، فعلام دخلت الهاء في قوله:{حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} ؟
قيل: إنه شيء يرى من بعيد، كالضباب الذي يرى كثيفًا من بعيد، والهباء، فإذا قرب منه دَقَّ
(1)
وصار كالهواء.
وقد يحتمل أن يكون معناه: حتى إذا جاء موضعَ السراب لم يجد السراب شيئًا. فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه. انتهى منه بلفظه.
(1)
كذا في الأصل. وفي "تفسير الطبري"(19/ 195): "رق" بالراء.
والوجه الأول أظهر عندي وعنده؛ بدليل قوله: وقد يحتمل أن يكون معناه. . . إلخ.
قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور/ 62].
هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء.
وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية [التوبة/ 43] يوهم خلاف ذلك.
والجواب ظاهر، وهو أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء من أصحابه الذين كانوا معه على أمرٍ جامع، كصلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك، كما بينه تعالى بقوله:{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور/ 62].
وأما الإذن في خصوص التخلف عن الجهاد، فهو الذي بيَّن اللَّه لرسوله أن الأولى فيه ألا يبادر بالإذن حتى يتبين له الصادق في عذره من الكاذب، وذلك في قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة/ 43].
فظهر أن لا منافاة بين الآيات. والعلم عند اللَّه تعالى.