الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة بني إسرائيل
قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15].
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن اللَّه تعالى لا يعذب أحدًا حتى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام.
ونظيرها قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} الآية [طه/ 134] وقوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)} [الأنعام/ 131]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار جاءتهم الرسل في دار الدنيا، في قوله تعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} الآية [الملك/ 8 - 9] ومعلوم أن "كلما" صيغة عموم.
ونظيرها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} إلى قوله: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)} [الزمر/ 71]، فقوله:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعم كل كافر؛ لما تقرر في الأصول من أنَّ الموصولات من صيغ العموم؛ لعمومها كل ما تشمله صِلاتها، كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله:
صيغُه كلٌّ أو الجميع
…
وقد تلا الذي التي الفروع
ومعنى قوله: "وقد تلا الذي. . . " الخ: أن "الذي" و"التي" وفروعها صيغ عموم، ككل وجميع.
ونظيره -أيضًا- قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} إلى قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِير} [فاطر/ 37]، فإنه عام أيضًا؛ لأن أول الكلام {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} [فاطر/ 36].
وأمثال هذا كثيرة في القرآن.
مع أنه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أن أهل الفترة في النار، كقوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)} [التوبة/ 113]، فإن عمومها يدل على دخول من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عموم قوله تعالى:{وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} [النساء/ 18]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة/ 161]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا} الآية [آل عمران/ 91]، إلى غير ذلك من الآيات.
اعلم -أولًا- أن من لم يأته نذير في دار الدنيا وكان كافرًا حتى مات، اختلف العلماء فيه: هل هو من أهل النار لكفره، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير؟ كما أشار له في "مراقي السعود" بقوله:
ذو فترة بالفرع لا يراع
…
وفي الأصول بينهم نزاع
وسنذكر -إن شاء اللَّه- جواب أهل كل واحد من القولين، ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه. فنقول وباللَّه نستعين:
قد قال قوم: إن الكافر في النار، ولو مات في زمن الفترة. وممن جزم بهذا القول: النووي في "شرح مسلم"؛ لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة.
وحكى القرافي في "شرح التنقيح" الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار؛ لكفرهم، كما حكاه عنه صاحب "نشر البنود".
وأجاب أهل هذا القول عن آية {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها من ثلاثة أوجه:
الأول: أن التعذيب المنفي في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها هو التعذيب الدنيوي، فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة.
وذكر الشوكاني في تفسيره أن اختصاص هذ التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ذهب إليه الجمهور. واستظهر هو خلافه، ورَدَّ التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات، وبأن الآيات المتقدمة -الدالة على اعتراف أهل النار جميعًا بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا- صريح في نفيه.
الثاني: أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الآية وأمثالها = في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل.
أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل، كعبادة الأوثان، فلا يعذر فيه أحد؛ لأن جميع الكفار يقرون بأن اللَّه هو ربهم وهو
خالقهم ورازقهم، ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر، لكنهم غالطوا أنفسهم، فزعموا أنها تقربهم إلى اللَّه زلفى، وأنها شفعاؤهم عند اللَّه، مع أن العقل يقطع بنفي ذلك.
الثالث: أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم تقوم عليهم بها الحجة. ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في "الآيات البينات".
وقد قدمنا في سورة آل عمران أن هذا القول يرده القرآن في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم، كقوله:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس/ 6]، وقوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة/ 3]، وقوله:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص/ 46]، وقوله:{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)} [سبأ/ 44]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأجاب القائلون بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} إلى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} من الآيات المتقدمة = بأنهم لا يتبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم ولا يُحْكَمُ لهم بالنار ولو ماتوا كفارًا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان، كأبي طالب. وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى.
واعترض هذا الجواب بما ثبت في "الصحيح" من دخول بعض
أهل الفترة النار، كحديث:"إن أبي وأباك في النار" الثابت في "صحيح مسلم" وأمثاله من الأحاديث.
واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث وإن صحت فهي أخبار آحاد، يُقَدَّمُ عليها القاطع، كقوله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} .
واعترض هذ الاعتراض -أيضًا- بأنه لا يتعارض عام وخاص، فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم، وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلًا في العموم.
واعترض هذا الاعتراض -أيضًا- بأن هذا التخصيص يبطل علة العام؛ لأن اللَّه تعالى تمدح بكمال الإنصاف، وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذَّب بإنذار الرسل في دار الدنيا، وبيَّن أن ذلك الإنصاف التام علةٌ لعدم التعذيب، فلو عذب إنسانًا واحدًا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة، ولثبتت لذلك المعذَّب الحجةُ التي بعث اللَّه الرسل لقطعها، كما صرح به في قوله:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165].
وهذه الحجة بينها في سورة طه بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} الآية [طه/ 134]، وأشار لهادي سورة القصص بقوله:{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} إلى قوله: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [القصص/ 47].
وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض: هل هو
قادح في العلة أو تخصيص لها؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول، عقده في "مراقي السعود" بقوله -في تعداد القوادح في الدليل-:
منها وجود الوصف دون الحكم
…
سماه بالنقض وُعَاةُ العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح
…
بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روي عن مالك تخصيص
…
إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض
…
ومنتقى ذي الاختصار النقضُ
إن لم تكن منصوصة بظاهر
…
وليس فيما استنبطت بضائر
إن جا لفقد الشرط أو لما منع
…
والوفق في مثل العرايا قد وقع
والمحققون من أهل الأصول على أن عدم تأثير العلة إن كان لوجود مانع من التأثير أو انتفاء شرط التأثير فوجودها مع تخلف الحكم
(1)
لا ينقضها ولا يقدح فيها، وخروج بعض أفراد الحكم حينئذ تخصيص للعلة لا نقض لها، كالقتل عمدًا عدوانًا، فإنه علهَ القصاص إجماعًا، ولا يقدح في هذه العلة تخلف الحكم عنها في قتل الوالد لولده؛ لأن تأثيرها منع منه مانع هو الأبوة.
وأما إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانع أو انتفاء شرط، فإنه يكون نقضا لها وقدحًا فيها.
(1)
في الأصل المطبوع: من تخلف الحكم.
ولكن يَرِدُ على هذا التحقيق ما ذكره بعض العلماء من أن قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} [الحشر/ 4] علة منصوصة لقوله: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ} الآية [الحشر/ 3]، مع أن هذه العلة قد توجد ولا يوجد ما عُذبَ به بنو النضير من جلاء أو تعذيب دنيوي، وهو يؤيد كون النقض تخصيصًا مطلقًا لا قدحًا.
ويجاب عن هذا بأن بعض المحققين من الأصوليين قال: إن التحقيق المذكور محله في العلة المستنبطة دون المنصوصة، وهذه منصوصة، كما قدمنا ذلك في أبيات "مراقي السعود" في قوله:
. . . . . . . . . . . . .
…
وليس فيما استُنبطت بضائر
إن جا لِفَقْدِ الشرط أو لما منع
…
. . . . . . . . . . . .
هذا ملخص كلام العلماء وحججهم في المسألة.
والذي يظهر رجحانه بالدليل هو الجمع بين الأدلة؛ لأن الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف، كما أشار له في "المراقي" بقوله:
والجمع واجب متى ما أمكنا
…
. . . . . . . . . . . .
ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة، وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار؛ فمن اقتحمها دخل الجنة، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا، ومن امتنع عُذّبَ بالنار، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا؛ لأن اللَّه يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل.
وبهذا الجمع تتفق الأدلة، فيكون أهل الفترة معذورين، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضًا، ويحمل كل واحد من القولين على بعضٍ منهم عَلِمَ اللَّه مصيرهم، وأعلم به نبيه صلى الله عليه وسلم، فيزول التعارض.
