الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الشمس
قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس/ 8].
يدل على أن اللَّه هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب
وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته، كقوله تعالى:{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت/ 17]، وقوله تعالى:{اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة/ 175]، ونحو ذلك.
وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية.
أما القدرية، فضلوا بالتفريط؛ حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالًا، من غير تأثير لقدرة اللَّه فيه.
وأما الجبرية، فضلوا بالإفراط؛ حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلًا حتى يؤاخذ به.
وأما أهل السنة والجماعة، فلم يُفَرِّطُوا ولم يُفْرِطُوا، فأثبتوا للعبد أفعالًا اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن اللَّه خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة اللَّه تعالى، فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة اللَّه تعالى، مع أن العبد يفعل اختيارًا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما اللَّه فيه، فعلا اختياريًا يثاب عليه ويعاقب.
ولو فرضنا أن جبريًّا ناظر سنيًّا، فقال الجبري: حجتي لربي أن
أقول: إني لست مستقلًّا بعمل، وأني لا بدَّ أن تنفذ فيَّ مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي، فأنا مجبور، فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟
فإن السني يقول له: كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعًا تسمع به، وبصرًا تبصر به، وعقلًا تعقل به، وأرسل لك رسولًا، وجعل لك اختيارًا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض، إن أعطاه فَفَضْلٌ، وان منعه فَعَدْلٌ.
كما أشار له تعالى بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام/ 149]، يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق، فمن أُعْطِيَه ففَضْلٌ، ومن مُنِعَه فعَدْلٌ.
ولما تناظر أبو إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي، قال عبد الجبار: سبحان من تنزه عن الفحشاء، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة اللَّه؛ لأن اللَّه أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم.
فقال أبو إسحاق: كلمة حق أُريد بها باطل.
ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟
فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرًا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟
فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى عليَّ بالردى، أتراه أحسن إليَّ أم أساء؟
فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكًا لك فقد أساء، وإن كان له فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل.
فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: واللَّه ما لهذا جواب.
وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له: ادع اللَّه لي أن يرد عليَّ حمارة سرقت مني. فقال: اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه. فقال له الأعرابي: يا هذا، كف عني دعائك الخبيث؛ إن كانت سرقت ولم يُرِدْ سرقتها فقد يريد ردها ولا تُرَدُّ.
وقد رفع اللَّه إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان/ 30]، فأثبت للعبد مشيئة، وصرح بأنه لا مشيئة العبد إلا بمشيئة اللَّه -جل وعلا-، فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا، وقولِه
(1)
: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام/ 149].
وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} : أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، فلا إشكال فى الآية. وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء.
والعلم عند اللَّه تعالى.
(1)
السياق: "وقد رفع اللَّه إشكال هذه المسألة بقوله تعالى. . . وقوله. . . ".