الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأحقاف
قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} الآية [الأحقاف/ 9].
هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم مصير أمره.
وقد جاءت آية أخرى تدل أنه عالم بأن مصيره إلى الخير، وهي قوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح/ 2]، فإن قوله:{وَمَا تَأَخَّرَ} تنصيص على حسن العاقبة والخاتمة.
والجواب ظاهر، وهو أن اللَّه تعالى عَلَّمه ذلك بعد أن كان لا يعلمه.
ويستأنس له بقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} الآية [النساء/ 113]، وقوله:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} الآية [الشورى/ 52]، وقوله:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى/ 7]، وقوله:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية [القصص/ 86].
وهذا الجواب هو معنى قول ابن عباس -وهو مراد عكرمة والحسن وقتادة- بأنها منسوخة بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ} الآية [الفتح/ 2].
ويدل له: أن الأحقاف مكية، وسورة الفتح نزلت عام ست في رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية.
وأجاب بعض العلماء بأن المراد: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من الحوادث والوقائع. وعليه فلا إشكال.
والعلم عند اللَّه تعالى.
قوله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} [الأحقاف/ 31].
هذه الآية يفهم من ظاهرها أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه، وإجارته من عذاب أليم، لا دخوله الجنة.
وقد تمسك جماعة من العلماء -منهم الأمام أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى- بظاهر هذه الآية فقالوا: إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة.
مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة، وهي قوله تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن/ 46]؛ لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} [الرحمن/ 47].
ويستأنس لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74)} [الرحمن/ 74]؛ لأنه يشير إلى أن في الجنة جِنًّا يطمثون النساء كالإنس.
والجواب عن هذا: أن آية الأحفاف نُصَّ فيها على الغفران والإجارة من العذاب، ولم يُتَعَرَّضْ فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات، وآية الرحمن نُصَّ فيها على دخولهم الجنة؛ لأنه تعالى قال
فيها: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} .
وقد تقرر في الأصول: أن الموصولات من صيغ العموم، فقوله:{وَلِمَنْ خَافَ} يعم كل خائف مقام ربه.
ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معًا بقوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} ، فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه، أي نعمه على الإنس والجن.
فلا تعارض بين الآيتين؛ لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى.
ولو سلَّمنا أن قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} يفهم منه عدم دخولهم الجنة؛ فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم، وقولُه:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق، والمنطوق مقدم على المفهوم، كما تقرر في الأصول.
ولا يخفى أنَّا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدَّعى، وجدناه معدومًا من أصله؛ للاجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية: إما أن يكون مفهوم موافقة، أو مخالفة، ولا ثالث.
ولا يَدْخُل هذا المفهوم المدَّعى في شيء من أقسام المفهومَيْن.
أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه، فواضح.
وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة؛ فلأن عدم
دخوله في مفهوم الحصر أو العلة أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضحٌ. فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب، وليس داخلًا في واحد منهما؛ فظهر عدم دخوله فيه أصلًا.
أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط؛ فلأن قوله: {يَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب، وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر لا بالجملة قبله، كما قيل به.
وعلى الصحيح -الذي هو مذهب الجمهور- فتقرير المعنى: أجيبوا داعي اللَّه وآمنوا به، إن تفعلوا ذلك يغفر لكم. فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر.
والجواب عن هذا: أن مفهوم الشرط عند القائل به، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته، فمفهوم: إن تجيبوا داعي اللَّه وتؤمنوا به يغفر لكم، أنهم إن لم يجيبوا داعي اللَّه ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم. وهو كذلك.
أما جزاء الشرط فلا مفهوم له؛ لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة، فيذكر بعضها جزاء له، فلا يدل على نفي غيره. كما لو قلت لشخص -مثلًا-: إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت. فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع؛ لأن قطع اليد مرتب -أيضًا- على السرقة كالغرم.
فكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي اللَّه والإيمان به، فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض، ثم بيّن في موضع آخر. وهذا لا إشكال فيه.
وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب؛ فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو: ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه، أعني المسند إليه، سواء كان لقبًا أو كنية أو اسمًا أو اسم جنس أو غير ذلك. وقد أوضحنا اللقب غايةً في المائدة.
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب: أن الغفران والإجارة من العذاب، المدَّعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما، وأن تخصيصهما بالذِّكْر يدل على نفي غيرهما في الآية = مسندان لا مسند إليهما؛ بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل، ولا يسند إلى الفعل إجماعًا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية.
ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندًا إليه؛ لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة، كما عللوا به مفهوم الصفة.
وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذُكِرَ لِيُمْكِنَ الحكمُ لا لتخصيصه بالحكم، إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه.
ومما يوضح ذلك: أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند
القائل به، إنما هو فيم المسند إليه لا في المسند؛ لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض، فيختص الحكم بالمذكور.
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد ولا الأوصاف أصلًا، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية.
فلو حكمت -مثلًا- على الإنسان بأنه حيوان، فإن المسند إليه -الذي هو الإنسان في هذا المثال- يقصد به جميع أفراده؛ لأن كل فرد منها حيوان، بخلاف المسند -الذي هو الحيوان في هذا المثال- فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد؛ لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان، كالفرس مثلًا.
والحكم بالمباين على المباين باطلٌ إذا كان إيجابيًّا باتفاق العقلاء.
وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد، باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية، أو الذهني إن كانت حقيقية.
وأما المحمول من حيث هو، فلا تراعى فيه الأفراد البتة، وإنما يراعى فيه مطلق الماهية.
ولو سلمنا تسليمًا جدليًا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب، فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به، وربما
كان اعتباره كفرًا؛ كما لو اعتبر معتبرٌ مفهوم اللقب في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح/ 29] فقال: يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول اللَّه. فهذا كفر بإجماع المسلمين.
فالتحقيق: أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعًا ولا لغة ولا عقلًا، سواءً كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع، أو غير ذلك.
فقولك: جاء زيد، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو. وقولك: رأيت أسدًا، لا يفهم منه عدم رؤيتك غير الأسد.
والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر، واسم العين فلا يعتبر، لا يظهر.
فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية، ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية، ولا بقول بعض الحنابلة، باعتبار مفهوم اللقب؛ لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به، إلا أنه يقول: لو لم يكن اللقب مختصًا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة، كما علل به مفهوم الصفة = لأن الجمهور يقولون: ذُكِرَ اللقبُ ليسنَد إليه. وهو واضح لا إشكال فيه.
وأشار صاحب "مراقي السعود" إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي، وأنه أضعف المفاهيم، بقوله:
أضعفها اللقب وهو ما أُبِي
…
مِنْ دونه نظمُ الكلام العربي
وحاصل فقه هذه المسألة:
* أن الجن مكلفون على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
* وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين، وهو صريح قوله تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة/ 13]، وقوله تعالى:{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)} [الشعراء/ 94 - 95]، وقوله تعالى:{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف/ 38]، إلى غير ذلك من الآيات.
* وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة، ومنشأ الخلاف: الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين، والظاهر دخولهم الجنة كما بينَّا.
والعلم عند اللَّه تعالى.