والدليل على هذا الجمع: ورود الأخبار به عنه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} -بعد أن ساق الأحاديث الدالة على عذرهم وامتحانهم يوم القيامة، رادًّا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم- ما نصُّه: والجواب عما قال: إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح، كما نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوي بالصحيح والحسن، وإذا كان أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها. انتهى محل الغرض بلفظه.
ثم قال: إن هذا قال به جماعة من محققي العلماء والحفاظ والنقاد.
وما احتج به البعض لرد هذه الأحاديث من أن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وابتلاء، فهو مردود من وجهين:
الأول: أن ذلك لا تُرَدُّ به النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم، ولو سلمنا عموم ما قال من أن الآخرة ليست دار عمل، لكانت الأحاديث المذكورة مخصصة لذلك العموم.
الثاني: أنا لا نسلم انتفاء الامتحان في عرصات المحشر، بل نقول: دل القاطع عليه؛ لأن اللَّه تعالى صرح في سورة القلم بأنهم يدعون إلى السجود في قوله جلَّ وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الآية [القلم/ 42] ومعلومٌ أن أمرهم بالسجود تكليفٌ في عرصات المحشر.
وثبت في "الصحيح" أن المؤمنين يسجدون يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة، طبقًا واحدًا كما أراد السجود خرَّ لقفاه.
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها، أن اللَّه يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارًا، ويقول اللَّه تعالى:"يا ابن آدم، ما أغدرك! "، ثم يأذن له في دخول الجنة. ومعلوم أن تلك العهود والمواثيق تكليف في عرصات المحشر.
والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)} [الإسراء/ 94].
هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)} [الكهف/ 55].
ووجه الجمع أن الحصر في آية الإسراء حصرٌ في المانع العادي.
والحصر في آية الكهف [حصرٌ] في المانع الحقيقي.
وإيضاحه: هو ما ذكره ابن عبد السلام من أن معنى آية الكهف: وما منع الناس من أن يؤمنوا إلا أن اللَّه أراد أن تأتيهم سنة الأولين من أنواع الهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب قُبلًا في الآخرة، فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين، ولا شك أن إرادة اللَّه مانعة من وقوع ما ينافي مراده. فهذا حصر في المانع الحقيقي؛ لأن اللَّه هو المانع في الحقيقة.
ومعنى آية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} أنه ما منع الناس من الإيمان إلا استغرابهم أن اللَّه يبعث رسولًا من البشر، واستغرابهم لذلك ليس مانعًا حقيقيًا بل عاديًا يجوز تخلفه فيوجد الإيمان معه، بخلاف الأول فهو حقيقي لا يمكن تخلفه، ولا وجود الإيمان معه.
ذكر هذا الجمع صاحب "الإتقان". والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} الآية [الإسراء/ 97].
هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يبعثون يوم القيامة عميًا وبكمًا وصمًا.
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك، كقوله تعالى:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم/ 38]، وكقوله:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف/ 53]، وكقوله:{رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} الآية [السجدة/ 12].
والجواب عن هذا من أوجه:
الوجه الأول: هو ما استظهره أبو حيان، من كون المراد مما ذُكِرَ حقيقتُه، ويكون ذلك في مبدأ الأمر، ثم يرد اللَّه تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم، فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى اللَّه تعالى عنهم في غير موضع.
الوجه الثاني: أنهم لا يرون شيئًا يسرهم، ولا يسمعون كذلك، ولا ينطقون بحجة، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه.
وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وروي -أيضًا- عن الحسن، كما ذكره الألوسي في تفسيره.
فنُزِّلَ ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم، لعدم الانتفاع به، كما تقدم نظيره.
الوجه الثالث: أن اللَّه إذا قال لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون/ 108] وقع بهم ذاك العمى والصم والبكم، من شدة الكرب واليأس من الفرج. قال تعالى:{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)} [النمل/ 85].
وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدرة.