الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأنعام
قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ. . .} الآية [الأنعام/ 62].
هذه الآية الكريمة تدل على أن اللَّه مولى الكافرين. ونظيرها قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)} [يونس/ 30].
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك، وهي قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)} [محمد/ 11].
والجواب عن هذا: أن معنى كونه مولى الكافرين: أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء. ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين، أي: ولاية المحبة والتوفيق والنصر. والعلم عند اللَّه تعالى.
وأما على قول من قال: إن الضمير في قوله: {رُدُّوا} وقوله: {مَوْلَاهُمُ} عائد إلى الملائكة، فلا إشكال في الآية أصلًا. ولكن الأول أظهر.
قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)} [الأنعام/ 69].
هذه الآية الكريمة يفهم منها أنه لا إثم على من جالس الخائضين في آيات اللَّه بالاستهزاء والتكذيب.
وقد جاءت آية تدل على أن من جالسهم كان مثلهم في الإثم، وهي قوله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا} إلى قوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء/ 140].
اعلم أولًا أن في معنى قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وجهين للعلماء:
الأول: أن المعنى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات اللَّه من حساب الكفار من شيء.
وعلى هذا الوجه فلا إشكال في الآية أصلًا.
الوجه الثاني: أن معنى الآية: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} ما يقع من الكفار من الخوض فى آيات اللَّه في مجالستهم لهم من شيء.
وعلى هذا القول فهذا الترخيص في مجالسة الكفار للمتقين من المؤمنين كان في أول الإسلام للضرورة، ثم نسخ بقوله تعالى:{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} .
وممن قال بالنسخ فيه: مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم، كما نقله عنهم ابن كثير.
فظهر أن لا إشكال على كلا القولين.
ومعنى قوله تعالى: {وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)} على الوجه الأول: أنهم إذا اجتنبوا مجالسيهم سلموا من الإثم، ولكن الأمر باتقاء مجالستهم عند الخوض في الآيات لا يسقط وجوب تذكيرهم ووعظهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لعلهم
يتقون اللَّه بسبب ذلك.
وعلى الوجه الثاني فالمعنى: إن الترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير؛ لعلهم يتقون الخوض في آيات اللَّه بالباطل إذا وقعت منكم الذكرى لهم.
وأما جعل الضمير للمتقين فلا يخفى بعده. والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام/ 92].
يتوهم منه الجاهل أن إنذاره صلى الله عليه وسلم مخصوص بأم القرى وما يقرب منها دون الأقطار النائية عنها؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} ، ونظيره قوله تعالى في سورة الشورى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ} الآية [الشورى/ 7].
وقد جاءت آيات أخر تصرح بعموم إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الناس، كقوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} [الفرقان/ 1]، وقوله تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام/ 19]، وقوله:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف/ 158]، وقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية [سبأ/ 28].
والجواب من وجهين:
الأول: أن المراد بقوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} شامل لجميع الأرض،
كما رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليمًا جدليًا أن قوله: {وَمَنْ حَوْلَهَا} لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة -حرسها اللَّه-، كجزيرة العرب مثلًا؛ فإن الآيات الأخر نصت على العموم، كقوله:{لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان/ 1].
وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه عند عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور، وقد قدمنا ذلك واضحًا بأدلته في سورة المائدة.
فالآية على هذا القول كقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء/ 214]، فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم، كما هو واضح. والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام/ 99]، وقوله أيضًا:{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام/ 141].
أثبت في هاتين الآيتين التشابه للزيتون والرمان، ونفاه عنهما.
والجواب ما قاله قتادة رحمه الله من أن المعنى: متشابهًا ورقها مختلفًا طعمها. واللَّه تعالى أعلم.
قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الآية [الأنعام/ 103].
هذه الآية الكريمة توهم أن اللَّه تعالى لا يرى بالأبصار.
وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه يرى بالأبصار، كقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة/ 22 - 23]، وكقوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس/ 26]، فالحسنى: الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه اللَّه الكريم.
وكذلك قوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} [ق/ 35] على أحد القولين، وكقوله تعالى في الكفار:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين/ 15] يفهم من دليل خطابه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم.
والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن المعنى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام/ 103] أي: في الدنيا. فلا ينافي الرؤية في الآخرة.
الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة. وهذا قريب في المعنى من الأول.
الثالث -وهو الحق-: أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكُنْهِ، أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه، بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة، واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك.
وحاصل هذا الجواب: أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية؛ لأن الإدراك المراد به الإحاطة، والعرب تقول: رأيت الشيء وما أدركته. فمعنى {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} : لا تحيط به، كما أنه تعالى يَعْلَمُه
الخلق ولا يحيطون به علمًا.
وقد اتفق العقلاء على أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية، مع أن اللَّه تعالى لا يُدْرِكُ كُنْهَه على الحقيقة أحد من الخلق.
والدليل على صحة هذا الوجه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعًا: "حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا، ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقًا.
والحاصل: أن رؤيته تعالى بالأبصار جائزة عقلًا في الدنيا والآخرة؛ لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلًا، ويدل لجوازها عقلًا قول موسى:{رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف/ 143]؛ لأنه لا يجهل الجائز في حق اللَّه تعالى عقلًا.
وأما في الشرع: فهي جائزة وواقعة في الآخرة، ممتنعة في الدنيا. ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه مسلم وابن خزيمة مرفوعًا:"إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا". والأحاديث برؤية المؤمنين له يوم القيامة متواترة. والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)} [الأنعام/ 106].
لا يعارض آيات السيف؛ لأنها ناسخة له.
قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 128].
هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باقٍ بقاء لا انقطاع له أبدًا. ونظيرها قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود/ 106 - 107]، وقوله تعالى:{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ/ 23].
وقد جاءت آيات تدل على أن عذابهم لا انقطاع له، كقوله:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء/ 169].
والجواب عن هذا من أوجه:
أحدها: أن قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} معناه: إلا من شاء اللَّه عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها، وهم أهل الكبائر من الموحدين.
ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك وأبي سنان وخالد بن معدان. واختاره ابن جرير. وغاية ما في هذا القول إطلاق "ما" وإرادة "من"، ونظيره في القرآن:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء/ 3].
الثاني: أن المدة التي استثناها اللَّه هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم. قاله ابن جرير أيضًا.
الوجه الثالث: أن قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فيه إجمال، وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبدًا. وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له، والظهور من المرجحات، فالظاهر مقدم على المجمل، كما تقرر في الأصول.
ومنها: أن "إلَّا" في سورة هود بمعنى: سوى ما شاء اللَّه من الزيادة على مدة دوام السموات والأرض.
وقال بعض العلماء: إن الاستثناء على ظاهره، وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد.
وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون أحقابا.
وعن ابن عباسٍ أنها تأكلهم بأمر اللَّه.
قال مقيده -عفا اللَّه عنه-: الذي يظهر لي -واللَّه تعالى أعلم- أن هذه الدار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين، كما جزم به البغوي في تفسيره؛ لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن.
أما ما يقول كثير من العلماء من الصحابة ومَنْ بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته.
وإيضاحه: أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم
الصحيح، وغيرها راجع إليها:
الأولى: أن يقال بفناء النار، وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها.
الثانية: أن يقال: إنهم ماتوا، وهي باقية.
الثالثة: أن يقال: إنهم أخرجوا منها، وهي باقية.
الرابعة: أن يقال: إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخفف عليهم.
وذهابُ العذاب رأسًا، واستحالته لذةً، لم نذكرهما من الأقسام؛ لأنَّا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب، ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذةً، فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما.
وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه.
أما فناؤها: فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء/ 97].
وقد قال تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار.
وبيَّن عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود/ 108]، وبقوله:{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)} [ص/ 54]، وقوله:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل/ 96].
وبين عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء/ 97]، فمن يقول: إن للنار خبوة ليس
بعدها زيادة سعير، رُدَّ عليه بهذه الآية الكريمة. ومعلوم أن "كلما" تقتضي التكرار بتكرار الفعل الذي بعدها، ونظيرها قوله تعالى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} الآية [النساء/ 56].
وأما موتهم: فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر/ 36]، وقوله:{لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)} [طه/ 74]، وقوله:{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم/ 17]، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أفلَح، فيذبح، وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت".
وأما إخراجهم منها: فنص تعالى على عدمه بقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة/ 167]، وبقوله:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة/ 20]، وبقوله:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} [المائدة/ 37].
وأما تخفيف العذاب عنهم: فنص تعالى على عدمه بقوله: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر/ 36]، وقوله:{فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} [النبأ/ 30]، وقوله:{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف/ 75]، وقوله:{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} [الفرقان/ 65]، وقوله:{فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} [الفرقان/ 77]، وقوله تعالى:{فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)} [النحل/ 85]، وقوله:{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} [المائدة/ 37].
ولا يخفى أن قوله: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} وقوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} كلاهما فعل في سياق النفي، فحرف النفي ينفي المصدر الكامن في الفعل، فهو في معنى: لا تخفيف للعذاب عنهم، ولا تفتير له. والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات، بل يلزمه ذهابهما رأسًا، كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله:{فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} ، وقوله {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)} ، وإقامتِه المنصوصِ عليها بقوله:{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} .
فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء/ 97].
وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فُرِضَ أن اللَّه أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها؛ لأنه وعيد وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح، وأن اللَّه تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده، ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده؛ وأن الشاعر قال:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
…
لمخلفُ إيعادي ومنجز موعدي
فالظاهر عدم صحته؛ لأمرين:
الأول: أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر؛ لأن الخبر بذلك وعيد، وإخلافه على هذا القول لا بأس به.
الثاني: أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذَّب رسله حيث قال: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)} [ق/ 14].
وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل، كقولهم: سها فسجد، أي: سجد لعلة سهوه. وسرق فقطعت يده، أي: لعلة سرقته.
فقوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)} أي: وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل. ونظيرها قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)} [ص/ 14].
ومن الأدلة الصريحة في ذلك: تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار، حيث قال:{قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق/ 28 - 29].
ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ إلى قوله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان/ 33]، وقوله:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)} [الطور/ 7].
فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيدُ عصاة المؤمنين؛ لأن اللَّه بين ذلك بقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء/ 48].
فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام، تعيَّن القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدًا بلا انقطاع ولا تخفيف، بالتقسيم والسبر الصحيح.
ولا غرابة في ذلك؛ لأن خبثهم الطبيعي دائم لا يزول، فكان جزاؤهم دائمًا لا يزول.
والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ
فقوله: {خَيْرًا} نكرة في سياق الشرط، فهي تعم، فلو كان فيهم خيرًا ما في وقتٍ ما لعلمه اللَّه.
وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام/ 28]، وعَوْدُهم بعد معاينة العذاب لا يستغرب بعده عَوْدُهم بعد مباشرة العذاب؛ لأن رؤية العذاب عيانًا كالوقوع فيه، لا سيما وقد قال تعالى:{فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} [ق/ 22]، وقال:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الآية [مريم/ 38].
وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص، كما أشار تعالى بقوله:{وَلَا يُزَكِّيهِمْ} [البقرة/ 174]، وبقوله:{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} [آل عمران/ 178]. والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام/ 148].
هذا الكلام الذي قالوه -بالنظر إلى ذاته- كلامٌ صدقٌ لا شك فيه؛ لأن اللَّه لو شاء لم يشركوا به شيئًا، ولم يحرموا شيئًا مما لم يحرمه كالبحائر والسوائب.
وقد قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام/ 107]، وقال:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة/ 13]، وقال:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام/ 35].
وإذا كان هذا الكلام الذي قاله الكفار حقًّا فما وجه تكذيبه تعالى لهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} [الأنعام/ 148]؟
ونظير هذا الإشكال بعينه في سورة الزخرف في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} [الزخرف/ 20].
والجواب: أن هذا الكلام الذي قاله الكفار كلام حق أريد به باطل، فتكذيب اللَّه لهم واقع على باطلهم الذي قصدوه بهذا الكلام الحق.
وإيضاحه: أن مرادهم: أنهم لما كان كفرهم وعصيانهم بمشيئة اللَّه، وأنه لو شاء لمنعهم من ذلك، فعدم منعه لهم دليل على رضاه بفعلهم. فكذَّبهم اللَّه في ذلك مبينًا أنه لا يرضى بكفرهم، كما نص عليه بقوله:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر/ 7]، فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية يلزمها الرضى، وهو زعم باطل، بل اللَّه يريد بإرادته الكونية ما لا يرضاه، بدليل قوله:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة/ 7] مع قوله: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ، والذي يلازم الرضى حقًّا إنما هو الإرادة الشرعية. والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية [الأنعام/ 151].
هذه الآية تدل على أن هذا الذي يتلوه عليهم حرمه ربهم عليهم، فيوهم أن معنى قوله:{أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أن
الإحسان بالوالدين وعدم الشرك حرامٌ، والواقع خلاف ذلك، كما هو ضروري.
وفي هذه الآية الكريمة كلام كثير للعلماء، وبحوث ومناقشات كثيرة لا تتسع هذه العجالة لاستيعابها.
منها: أنها صلة، كما يأتي.
ومنها: أنها بمعنى: أبينه لكلم لئلا تشركوا، ومن أطاع الشيطان مستحلاًّ فهو مشرك، بدليل قوله:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام/ 121].
ومنها: أن الكلام تَمَّ عند قوله: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ، وأن قوله:{عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} اسم فعل يتعلق بما بعده على أنه معموله.
ومنها غير ذلك.
وأقرب تلك الوجوه عندنا هو ما دل عليه القرآن؛ لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن، وذلك هو أن قوله تعالى:{أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} مضمَّن معنى: ما وصاكم ربكم به تركًا وفعلًا.
وإنما قلنا: إن القرآن دل على هذا؛ لأن اللَّه رفع هذا الإشكال وبين مراده بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} ، فيكون المعنى وصاكم ألا تشركوا. ونظيره من كلام العرب قول الراجز:
حَجَّ وأوصى بسليمى الأَعْبُدَا
…
أن لا ترى ولا تُكَلَّمْ أحدا
ومن أقرب الوجوه بعد هذا وجهان:
الأول: أن المعنى: يبينه لكم لئلا تشركوا.
والثاني: أن "أنْ" من قوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ} مفسرة للتحريم. والقدحُ فيه بأن قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام/ 153] معطوف عليه، وعطفه عليه ينافي التفسير، مدفوعٌ بعدم تعيَّن العطف؛ لاحتمال حذف حرف الجر، فيكون المعنى: ولأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه. كما ذهب إليه بعضهم.
ولكن القول الأول هو الصحيح -إن شاء اللَّه تعالى-، وعليه فلا إشكال في الآية أصلًا.